د. سعد ناجي جواد*
لا تتسرعوا في شطب المقاومة من المعادلة.. ولا تستهينوا بقدراتها على الأمد الطويل.. ومن يكسب معركة لا يعني انه كسب الحرب
ابتداءا يقتضي التنبيه إلى أن ما اكتبه هو إلى اولئك الذين يؤمنون بان المقاومة هي السبيل الوحيد لاسترداد الحقوق وانهاء الاحتلال، ولا اكتب لأولئك الذين يعتقدون ان الاستسلام والرضا بالأوضاع التي تفرضها القوى الاستعمارية الكبرى هو الحل الأسلم، ولا لأولئك المتشفين بما جرى، لان بين تفكيرهم وتفكيري مسافة سنة ضوئية. اقول رغم الألم الذي يعتصر القلب بسبب الأعداد الكبيرة من الضحايا التي تتساقط نتيجة اجرام جيش الاحتلال والته الحربية المجرمة والتعطش السادي للدماء لدى حكومة اليمين الإسرائيلي المتطرف، ورغم النجاح في استهداف قيادات المقاومة اللبنانية وعلى راسها الشهيد السيد حسن نصر الله، فان القفز إلى استنتاجات محبطة ويائسة ومتخاذلة تبقى، في اعتقادي المتواضع، عملية متسرعة جدا. نعم الضربات كانت مؤلمة بشكل كبير، بل ان قسما منها كانت قاصمة للظهر، ولكن هذه حرب، وفي مجملها مجموعة معارك وقد يتمكن العدو من تحقيق مكاسب في واحدة او اثنين خلالها، ولكن تبقى العبرة بالخواتيم. وهنا ارجو ان لا يفهم من كلامي باني احاول تخدير مشاعر القراء الذين صدمتهم احداث الايام القليلة الماضية، لاني اشعر نفس شعورهم، الامر المختلف هنا هو اني احاول ان انظر إلى الامام وأناقش المستقبل.
فرحة الصهاينة الغامرة ومعهم من يساندهم والتي جعلتهم يتحدثون بعنجهية اكبر عن ما يريدون ان يفعلوه في المنطقة، (وكل أحاديثهم تريد ان تعطي الانطباع بان المقاومة انتهت وان فلسطين والقضية الفلسطينية قد طويت إلى الأبد لصالح الاحتلال الاسرائيلي) تبقى آنية، فهذه القضية ظلت وما تزال حية رغم كل المجازر التي ارتكبها الصهاينة في فلسطين وحولها منذ اكثر سبعة عقود. وهناك من يتبجح بان عمليات التوسع والاحتلال ستزداد لتشمل جنوب لبنان وجزء من سيناء، وقسم منهم تحدث عن احتلال اراضي عربية اخرى لتحقيق حلم (من النيل إلى الفرات). احد الصحفيين او الكتاب الإسرائيليين قال ان العملية ستشمل مصر والاردن وسوريا والعراق، واضاف في فيديو انتشر كثيرا ان جزءا من العراق هو أصلا بيدهم مشيرا إلى اقليم كردستان العراق، وهذا ليس كلامي بل كلامه، لاني اعتقد بل واؤمن بان جزءا مهما من شعبنا الكردي في العراق لا يزال محب لوطنه ولتاريخه ولدينه، ولكن من قال هذا الكلام بالتأكيد يستند على وقائع مؤلمة وروابط وثيقة بين احزاب كردية والموساد، (وآخر الوقائع كانت ما قامت به سيدة من الوفد العراقي في الامم المتحدة التي ظلت جالسة خلف اسم العراق بعد ان انسحب باقي الوفد من القاعة اثناء إلقاء رئيس وزراء الكيان الصهيوني كلمته في الجمعية العامة).
ورغم هذا الجو المحبط استطيع ان اقول وبثقة ان نتنياهو سيكتشف قريبا ان اغتيال السيد حسن نصر الله لن يغير الشرق الاوسط بالطريقة التي يحلم بها. وهذا درس كان عليه ان يتعلمه من تجارب سابقة، وعلى مدى عقود كثيرة من ممارسة عمليات الاغتيال لقادة المقاومة الفلسطينية واللبنانية. وان نتيجة الجريمة التي اقدم عليها هي انضمام السيد حسن نصر الله إلى قائمة طويلة من الشهداء الذين سرعان ما تم استبدالهم بآخرين اظهروا في احيان كثيرة قدرات تفوق قدرات من سبقهم، واصلا ان السيد حسن كان نموذجا على ذلك عندما حل محل السيد عباس الموسوي، وسيتم اغتيال اخرين غيره. نعم أظهرت عمليات القتل هذه تفوق إسرائيلي لا يستهان به في مجال المراقبة والاستخبارات والقدرات العسكرية (التي يعود الفضل فيها إلى الولايات المتحدة بالذات ودول اوربية اخرى والى عدد كبير من العملاء المحليين)، لكن هذه الانتكاسة الطارئة لا تمثل سوى نجاح آني ولا يمكن ان تنهي او تقضي على التهديدات التي تواجه دولة الاحتلال، علما بان هذه الاغتيالات لم تخلق او تعزز لحد اللحظة الشعور بالأمن بالنسب للإسرائيليين. والاهم ان كل الاغتيالات لم تُفقِد التنظيم القدرة على ايجاد البدائل والرد.
ما يجب ان يعيد بعض الأمل إلى نفوسنا، وهو ايضا ما يحب ان يؤخذ بعين الاعتبار، وقبل القفز إلى استنتاجات خاطئة، ان مقاتلي المقاومة اللبنانية لم يرفعوا الراية البيضاء، ولم يظهر ما يدلل على انهم مستعدون للاستسلام او التراجع. وإذا ما أضفنا إلى ذلك حقيقة ان المقاومة الفلسطينية في غزة، وفي الضفة الغربية، ما زالت عصية على كل محاولات إنهائها، وان صواريخ المقاومة اللبنانية ما تزال تمطر الأراضي الفلسطينية المحتلة، وان المقاومة الفلسطينية ما زالت تنصب الكمائن لجنود ودبابات الاحتلال، فان كل هذه مؤشرات على ان الشعور الزائف او الأني بالانتصار إلى زوال ولو بعد حين. وربما بصورة اسرع مما هو متوقع، خاصة إذا ما اقدمت إسرائيل على اجتياح بري لجنوب لبنان. كذلك هنالك اشارات على ان المقاومة استطاعت ان تستوعب جزءا مهما من الصدمة وهي بصدد ترتيب هيكلها التنظيمي.
ويبقى الخوف الاكبر من امرين، الاول ان تستغل اطراف عربية الوضع القائم لكي تنقلب على المقاومة وتذهب في طريق توسيع عمليات التطبيع، وخير دليل على ذلك البيانين الذين اصدرهما رئيس حكومة تصريف الأعمال اللبنانية والذي قال فيهما انه من الضروري تطبيق القرار 1701 والذي ينص على الانسحاب خلف الليطاني، وهو المطلب الذي عجزت إسرائيل عن تحقيقه لحد الان. وان يأتي هذا الكلام بهذه السرعة وبهذه الصراحة من اكبر مسؤول في الدولة يعني ان اسرائيل نجحت مرة اخرى في إرعاب الحكومات. والثاني موجة القنوات الفضائية الصفراء والكثيرة جدا التي تحاول بث روح الإحباط بين الناس.
واسمح لنفسي ان اكرر واقول ان كل الشهداء الذين سقطوا منذ بداية طوفان الأقصى ولحد الان انضموا إلى قائمة طويلة من قادة منظمة التحرير الفلسطينية، وحماس، والجهاد الإسلامي وكل حركات المقاومة الأخرى، وحزب الله، ومجاهدو الضفة الغربية واليمن والعراق وسوريا والأردن ومصر ومجموعة كبيرة من اشخاص من كل شرائح المجتمع العربي استهدفتهم إسرائيل، بما في ذلك العلماء النوويون والصحفيون والأكاديميون، ومع ذلك ظلت الحقيقة الثابتة تقول ان كل هذه الجرائم لم تُنهي القضية الفلسطينية ولم ينتج عنها شطب المقاومة. بل على العكس ان هذه الجرائم ما زالت تنتج اجيالا جديدة من المقاومين اكثر اصرارا على محاربة المشروع الصهيوني.
ربما، او من المؤكد ان المقاومة اللبنانية ارتكبت اخطاء كثيرة في العمل والممارسة، كان اخطرها تشعب نشاطاتها إلى جوانب بعيدة عن طبيعة عمل اية مقاومة، (وهذا ليس الوقت المناسب لمناقشة هذه الامور)، ولكنها بالتأكيد لم تخطيء في اختيار النهج المقاوم للاحتلال، ولم تخطيء في الوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني ودفعت دماء زكية كثيرة في هذا المجال.
ولنتذكر دائما، وخاصة في هذا الوقت العصيب، ان ما تحاول إسرائيل ومن يقف خلفها ان تزرعه فينا في هذه الايام هو الشعور بالإحباط والتسليم بان لا فائدة من الوقوف بوجه مخططاتها التوسعية، وان عملية القبول باسرائيل عربيا هي الحل الامثل، وإذا ما نجحت في ذلك، او في القضاء على المقاومة لا سامح الله فانها ستتمدد في كل المنطقة وستنجح في فرض نموذج الشرق الأوسط الجديد الذي تقف هي على رأسه وتتحكم فيه.
اما إسرائيل فعليها ان تتذكر انها إذا ما اصرت على نهج استخدام القوة المفرطة وفرض ما عرف بالتطبيع وسط سكوت الدول الاقليمية، فان هذا سيزيد من التطرف الذي عانت منه المنطقة والعالم بصورة غير مسبوقة، وان من سيكتوي بذلك هي اولا ومعها دول العالم والإقليم التي وقفت إلى جانبها وساندتها سرا او علنا. وان تتذكر ان كل محاولات (التطبيع) لم تنجح في تغيير الشعور الشعبي العربي الرافض لها. والأخطر فان ارتدادات اي نكسة جديدة للمقاومة ستنعكس (تهديدا) على الدول والحكومات الاقليمية التي وقفت متفرجة على ما يجري. واخيراً وليس آخرا فانه في الاحداث الكبيرة والمصيرية لا تقاس الامور بالانتكاسات مهما كبرت وانما بالقدرة على تجاوزها وببقاء روح الصمود والتصدي والثبات على المبادي.
اما المقاومة فما عليها سوى ان تتأسى بما جاء في كتاب الله الكريم حول أمور مشابهة مرت على نبينا محمد عليه افضل الصلاة والسلام:
بسم الله الرحمن الرحيم
الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ • فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ • إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ •
صدق الله العظيم
*كاتب واكاديمي عراقي
895 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع