بقلم احمد فخري
قصة (غريب)-الجزء الاول
بغداد / العراق
جلس احمد ذو 17 ربيعاً في غرفة الاستقبال ينتظر نزول والده من الطابق العلوي. وما هي الى دقائق حتى صار واقفاً امامه يحدق بعينه ويسأله،
الوالد : ما الامر يا حمودي ما هي مشكلتك، لماذا لم تذهب مع زملائك بالرحلة بعد؟
احمد : في الحقيقة والواقع... كنت امل يا ابي ان... اقصد اتمنى منك لو انك...
الوالد : اجل، اجل فهمت قصدك. انت تريد ان تتسلف سيارتي من جديد اليس كذلك؟
احمد : اجل يا حبيبي يا اذكى بابا في الدنيا.
الوالد : نور عيني حمادة، المسألة ليست مسألة ذكاء. بالامس سمحت لك ان تأخذ السيارة ثم ارجعتها بعد اربع ساعات، خالية من الوقود. واليوم تريد ان تأخذها ثانيةً؟
احمد : وما الضير في ذلك؟ الست انا ابنك الوسيم الذي تحبه؟
قالها وهو يسرح شاربه الرفيع بمشط صغير اخرجه من جيبه.
الوالد : انا لم اقل انك لست ابني، لكنك لحد الآن لا تملك رخصة قيادة وإذا أمسكتْ بك المرور فستكون في ورطة كبيرة. لماذا لا تنتظر اربع شهور اخرى حتى تصبح 18 فتتمكن من خوض الامتحان وحمل الرخصة. وقتها سامكنك من اخذ سيارتي وقتما تشاء. بالحقيقة انا اعدك بسيارة جديدة اكتبها باسمك فور حصولك على الرخصة. تذكر ان الرجولة ليست بالشارب وحسب بل بالمواقف الحازمة واحترام الوعود والصدق في التعامل.
احمد : ارجوك يا بابا، لقد اخبرت اصدقائي بانك ستعطيني سيارتك لنقوم برحلة قصيرة. لماذا تريدني ان ابدو صغيراً امامهم. لماذا وعدتني إذاً؟
الوالد : انا لم اعدك بشيء. انت اختلقت ذلك الوعد لانك تعرف جيداً انني احبك ولا استطيع ان ارفض لك طلباً. انت تحاول التلاعب بمشاعري وتستغل حبي اليك.
احمد : ارجوك يا ابي اعطني سيارتك لآخر مرة. اقسم بالله ان الرحلة ستكون قصيرة. انها 4 ساعات. لا بل هي 3 ساعات فقط، ارجوك يا ابي ارجوك.
الوالد : اين ستكون وجهتكم؟
احمد : لا نعلم بعد لكنه بالتأكيد مكان قريب لا تقلق.
الوالد : دعني اسألك هذا السؤال، لماذا توفر انت السيارة دائماً في رحلاتك مع اصدقائك؟ لماذا لا يقوم اصدقائك باستعارة سيارات آبائهم؟
احمد : حبيبي بابا، اصدقائي فقراء وابائهم لا يملكون سيارات.
الوالد : حسناً ولكن اعلم بانها آخر مرة، وسوف لن اكررها حتى تتحصل على رخصة القيادة. مفهوم؟
احمد : مفهوم يا احسن واطيب اب في الدنيا. انت لست اب وحسب، بل انك (سڤن اب).
الوالد : هاهاها، دمك خفيف. ساعطيك هذا المبلغ ايضاً كي تملأها بالوقود وتتصرف بباقي المبلغ كما يحلو لك.
احمد : لقد غمرتني بعطفك وكرمك وحنانك اللا محدود الرهيب يا فالح الورد فأنت انسان...
قاطعه ابوه وقال،
الوالد : كفاك تملقاً فسوف امنحك ما تريد. لماذا كل هذا التزويق في الكلام؟
احمد : انت تستحق الثناء لاني احبك كثيراً يا استاذ فالح. يا احلى واحن بابا بالدنيا.
فالح : وانا كذلك حبيبي. حاول ان تكون حذراً ولا تسرع في القيادة، مفهوم؟
احمد : مفهوم يا ابو قيس الورد.
استلم رزمة المال من اباه ليضعها في جيبه ويخرج بها الى المراب فيركب السيارة وينطلق بها باقصى سرعة ممكنة كي يبتعد عن البيت قبل ان يغير اباه رأيه. بالرغم من علم فالح ان ابنه يقود السيارة باحتراف كبير لكنه كان قلقاً عليه ولن يهدأ له بال حتى يعود فيطمئن قلبه. وبعد مرور ساعات طوال خرج فالح ليجول المراب ذهاباً اياباً وهو في غاية القلق والاضطراب. كانت زوجته تخرج بين الفينة والاخرى
وتسأله إن كان احمد قد رد على اتصالاته، لكنه يخبرها بان هاتفه النقال مغلقاً او خارج التغطية فتطلب منه الدخول فيرفض ويقول بانه ينتظر عودة احمد. ولما افل النور وهبط الظلام نظر فالح الى ساعته فوجدها تشير الى السابعة ليلاً. يا الهي اين ذهب ذلك الشقي؟ لماذا لم يرجع للبيت بعد؟ اخبرني ان رحلته ستدوم 3 ساعات وها قد مضى اكثر من 9 ساعات وهو بالخارج فلماذا لم يعود بعد؟ ماذا اعمل يا ترى؟ سانتظر المزيد من الوقت وارى، عسى الله ان يأتي به بامان فانعم برؤيته لانني اخاف عليه كثيراً بعد ان رحل اخاه الاكبر قيس في حادث مروع حين صدمته شاحنة وهو يقود دراجته النارية في منطقة بغداد الجديدة. وقتها توفى على الفور ولم يبقى لي غيراحمد. يا رب لا ترني فيه يوماً اتوسل اليك. فاصعب الامور بالدنيا ان يدفن الاب ابنه في حياته وانا ذقتها مع ابني البكر قيس ولا اريدها ان تتكرر مع احمد. اتوسل اليك يا ربي. احمد ولدي وهو كل ما املك بهذه الدنيا. في هذه الاثناء وبينما هو يناجي ربه ويتضرع اليه بكل جوارحه، سمع من خلفه صوت زوجته بلقيس تسأل،
بلقيس : الم يأتي بعد؟
فالح : كلا يا بلقيس، لم يأتي بعد وانا قلقٌ عليه كثيراً.
بلقيس : الم يخبرك اين كانت وجهته؟
فالح : كلا، لا اعلم اين ذهب. انه ذنبي، كان الاجدر بي ان اسأله عن وجهته بالتحديد. يا ترى لماذا تأخر؟
بلقيس : سيعود، سيعود، لا تقلق. ربما استرسلَ في الاستمتاع بالترفيه فالشباب بهذا العمر ينسون انفسهم عندما يقضون اوقاتاً مسلية مع بعضهم البعض خصوصاً عندما يتعاطون الاشياء.
فالح : اشياء؟ اشياء مثل ماذا؟ هيا اخبريني، اي اشياء تقصدين؟
بلقيس : اقصد الخمر والمخدرات والنساء.
فالح : لا، لا يا بلقيس، اعوذ بالله، احمد ليس كجميع الشباب الفاسدين. انه لا يتعاطى اي شيء مما ذكرتِ. احمد فتىً مثالي. لماذا تقولين عنه مثل هذا الكلام؟ هل رأيته بنفسكِ؟
بلقيس : اكثر من مرة وجدت اعقاب سجائر في غرفته وفي الحديقة. حتى انني فاجأته وهو ممسكٌ بسيجارة يدخنها ويشرب من كأس اعتقد انه كان خمراً. والله اعلم ماذا كان يتعاطى غير ذلك!
فالح : وكيف عرفت انه خمر.
بلقيس : كان شكله يوحي بذلك وكان احمد يكلمني ببطئ شديد يدل على انه كان ثملاً.
فالح : على العموم. نحن في صدد غيابه وليس بصدد ما يتناوله.
بلقيس : إذاً لماذا لا تنتظره في الداخل فالجو اصبح بارداً وقد تصاب بنزلة برد.
فالح : لا استطيع يا بلقيس، لن يهدأ لي بال حتى يعود لي سالماً.
بلقيس : حسناً كما تشاء. انا داخلة.
فالح : انتظري يا بلقيس. اريد ان اسألك عن مبلغ كبير قمتِ بسحبه من حسابنا المشترك امس.
بلقيس : اجل قمت بسحبهِ بالامس لاشتري بعض الملابس. فملابسي اصبحت قديمة ومهترئة.
فالح : ملابس بـ 3 مليون؟ هل جننت؟
بلقيس : اجل وما المشكلة، فزوجي استاذ جامعي ويجب ان يكون مظهري لائقاً.
دخلت زوجته البيت وبقي الاب حتى ساعة متأخرة من الليل فدخل بعدها البيت لتسأله،
بلقيس : الم يعود احمد بعد؟
فالح : كلا، لم يعود.
بلقيس : سيعود، سيعود حبيبي لا تقلق. تعال واجلس الى جانبي لنتابع مسلسلنا اليومي، (عيون القلب).
فالح : اي مسلسل هذا يا امرأة؟ اقول لك ابني لم يعد وانا قلق عليه. ساذهب الى مركز الشرطة واقدم بلاغاً بفقدانه.
بلقيس : انت تضخم الامور يا ابو قيس. سيرجع احمد مؤكداً لا تقلق.
لم يرد على زوجته بل صعد الى الطابق العلوي وغير ملابسه ثم نزل وخرج من البيت مسرعاً. ولما وصل مركز الشرطة رأى عصراً يقف امامه يقوم بواجب الحراسة فسأله،
فالح : كيف استطيع ان اقدم بلاغاً بفقدان ابني؟
العنصر : ادخل الى الداخل وبلّغ الاستعلامات.
دخل فالح المبنى فرأى عنصراً آخر يجلس خلف منضدة خشبية صغيرة بائسة تتأرجح كلما تحرك العنصر. اقترب منه وقال،
فالح : السلام عليكم. اريد ان اقدم بلاغاً باختفاء ابني.
العنصر : وعليكم السلام. متى اختفى ابنك يا عمي؟
فالح : قبل حوالي 11 ساعة.
العنصر : يجب عليك الانتظار حتى تمر 24 ساعة قبل ان تقدم بلاغك. فغالباً ما يظهر الشخص المفقود خلال تلك الفترة.
فالح : لكن ابني اخبرني انه سيغيب 3 ساعات فقط. ولم يرجع حتى الآن.
عنصر : هذا لا يجوز. اوامرنا هي اننا لن نتصرف الا بعد مرور 24 ساعة على اختفاء الشخص.
فالح : ماذا لو انه عمل حادثاً؟ ألديكم قائمة بالحوادث؟
عنصر : هل كان ابنك يقود دراجة نارية؟
فالح : كلا، كان يقود سيارتي. لقد تسلفها وذهب برحلة قصيرة مع اصدقائه.
عنصر : كم عمر ابنك؟
فالح : 17 عاماً.
عنصر : وكيف يقود سيارة وعمره مازال دون السن القانوني لحمل رخصة قيادة؟ هذه مخالفة واضحة.
فالح : اجل انت على حق. لكننا لسنا بصدد ذلك الآن فانا قلق على سلامته لانه قد يكون اصيب بحادث او ما اشابه، لا سامح الله.
عنصر : لدي قائمة بحوادث السير. ما اسم ابنك الكامل؟
فالح : اسمه الثلاثي هو (احمد فالح عبد الباسط).
عنصر : هل كان يحمل اي بطاقة معه؟
فالح : اجل يحمل بطاقته الشخصية، انها معه دائماً.
اخرج العنصر قائمة بالحوادث وراح يتفحصها ويردد اسم احمد عدة مرات ثم قلب الصفحة وواصل النظر فيها وعندما فرغ منها رفع رأسه وقال،
عنصر : اطمئن يا عمي، ابنك لم يندرج بقائمة الحوادث لهذا اليوم.
فالح : وما العمل الآن إذاً؟
عنصر : انصحك بان تعود الى بيتك وتنتظر هناك حتى تمر 24 ساعة على غيابه ثم تعود لنا ثانية فتقدم بلاغاً كي نقوم باجرائات البحث.
فالح : الا تريد ان اعطيك رقم السيارة؟
عنصر : لا ليس الآن. سنطلب منك كل التفاصيل عندما تقدم البلاغ بعد مرور 24 ساعة على اختفائه.
فالح : طيب يا ابني. شكراً لك على نصائحك.
خرج فالح من المخفر وعاد راجلاً الى بيته. وفي الطريق كان يأمل ان يجد ابنه قد عاد فعلاً فيقوم بعتابه عتاباً مراً ثم يمنعه من اخذ السيارة مستقبلاً حفاظاً على سلامته. لكنه عندما وصل البيت وجده مغشى بالظلام. فتح الباب ودخل فلم يرى احداً بالطابق الارضي. صعد الى الطابق العلوي وفتح باب غرفة نومه فوجد زوجته راقدة واصوات شخيرها مجلجلاً. رجع للوراء واغلق الباب ثم نزل الى الطابق السفلي وبقي جالساً في غرفة الاستقبل ينتظر رجوع ابنه احمد. بقي جالساً ساعات طوال حتى وصل الى مسامعه اذان الفجر من الجامع القريب فاستبشر خيراً. ذهب الى الحمام وتوضأ ثم عاد الى غرفة الاستقبال وفرش سجادته على الارض وصلى الفجر، بعدها انتصب وصلى ركعتين اخريين ليطلب من الله اعادة ابنه سالماً. كان يقرأ الآيات وتفيض عيناه بالدموع فيناجي ربه ويقول، "لا تريني فيه يوماً، اتوسل اليك يا الهي ارجوك يا ربي. لقد رحل ابني البكر، فقبلت بقضائك وقدرك. واليوم ابني الثاني احمد صار مفقوداً ولا نعرف اين ذهب، كيف لي ان اتحمل موته؟ انا عبدك المؤمن يا الله. لا تختبرني بولدي المتبقي بهذه الدنيا اتوسل اليك اتوسل اليك يا الهي. اكمل صلاته ودعواته ومناجاته ثم وقف وهو يطوي سجادته ويضعها على ظهر الكرسي. فجأة سمع وقع اقدام زوجته تنزل من على السلم، اقتربت منه وسألته،
بلقيس : هل تريد ان تتناول وجبة الافطار؟
فالح : اي افطار هذا يا امرأة؟ انا قلق جداً على ابني وانت تحدثيني عن طعام.
بلقيس : اجل ولكن حتى لو مات احمد فيجب عليك ان تفطر.
فالح : لا سامح الله. ما هذا الفال السيئ. كيف تتجرأين ان تقولي ذلك؟
بلقيس : كنت اعطيك افتراضية وحسب. فلماذا اغضبك كلامي؟
فالح : كلا، لا اريد السم الهاري. ساذهب الآن الى المركز لاقدم البلاغ.
بلقيس : انتظر حتى الساعة العاشرة كي يمر على غيابه 24 ساعة كما جرت العادة بمثل هذه القضايا.
فالح : حسناً. انا ذاهب لاتمشى قليلاً، فانا اكاد ان اختنق.
بلقيس : الا تريد ان تفطر؟
فالح : قلت لكِ لا اريد. لماذا كل هذا الالحاح؟
ذهب فالح الى المخفر مع الساعة التاسعة اي ساعة كاملة قبل انتهاء مدة الـ 24 ساعة وبقي واقفاً خارج المخفر يترقب مرور الوقت بصعوبة شديدة يتابع حركة عقرب الساعة بشغف كبير وكأنه يود لو انه يتحرك بسرعة اكبر كي يستطيع الدخول ليقدم البلاغ. ولما بقيت 5 دقائق فقط دخل مخفر الشرطة وحيا الشرطي بالداخل ثم اخبره بانه جاء ليقدم تقرير عن شخص مفقود فسأله،
العنصر : هل مر عليه اكثر من 24 ساعة؟
فالح : اجل، اجل ارجوك عجّل. اريد التحدث الى الضابط.
العنصر : حسناً دعني ابلغه وساعود اليك.
فالح : شكراً يا ولدي.
ترك العنصر مكانه ودخل الى غرفة الضابط فمكث هناك بعض الوقت ثم عاد وقال،
العنصر : تفضل يا عمي.
طرق فالح الباب وسمع الاذن من داخل الغرفة فدخل ليجد الضابط يتناول شطيرة باسطرمة ورائحة الثوم تعبئ الغرفة قال بغضب،
الضابط : ماذا عندك؟ لما كل هذه العجلة؟
فالح : السلام عليكم حضرة الضابط. انا آسف لاني قاطعت وجبتك ولكني قلق جداً على ابني. لقد خرج بالامس ولم يعد. انا قلق عليه. فقد يكون (لا سامح الله) اصابه مكروه او عمل حادثاً.
الضابط : متى حصل ذلك؟
فالح : كما اخبرت زميلك الضابط ليلة امس، ابني خرج بالامس مع الساعة العاشرة صباحاً ولم يعد للبيت بعد.
نظر الضابط الى ساعته اليدوية ثم قال،
الضابط : لم يمضي عليه سوى 24 ساعة. فلماذا انت مستعجل هكذا. كم عمره؟
فالح : ابني عمره 17 سنة.
الضابط : هل خرج راجلاً؟
فالح : كلا، لقد اخذ سيارتي وخرج.
الضابط : وهل انت قلق على سيارتك ام على ابنك؟
فالح : لتذهب السيارة الى الجحيم. انا قلق على ولدي وعلى سلامته يا حضرة الضابط.
الضابط : الا تعلم ان عمره لا يسمح...
قاطعه فالح وقال،
فالح : اعلم ذلك سيدي، ان عمره اقل من 18 سنة وليس لديه رخصة قيادة، لكن ذلك قد وقع فعلاً وانا مستعد ان ادفع الثمن. المهم هنا هو ان يعود ابني سالماً اتوسل اليك يا سيدي.
الضابط : طيب، طيب، اجلس واملأ هذه القسيمة. هل تجيد القرائة والكتابة؟
فالح : اجل سيدي اجيد القرائة والكتابة فانا استاذ جامعي.
هنا بدأ الضابط يضحك ويتكلم بتهكم إذ قال،
الضابط : اليوم كل الناس اصبحوا اساتذة جامعة، واليوم لدينا دكاترة يجلسون بقبة البرلمان.
فالح : هذا صحيح ولكني لست منهم.
الضابط : إذاً كان يجب عليك ان تسيطر على ابنك ولا تجعله يتسكع خارج البيت.
فالح : اعلم ذلك ولكن يجب ان نعثر عليه اولاً سيدي.
الضابط : حسناً، املأ القسيمة ودعنا نبدأ بالاجرائات.
بدأ فالح بملئ القسيمة حتى توقف عن الكتابة ورفع رأسه ليسأل،
فالح : كتبت اسمي واسم ابني الكامل ولكن هناك فقرة تسأل عن اسم الام.
الضابط : الا تعلم اسم زوجتك؟
فالح : بلى ولكن هل اكتب اسم زوجتي المتوفاة والدة احمد ام اكتب اسم زوجتي الحالية؟
الضابط : اكتب اسميهما معاً وضع كلمة (متوفاة) بعد اسم والدة ابنك.
فالح : حسناً سيدي.
ملأ فالح القسيمة كلها بسرعة فائقة واعطاها للضابط فتفحصها على عجالة ثم قال،
الضابط : والآن انتهى دورك. سنقوم باجرائاتنا في البحث عن ابنك احمد.
فالح : ومتى تعتقد انكم ستعثرون عليه؟
الضابط : سنعثر عليه عندما نعثر عليه. سنبلّغ جميع اقسام الشرطة والطوارئ في المستشفيات بجميع المحافظات. وعندما نجده سنبلغك باننا عثرنا عليه. بامكانك الرجوع الى بيتك الآن استاذ فالح.
<<<< قبل 20 ساعة في مكان ما في جنوب العراق <<<<
كان الليل مظلماً بارداً والمطر يهطل بغزارة إنكفئاً احمد على وجهه في بركة من الماء المشبع بالطين. كان يتنفس بصعوبة ويشعر بدخول الغرين الى فمه. لكن شعوره بالالم كان طاغياً على جميع احاسيسه فقد صار يشعر بوصب في صدره وساقيه وكتفه وبالخصوص في رأسه الذي كاد ينفجر من شدة الصداع. لا يعلم سبب تلك الآلام لكنها كانت شديدة ويود لو انها تبرأ من جسده. رفع رأسه ونظر بعين واحدة حوله، فلم يرى سوى ظلاماً دامساً. اين انا؟ كيف وصلت الى هنا؟ لماذا صارت حالتي بهذا الشكل؟ لماذا أشعر بصداع شديد مدمر؟ هل وقع لي حادث؟ انا لا اذكر شيئاً مما جرى لي. لماذا لا استطيع ان اتذكر اي شيئ؟ من انا يا ترى؟ ما الذي جاء بي الى هنا؟ هل لدي بيت وعائلة؟ هل انا مجرم؟ هل انا مواطنٌ صالح؟ آخ، ما هذا الالم في صدري؟
بقيت هذه التسائلات تدور برأسه بينما انتصب من بركة الوحل وراح يمسح فمه ويلفض الطين منه. كان يرتعش من شدة البرد ولا يعلم ماذا سيفعل. مشى قليلاً بشكل مستقيم باتجاه لا على التعيين. كان يشعر بالتعب والجوع والعطش. فجأة رأى بصيص نور يأتيه من بعيد. لم يكن يعي ما هو مصدر ذلك النور لكنه تتبعه ومشى نحوه طويلاً، عله يجد اجابات عن تسائلاته. وكلما خطى خطوة نحوه كلما ترائى له شبح اسود كبير يحيط بذلك النور. وبعد ان سار لاكثر من نصف ساعة تبين له ان الضوء كان يأتيه من منزل ريفي. وصل الى عتبة المنزل وطرق الباب فسمع صوت امرأة تنادي من وراء الباب، "من الطارق؟، ماذا تريد؟". عاد وطرق الباب من جديد فكررت سؤالها قائلة، "من انت، ماذا تريد مني؟ انا امرأة عجوز لا املك المال. اذهب واتركني بحالي". هنا رد عليها بصوت مهدج يوحي بصعوبة النطق قال، "ارجوك يا خالة، افتحي الباب. انا احتاج لمساعدتك". فتحت شق صغير في الباب ببطئ كبير ونظرت من خلاله فرأت احمد واقفاً امامها يرتعد من شدة البرد وقد غمره الطين الذي اختلط مع الدماء والكدمات من اعلى رأسه وحتى اخمص قدميه الحافيتين. تجرأت قليلاً وفتحت الباب كاملاً ثم نظرت اليه وقالت،
المرأة : من انت وماذا جرى لك يا ولدي؟ من فعل بك هذا؟
احمد : لا اعلم صدقيني. لقد استيقظت قبل قليل ورأيتني منكفئاً على وجهي في بركة نتنة من طين والظلام الحالك يغشي المكان.
المرأة : ما اسمك؟
احمد : لا اعلم.
المرأة : هل انت تمازحني؟ كيف لا تعلم اسمك يا ولدي؟ من هو ابوك؟
احمد : لا اعلم يا خالتي والله لا اعلم.
المرأة : تعال يا بني، ادخل ودعني اراك تحت نور المصباح.
دخل احمد الى بيتها والماء مازال يقطر منه وكأنه من الكلاب الضالة. وقف امامها وهو يتمايل من شدة الوهن قال،
احمد : ارجوكِ، انا عطشان اريد شربة ماء.
ذهبت المرأة الى المطبخ واحضرت كأساً من الماء فاعطته اليه. امسك بالكأس وشرب منه جرعة واحدة فقط ثم سقط الكأس من يده وخر على الارض كالشمعة المائعة فاقداً الوعي. ركضت نحوه وحاولت انعاشه لكنه دخل في غيبوبة تامة. قامت العجوز بجرجرته الى غرفة صغيرة ووضعته بصعوبة فوق سرير احادي كان في زاوية الغرفة ثم انزعته جميع ملابسه وتركته هناك بعض الوقت ثم عادت وهي تحمل ادوات تنظيف وتعقيم وملابس رجالية لتلبسه اياها. غطته بغطاء ثخين دافئ وتركته ينام ثم خرجت من الغرفة. جلست في صالة الاستقبال تفكر بذلك الزائر الغير معلن عنه. بقيت تفكر بما قاله الرجل؟ كلا انه ليس رجلاً انه صبي صغير لا يكاد قد اكمل 15 او 16 عاماً. ساحاول ان اعتني به غداً عندما يستيقظ واقوم باستجوابه فاعرف اسمه. من المؤكد انه لم يخبرني باسمه لانه اقترف مصيبة ولا يود الافصاح عنها. مع ذلك فانا ساحاول ان اجعله ينطق. وإذا اتضح لي انه مجرم او طريد العدالة فسوف اكتفي بطرده من بيتي. وحتى ذلك الحين ساقوم بتوفير الدفئ والطعام له من باب الشفقة.
وفي اليوم التالي استيقظت العجوز فجراً وخرجت الى الحضيرة لتحلب بقراتها وتجلب البيض من الدجاج. وعندما دخلت البيت ثانيةً رأت احمد واقفاً امامها يرتدي ملابس فضفاضة فسألته،
المرأة : كيف تشعر الآن؟
احمد : لا أشعر بخير ابداً يا خالتي. الكثير من الآلام بكل بقعة من جسدي. اشعر وكأن قطاراً قد مر فوق رأسي.
المرأة : الم تتذكر اسمك بعد، ولا كيف وصلت بك الامور الى تلك الحالة؟
احمد : لا والله يا خالة، اجهل اسمي ولا اعلم من هم اهلي او اين اسكن ولماذا انا هنا؟ ولا اعلم ما الذي تسبب في ايذائي بهذه الصورة البشعة.
المرأة : لقد جئتني بالامس مع الساعة التاسعة ليلاً مغطى بالدم والطين وفقدت الوعي امامي. فقمت بتنظيفك والبستك ملابس المرحوم ابني مقداد. يبدو انها واسعة عليك بعض الشيء.
احمد : اجل ولكن لا بأس، انها افضل من ملابسي التي كانت ممزقة ومتسخة. هل بامكاني ان اناديك ام مقداد إذاً؟
المرأة : اجل، انا اسمي رسمية، لكن الجميع يناديني ام مقداد. لقد قمت بغسل ملابسك وتركتها تنشف.
احمد : ملابس المرحوم ابنك لا بأس بها. شكراً.
رسمية : هل انت جائع؟
احمد : اجل يا خالتي اكاد اموت من الجوع.
رسمية : إذاً اجلس على الطاولة وسوف اعد لك افطاراً جيداً. ساقوم بتخدير الشاي وسوف يختمر بعد قليل.
جلس احمد على الطاولة فراحت رسمية تحضر صحوناً تحتوي على القيمر والبيض والزبدة والزيتون. ثم احضرت ابريق شاي وراحت تصبه بقدحين، اعطت واحداً لاحمد وقالت له "هيا يا يا" الم تتذكر اسمك بعد؟
احمد : لا والله يا خالتي. بامكانك ان تمنحيني اسماً كما يحلو لك.
رسمية : ساسميك غريب. ما رأيك؟
احمد : لا بأس، اسمي غريب من الآن فصاعداً. ولكن اخبريني يا خالة، متى فقدتِ ابنك؟
رسمية : توفى ابني مقداد قبل اربع سنوات عن عمر يناهز الـ 25. كان المرحوم يملك جسداً خشناً وطويل القامة يشبه المرحوم والده. وبعد ان رحل عني اصبحت وحيدة ابيع ما تنتجه ابقاري من حليب وقيمر وابيع البيض الذي اتحصل عليها من دجاجاتي. واحياناً ابيع بعض الخراف التي ارعاها كل يوم.
احمد : اليس لديك اقارب؟
رسمية : كلا يا غريب. انا كنت يتيمة عندما تزوجت. وما ان انجبت له ولدنا الوحيد حتى ودعني اثر مرض عضال ابقاه في السرير لعام كامل.
احمد : لا حول ولا قوة الا بالله. ولكن قولي لي يا خالتي، اين نحن؟
رسمية : نحن بمنطقة نائية قريبة من ابو غَريب.
احمد : إذاً نحن قريبين على الفلوجة اليس كذلك؟
رسمية : كلا انت تتحدث عن ابو غْرَيب وليس ابو غَريب. نحن نبعد بضعة كيلومترات من الناصرية.
احمد : الناصرية؟
رسمية : اجل.
احمد : يجب ان اعود إذاً.
رسمية : الى اين ستعود؟
احمد : لا اعلم ولكن يراودني شعور بان عليّ العودة.
رسمية : انت لست على ما يرام يا ولدي لذلك ابقى عندي هنا حتى تتحسن حالتك وتندمل جراحك وتتذكر من اين اتيت.
احمد : لكنني لا استطيع ان اشاركك طعامك وانت انسانة على باب الله. هذا ليس عدلاً.
رسمية : بارك الله فيك يا بني فانت ولد اصيل. لكنني لم اشكو اليك حالي. انا سعيدة لانك معي وساظل اعتني بك واعاملك كما كنت اعامل ابني مقداد.
احمد : شكراً لك خالتي ام مقداد. والآن كيف استطيع مساعدتك؟
رسمية : عليك ان تستريح اولاً ثم تقوم بمساعدتي.
احمد : انا بخير يا خالتي واريد مساعدتك. ارجوك دعيني اقدم لك اي خدمة اقدر عليها.
رسمية : هل سبق لك وان حلبت بقرة؟
احمد : كلا، لكني استطيع ان اتعلم.
رسمية : إذاً ارح بدنك اليوم وغداً ساعلمك كيف تحلب البقرة.
باليوم التالي استيقظ احمد مبكراً وتناول الافطار مع ام مقداد ثم خرجا سوية الى الحضيرة. التقطت بعض الاعشاب من زاوية ووضعتها امام البقرة كي تأكل فسارت نحوها البقرة وراحت تتناول الاعشاب. حملت رسمية سطلاً ازرقاً وجلست بالقرب من ساق البقرة وراحت تنظف ثديها بالماء والصابون ثم جففته لتضع السطل تحته وراحت تحلبه باحتراف كبير. ظل احمد يراقبها ويأمل ان يتعلم بسرعة كي يحمل عنها بعض حملها، عرفاناً منه بالجميل. وما هي الا دقائق ونظرت اليه وهي تبتسم ثم قالت،
رسمية : لقد جاء دورك الآن يا غريب. حاول ان لا تضغط كثيراً لان ذلك سيؤذيها. فقط امسك حلمتها برفق وحركه الى الاسفل بلطف موجهاً الحليب نحو اطراف السطل.
جلس احمد وحاول بالمرة الاولى والثانية فاخفق لكنه في المرة الثالثة تعلم بشكل صحيح. خرجت رسمية من الحضيرة وقالت له، حاول ان تستمر بحلبها حتى تشعر ان الحليب قد نفذ من ثديها. بعدها احلب البقرة التالية ثم آتني بالحليب الى البيت عندما يمتلئ السطل كي نقوم بوضعه بداخل الحاويات الكبيرة استعداداً لبيعه في السوق.
خرج احمد ورسمية وركبا عربتها الخشبية التي يجرها بغلها العزيز على قلبها (ابو صابر) وتوجها الى السوق حيث باعوا كل ما اخذوه معهم خلال ساعات ثم اشترت رسمية بعض المواد الغذائية والتوابل من السوق ورجعت مع احمد الى المزرعة الصغيرة.
بالرغم من كل آلامه التي لم تتوقف او تكن، كان سعيداً مع رسمية واعتبرها بمثابة امه لكنه كان يفكر كثيراً عن هويته ويتسائل عن اسمه الحقيقي وعن عائلته إن كان لديه عائلة. كانت تراوده الكثير من الكوابيس في الليل فيرى احلاماً متكررة عن اناس يخرجونه من سيارة ويوسعونه ضرباً مبرحاً. فيستيقظ على صوت رسمية لتحتضنه وتطمئنه فيهدأ ويعود الى النوم. استمر هذا الحال كثيراً حتى برت جميع جراحه وخفتت آلامه فعاش معها بسلام وصارت تعتمد عليه بالكثير من مهام المزرعة.
<<<< في بغداد وبعد مرور ستة اشهر من اختفاء احمد <<<<
كان فالح والد احمد يذهب الى مركز الشرطة كل يوم بلا كلل ولا ملل ويسأل عن ابنه احمد محاولاً معرفة إن كانوا قد عثروا عليه او على جثته لكنه في كل مرة يصاب بخيبة امل لانهم لم يجدوا له اثر ولا على السيارة التي كان يقودها. فيعود مثقلاً باحزانه ويبقى بالبيت دون ان يخرج الى العمل حتى جائه بلاغ من الجامعة بانهم سوف يلجئون لطرده من عمله إن لم يحضر لالقاء المحاضرات. الا ان فالح كان يهمل كل تلك الانذارات ويبقى في حالة شرود ذهني كبير يلهج باسم احمد ويتضرع الى الله كي يعيده سالماً الى أحضانه. مرت تلك الاشهر الستة ببطئ شديد ولم يصله اي خبر عنه وصار يعتقد بانه لن يعود ثانية وعليه ان يتقبل فكرة رحيله الى الابد. لكن الامل بقي يراوده بغض النظر عن قلته وصعوبة تقبله. وفي يوم من الأيام دخلت عليه زوجته فرأته يصلي. انتظرت حتى فرغ من صلاته وجلس على السجادة ليسبّح بسبحته السوداء الطويلة فقالت له،
بلقيس : الى متى ستبقى على هذه الحالة يا ابو قيس؟ انظر الى ملابسك. انظر الى لحيتك التي اصبحت طويلة وصرت تشبه الدراويش ورائحتك التي صارت مقززة مزرية. طردوك من عملك في الجامعة فالى متى سيبقى حالك هكذا؟ لكن فالح لم يرد عليها وبقي يسبّح ويستغفر الله. عادت وسألته،
بلقيس : لماذا لا تدخل الحمام لتغتسل وتحلق ذقنك فتعود لعملك؟ والله لقد نفذت كل مدخراتنا ولم يعد لدينا المال الكافي لنقتات منه كما كنا يا ابو قيس.
توقف عن التسبيح ونظر الى زوجته ثم رد عليها بصوت مرتفع،
فالح : ماذا تريديني ان افعل؟ هل انسى ابني لاستمتع بالحياة وكأن شيئاً لم يكن؟ هل جننت يا بلقيس؟
بلقيس : اسمع حبيبي، اتصل بك اليوم اخوك جميل وقال ان هناك رجلٌ يريد زيارتهم لطلب يد ابنته غادة.
فالح : وما دخلي انا في ذلك؟ دعه يخطبها من جميل.
بلقيس : اجل لكنك عمها وسيكون الامر افضل لو كنت حاضراً عندما يأتي الخطيب بصحبة عائلته.
فالح : انا لا يسعني الذهاب الى احتفالٍ تغمره الفرحة والزغاريد فاثير شفقتهم ويحزنون على حالي.
بلقيس : ولكن يجب ان تكون موجوداً هناك. انه التزام اخلاقي يا حبيبي. فاخوك جميل يقف معك في السراء والضراء لذلك يجب ان تكون حاضراً. وبنفس الوقت حاول ان تقترض منه بعض المال فنحن اصبحنا نعاني من تردي الحال. بالاضافة الى انك عمها وبمقام والدها وعليك ان تكون متواجداً.
فالح : وماذا لو لم احضر؟ هل سيغير الخطيب رأيه فيعدل عن الزواج؟
بلقيس : لا، ولكنه سيظن بك الظنون ويعتقد انها اسرة مفككة غير متآزرة. هيا قم يا حبيبي وانتصب. سيكون ذلك افضل اليك. سترى هناك اناساً جدد وستغير القليل من حالتك النفسية. هيا يا عمري ارجوك لا تتلكأ.
فالح : حسناً، حسناً، كفاك نقيقاً. ساقوم بذلك وامري الى الله.
وقف فالح وطوى السجادة ليضعها فوق الكرسي ثم توجه الى الحمام وبدأ استعداداته. اما زوجته فاخرجت احد قمصانه من الدولاب وراحت تكويه له كي يرتديه ببيت اخيه. وما هي سوى ساعة حتى اصبح فالح على اتم استعداد ورائحة عطر ما بعد الحلاقة تفوح منه وبدأ يشعر بتحسنٍ في حالته النفسية والمعنوية. خرج من منزله وركب الحافلة التي أقلّته الى بيت اخاه في زيونة. ولما وصل هناك نزل من الحافلة امام جامع القزازة وقرر ان يصلي المغرب بالجامع قبل الذهاب الى بيت اخيه. وفور دخوله البيت جائه اخاه جميل يهرول واحتظنه ورحب به ترحيباً كبيراً قال،
جميل : حمداً لله يا ابو قيس. كنت اخشى ان لا تأتي.
فالح : هل وصل الخطيب؟
جميل : يكاد ان يصل باي لحظة. تفضل ادخل حبيبي.
دخل الاخوان الى غرفة الاستقبال فوجدها فالح مهيأة بشكل لائق لاستقبال الضيوف. اخذ مجلسه على احدى الكراسي فوقفت امامه ابنة اخاه الصغيرة مروة حاملة صينة كبيرة عليها كؤوساً زجاجية كثيرة بعصائر ملونة الاحمر والاخضر والاصفر. حيته بحرارة وطلبت منه ان يأخذ كأساً من العصير. التقط منها واحداً وترشف رشفة فاعجبه طعمه الحلو وقد ابتلت به عروقه. دخلت عليه زوجة اخاه ورحبت به قائلة،
ام غادة : اهلاً وسهلاً بك يا ابو قيس. كنا نخشى عدم مجيئك. فانت كبير العائلة ويهمنا حضورك.
فالح : شكراً لك عزيزتي ام غادة. لم اتمكن من رفض دعوتكم فغادة عزيزة جداً على قلبي.
وفي تلك الاثناء دخل ولد صغير قال، "لقد وصل الضيوف". فتوجهت ام غادة الى الباب لترحب بهم بينما بقي فالح جالساً بمكانه حتى دخل الجميع الى صالة الاستقبال فوقف وراح يصافح الجميع ويعرفهم بنفسه وبصلته بغادة. صار الضيوف يختارون الاماكن فجلس الخاطب على اريكة امام فالح. لم يشأ فالح ان يبدو انساناً مثقلاً بالاحزان لذلك اشتبك بمحادثة ودية وشكلية مع الخاطب مؤيد عبر الغرفة إذ سأله،
فالح : لقد سمعت انك تحمل شهادة المحاماه. فهل تعمل في القضايا الجنائية ام المدنية؟
مؤيد : لا هذا ولا ذاك. انا تخرجت من بغداد قبل سنين طويلة لكنني لم اعثر على عمل بمجال مهنتي واصبت بخيبة امل كبيرة. لذلك هاجرت وتركت العراق من دون رجعة. ذهبت الى الدنمارك وعملت في شرطة كوبنهاكن كمحقق جنائي. وبعد ان تحصلت على الجنسية الدنماركية قررت ان اعود الى وطني واتزوج من عراقية من بلدي فجئت لاخطب غادة.
هنا تدخل جميل في الحوار وقال،
جميل : يبدو ان مؤيد متواضع جداً لانه لم يخبرك بانه افضل رجال التحقيق الجنائي بالدنمارك وقد قام بحل قضايا في غاية التعقيد هناك.
فالح : هل هذا صحيح؟
مؤيد : بالحقيقة والواقع، فإن خلفيتي القانونية ساعدتني كثيراً على الاستناد اليها في عمليات الابحاث الجنائية. ولكوني اتحدث الانكليزية والعربية والدنماركية صاروا يعتمدون عليّ بالكثير من القضايا التي ترتبط بالقضايا التي تشمل الاجانب في الدنمارك بعد ان حليت لهم قضية القتل المزدوجة لسعوديين.
فالح : اعلم انك هنا في مهمة طلب يد ابنة اخي غادة ولكن اتمنى لو استطيع ان اتحدث اليك لاحقاً لاني اريد ان استلهم رأيك بقضية ما.
مؤيد : سيكون ذلك من دواعي سروري يا عمي. هذا هو رقم هاتفي.
دس مؤيد يده في جيبه واخرج بطاقة مطبوعة باللغة الدنماركية وبحروف لاتيني اعطاها لفالح قال،
مؤيد : تستطيع اضافة رقمي الى هاتفك فتتمكن من التواصل معي من خلال تطبيق واتساب إن شئت.
جميل : انا عاجز عن الشكر يا ولدي.
بعد قليل بدأت مراسيم الخطبة (النيشان) فوقف مؤيد والبس خطيبته خاتماً واساور ذهبية وعقداً من الالماس. وسط زغاريد النساء وتهاني الحضور للخطيبين بتلك المناسبة البهيجة. وعند انتهاء الاحتفال وقف مؤيد ومن معه كي يغادروا لكنه اشار بيده لفالح كي يحثه على مهاتفته فيما بعد. رجع فالح الى بيته وقد بانت عليه بوادر الامل من جديد بامكانية العثور على ابنه المفقود احمد. وعندما دخل البيت اعترضته زوجته وسألت،
بلقيس : كيف سارت الامور يا ابو قيس؟
فالح : سوف لن تصدقي ما حصل. اتضح ان الخطيب واسمه مؤيد يعمل كمحقق في شرطة الدنمارك. وقد قام بحل الكثير من القضايا المعقدة هناك. لذلك اخذت رقمه وساتصل به كي يقوم بمساعدتي لمعرفة مصير احمد.
بلقيس : عندما سألت كيف سارت الامور اردت ان اعرف كيف تمت الخطوبة.
فالح : اجل الخطوبة. اعتقد انها سارت بشكل جيد وقد قام الخطيب بالباسها المجوهرت. لكنه وعدني ان يساعدني فيما بعد.
بلقيس : هل جاء ليقوم بخطبة حبيبته ام جاء ليعمل لديك كمحقق مأجور؟ اعتقد انه جاملك فقط وسوف يكون مشغولاً اغلب الوقت في الخروج مع خطيبته. هل اخبرك عن المدة التي سيمكثها في بغداد؟
فالح : قال انه سيبقى اربعة اسابيع.
بلقيس : هذا وقت قصير جداً، لا اعتقد انه سيتمكن من التفتيش والعثور على احمد. انسى الموضوع ولا تتصل به.
لم يرق له كلام زوجته لذا صعد الى الطابق العلوي وتوضأ كي يصلي العشاء ثم يخلد للنوم.
ترى هل سيتمكن المحقق مؤيد من ايجاد احمد ام انه سوف يهتم بخطيبته فقط ولن يكترث لما طلب منه فالح. وإذا عثر على احمد فهل سيعرف من هم الجناة الذين ضربوه وسرقوا سيارته؟ وماذا عن احمد؟ هل سيتمكن من التعرف على ابوه بعد ان فقد الذاكرة؟ سنرى ما سيحدث في الجزء الثاني من هذه القصة.
4754 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع