د. سعد ناجي جواد
لماذا يؤكد المختصون إن ما تحققه إسرائيل إشارات ضعف في موقفها وليس العكس؟ وهل سيلجا نتنياهو في النهاية الى خيار شمشون؟
لا احد يستطيع ان يُنكِر ان نجاح اسرائيل في توجيه ضربات موجعة للمقاومة اللبنانية في الشهر الماضي قد اصابها، ومعها حاضنتها ومحبيها وداعميها، بإحباط بعد ان كان الأمل يملأ قلوبهم بان ساحتي المواجهة والردع قد توازنتا مع الاحتلال. اضف الى ذلك ان تلك النجاحات قد أطلقت ألسُن كثيرة كانت قد عُقِدَت او اختفت لفترة غير قصيرة، وبعد ان كانت تتحدث بإستحياء عن ضرورة نزع سلاح المقاومة اصبحت تجاهر بضرورة الإستجابة الى كل الإملاءات الإسرائيلية.
شخصيا كنت، ولا أزال، لا أحبذ الاحاديث التي تتصف بالمبالغة، وسبب ذلك يعود الى تجارب كثيرة عاشها جيلنا خاصة بعد نكسة عام 1967، حين كان الأمل يحدونا ويملا قلوبنا وعقولنا في تلك الايام واذا بنا نُصدم بواقع مؤلم آخر. ومع الاسف ظلت هذه الصدمات تتكرر كلما دأبت بعض الاطراف على إثارة امالا كبيرة داخلنا تُنسينا ان العدو يمتلك إمكانيات كبيرة هو الاخر، لعل اهمها التقدم التقني وحقيقة انه لا يحارب لوحده، وإنما بمشاركة ودعم فعلي، لوجستي وعسكري وسياسي واقتصادي، من اكبر القوى العالمية (الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا، ودول أوربية وآسيوية واقليمية أخرى).
وخير دليل ان المقولة التي زُرِعت في اذهاننا والتي تقول ان اسرائيل لا تستطيع ان تحارب لمدة طويلة، اثبتت خطأها وها هي الان تدخل في العام الثاني من حرب دائمة وعلى عدة جبهات، ايضا بفضل دعم الدول المذكورة اعلاه، وخاصة الولايات المتحدة التي تخطت كل الحدود وكسرت كل المحظورات ابتداءا من إرسال الأساطيل والمقاتلين والمستشارين والأسلحة الثقيلة التي لم يسبق لأية دولة غيرها ان استخدمتها، وصولا الى تزويد الاحتلال بمنطومة ثاد – THAAD ((Terminal High Altitude Area Defense المضادة للطائرات والصواريخ مع كوادر تشغيلها، لتؤكد مرة اخرى انها مساهمة بشكل مباشر في الحرب ضد غزة ولبنان واليمن والعراق. علما بان بريطانيا وألمانيا وفرنسا يفعلان الشيء نفسه ولكن بدون اعلانات. فبريطانيا لوحدها سمحت، او غضت الطرف عن مشاركة اكثر من عشرين الف مقاتل بريطاني في حرب غزة الى جانب جيش الاحتلال، ولم تتخذ السلطات البريطانية ضدهم اي اجراءات عقابية عندما عادوا، بينما كانت نفس السلطات قد سحبت الجنسية من فتيات غرر بهن تنظيم داعش الإرهابي ومنعتهم من العودة.
وإعلان الرئيس الفرنسي بانه يجب وضع قيود على تسليح إسرائيل أثار مشكلة سياسية داخلية عندما أصدرت الحكومة بيانا أكدت فيه انها ستستمر في تزويد الأحتلال بكل ما يحتاجه متحدية رئيس الجمهورية، ناهيك عن غضب نتنياهو وتهجمه على الرئيس الفرنسي علنا.
السؤال الأساسي يبقى هو هل ستسطيع إسرائيل ان تحقق مبتغاها في ظل هذا الدعم الهائل في مواجهة حركات مقاومة محدودة الإمكانيات؟ في محاولة الإجابة يكتشف المرء انه ليس فقط العرب هم من يعيشون تخيلات واوهام، وانما قادة إسرائيل من الصهاينة المتشددين، وعلى رأسهم نتنياهو، هم ايضا يعيشون اوهاما واحلام يقظة اكبر. فمثلا لايزال نتنياهو يعتقد ان بمقدوره ان يقضي بالقوة العسكرية المفرطة على حركة المقاومة في غزة وفلسطين كلها، وانه قادر على مسح اسم فلسطين من على الخارطة ومن أذهان الفلسطينيين والعرب والمسلمين، وتوسيع الإحتلال ليشمل اراضي دول عربية مجاورة، ومازال يعتقد ان بإمكانه ان يُنهي المقاومة في لبنان وينزع سلاحها ويرحلها، هي والمقاومة في غزة الى الخارج، وانه قادر على تشكيل نظام شرق اوسطي جديد بقيادة إسرائيل. ولم يحد عن أفكاره هذه حتى بعد فشله وعجزه عن تحقيق كل الأهداف التي وضعها منذ بداية الحرب على غزة قبل عام، ومع كل الجرائم الكبيرة وغير المسبوقة التي إرتكبها، والتي شملت قتل وتجويع اعداد هائلة من الفلسطينيين، والآن اللبنانيين، غالبيتهم من الأطفال والنساء وتسوية مناطق سكنية وقرى كثيرة بالارض. ولم يغير نمط تفكيره حتى بعد ان إستطاعت المقاومة الفلسطينية واللبنانية ان تقلب صورة أي نصر يتباهى به الى هزيمة على المستوى الإستراتيجي بدليل انها ما زالت مستمرة وتوقع اصابات مؤثرة في صفوف جيش الاحتلال.
هذا الكلام لا نطلقه جزافا وانما مبني على معطيات وحقائق ثبتتها مراكز ابحاث وصحف غربية وأمريكية رصينة موالية بوجه عام للإحتلال وتكرر مقولة (حق اسرائيل في الدفاع عن نفسها). هذه الكتابات تؤكد على ان ستراتيجية إسرائيل في فرض ما تريده بالقوة العسكرية كما كانت تفعل في السابق قد اخفقت وثبت عدم جدواها، وان جيش الإحتلال قد فشل في مجاراة ما تقوم به حركات المقاومة الأصغر عددا والأقل تسليحا لأن طبيعة المواجهة وأساليبها قد تغيرت، كما فشلت السياسة الداخلية للحكومة الإسرائيلية في إبقاء المجمتع موحدا، واصبحت الإنقسامات على كل المستويات هي السمة الأبرز، وظهرت مؤشرات على احتمال قيام مواجهات غير مسبوقة بين السلطة والناس، مثل تظاهرات اهالي الأسرى او الذين يقتلون في المعارك، وتصاعد العمليات الإستشهادية التي يقوم بها من اُطلِقَ عليهم اسم (عرب إسرائيل)، الذين يشكلون 20% من سكان الإحتلال، والذين اعتبرتهم اسرائيل عناصر موالية وهادئة. اما الحالة الداخلية الاكثر تهديدا للمجتمع الإسرائيلي فهي رفض اليهود المتطرفين (ألحريديم – وهم الأكثر عددا داخل المجتمع الإسرائيلي لأنهم يؤمنون بكثرة الإنجاب) التطوع في المؤوسسة العسكرية.
اضف الى ذلك ان صورة إسرائيل القديمة بانها القاعدة الأمريكية-الغربية الرادعة في المنطقة وان جيشها هوالأقوى في المنطقة، قد تشوشت كثيرا جدا، واصبحت هي من تحتاج الى من يوقفها على اقدامها، ولولا الدعم العسكري الكبير واليومي الذي يصل من الخارج لكانت إسرائيل قد إنهارت بعد اشهر من بداية الطوفان. كما ان ثقة المستوطنين بالجيش والأجهزة الأمنية قد إهتزت هي الأخرى بسبب فشل هذه المؤوسسة في حمايتهم او في توقع ما حدث. اما على المستوى الإقتصادي فان أرقام الخسائر وتوقف غالبية المشاريع والمصانع الحكومية والخاصة وشلل حركة الملاحة صوب ميناء إيلات كلها حالات كانت ستؤدي الى إنهيار دول اخرى في حالات مماثلة لولا الدعم الخارجي الذي يخفف منها. لكن ومع كل هذه الحقائق، ومع ظهور مؤشرات تدلل على ان كل الضربات المؤثرة التي امر نتنياهو بتوجيهها لحزب الله والمقاومة لم تنجح في القضاء على قدراتها وامكانياتها في الوصول الى عمق الأراضي المحتلة، وجعل حالة هروب ملايين المستوطنين الى الملاجيء ظاهرة يومية، يظل نتنياهو غير مستعد لتغيير قناعته وسياساته.
لقد غابت عن نتنياهو وحكومته وجيشه حقيقة ان المقاومة (الفلسطينية واللبنانية بالذات) كانت قد اعدت نفسها إعدادا جيدا لهذه المواجهة، وانها حركات تعتمد على قدراتها الذاتية بالأساس وأنها، عكس جيش الإحتلال والمستوطنين، تحارب على أرضها ودفاعا عنها وعن وتاريخها، في حين ان جيش الاحتلال والمستوطنين يحاربون من اجل مكاسب حصلوا عليها نتيجة الإحتلال، بدليل ان أبناء غزة بالذات يرفضون وباصرار الهجرة رغم كل المجازر التي ترتكب بحقهم وكل المغريات المقدمة لهم، بينما تجاوزعدد الهاربين من فلسطين المحتلة (الهجرة العكسية) المليون مستوطن.
في لحظة من اللحظات، وقد لا تكون بعيدة جدا، سيشعر نتنياهو (وكل المتطرفين من امثاله) بانهم غير قادرين على اعادة عقارب الزمن وفرض رغباتهم ومخططاتهم بالقوة العسكرية الاسرائيلية المتأكلة. وان هدف نزع سلاح المقاومة وإجبارها على الإستسلام هو سراب يلهث وراءه، وان كثرة الإغتيالات للقيادات لن توفر نصرا له ولحكومته. وحتى هدف إدخال الولايات المتحدة في الحرب الجارية في المنطقة (وهي داخلة اصلا منذ الأيام الأولى)، لن يغير شيئا من واقع الهزيمة التي تحققت منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول، ولن تنقذه هذه المشاركة من مصير محتوم او تحقق له شخصيا او لجيش الإحتلال نصرا عسكريا حاسما. لا بل ان ازدياد تورط واشنطن في المواجهات العسكرية قد يفتح الباب لحرب إقليمية وربما دولية، سوف ينتج عنها خرائط جديدة لن تكون في الغالب في صالح كيان الإحتلال. وهذه الحالة يمكن ان تتحقق مبكرا في حال شنت إسرائيل هجوما كبيرا على إيران وقامت الأخيرة بالرد كما تتوعد، لكي تدخل المنطقة في اتون نار لن يكون من السهل إطفائها.
ويبقى الخطر الأكبر الذي يهدد المنطقة هو ليس إصرار الإحتلال علىى المضي قدما في الحرب التدميرية او في عدم التفكير باي حل سلمي يحترم حقوق الشعب الفلسطيني ويجنب المنطقة المزيد من الكوارث، وانما في ان تصل العصابة المتطرفة الحاكمة في إسرائيل الى نتيجة مفادها ان استمرار فشلهم يحتم عليهم ان يستخدموا كل ما في جعبتهم من أسلحة تدمير شاملة إستنادا الى مبدا (ومن بعدي الطوفان). بصورة اوضح ان كل من يعرف عقلية وطبيعة النماذج التي تحكم اسرائيل، وخاصة نتنياهو ونرجسيته واستعداده لقتل وإبادة كل ما هو عربي ومسلم وفلسطيني سوف لن تجعله يفكر بعقلانية او في ان يجد حلولا سلمية للمشكلة الفلسطينية او ان يتنحى، بل ان طبيعته وتركيبته ستجعل كل تفكيره ينصب على اللجوء الى (خيار شمشون)، الشخصية المعروفة في الاساطير الدينية اليهودية (سفر القضاة)، الذي عندما اراد ان ينتقم من المجتمع الذي أسره وكبله بالحديد وعرضه بتلك الحالة على ابناء المدينة وفي معبدها، قام بسحب اعمدة المعبد الذي تواجدوا فيه وهدمه على رأسه ورؤوس الجميع.
كاتب واكاديمي عراقي
2780 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع