نزار السامرائي
عودة من الأسر أو عودة الروح
يبدو في الصورة 1 – كاتب المقال – 2 – وخلفه الرائد الركن (العميد الركن) موفق محمد صديق – 3 – وخلفه المرحوم الرائد (العميد) محمد نجيب أبو الهيجاء "فلسطيني".
الصورة من وكالة الأنباء العراقية يوم 22 كانون الثاني 2002.
في مثل هذا اليوم عام 2002، وصادف يوم الثلاثاء ويوافق يوم 8 ذي القعدة 1422هـ، وبعد عشرين سنة من أسر في معسكرات العدو الإيراني، بين مخفية ومعاقبة، وفي التاسعة مساء، عبرت دفعة من الأسرى العراقيين نقطة الحدود في معبر خسروي – المنذرية، كانت دفعة الأسرى من المعسكرات الإيرانية، الذين أمضى كلهم أربع عشرة سنة بعد نهاية العمليات الحربية عام 1988، خلافا لنص قرار مجلس الأمن الدولي 598 لعام 1987، وخلافا لبنود اتفاقية جنيف الثالثة لعام 1949، والتي تقضي بإطلاق سراح أسرى الحرب جميعا من كلا الطرفين المتحاربين بعد وقف إطلاق النار وبدء عمليات التبادل، وهناك أسرى تم أسرهم عام 1980، أي أمضوا أكثر من عشرين سنة في معسكرات عدو لئيم ظالم غادر كل القيم الإنسانية، ولا يعرف معنى للالتزام بالقوانين الدولية، ولا بما يرفعه هو من شعارات بائسة زائفة عن الالتزام بالشريعة الإسلامية مع أسرى الحرب.
تم جمع الأسرى من مختلف المعسكرات، نحن كنا في معسكر قمصر كاشان في المحافظة المركزية، والمعسكر في أصله قلعة تاريخية تشبه قلعة سنك بست "صخرة الموت"، التي كنا قد غادرناها مرتين، مرة سنة 1985، في لعبة سياسية تافهة، نفذتها السلطات الإيرانية بعد أن حوصرت من قبل لجنة تحقيق دولية، كانت ستزور كل موقع لديها معلومات أو احتمال بوجود أسرى عراقيين فيه، وهذا هو ما حصل فبعد عدة أيام زارت القلعة اللجنة الدولية المشكلة بموجب قرار أضطر على اتخاذه خافير بيريز ديكويلار أمين عام الأمم المتحدة يومذاك، ولكننا بعد رحلة استغرقت ستة أسابيع، أُعِدنا إليها.
والثانية في آب 1988، وكانت وجهتنا في الحالتين هي معسكر مازواند، حيث بقينا فيها إلى يوم 15 / 9 /1990، وهو اليوم الذي توقف فيه تبادل الأسرى بعد أن دفع العراق كل ما لديه من أسرى إيرانيين، ولما لم يجد الإيرانيون أسرى إيرانيين مقابل الأسرى العراقيين، توقفوا عن دفع الفارق في أرقام الأسرى، وأظن أن هناك إخفاقا محصورا بين طرفين، أما في اللجنة العراقية المكلفة بإدارة ملف التبادل، أو في اللجنة المشرفة على تفسير نصوص قرار مجلس الأمن الدولي 598، والذي نص في أحد بنوده على اطلاق سراح أسرى الحرب، ومع أن القرار لم يتضمن نصا يشير إلى تبادل الكل بالكل، إلا أن المشرّع الذي وضع نص القرار المذكور، كان يفترض أنه يتعامل مع دول تستند على مبادئ القانون الدولي التزاما كاملا، وهذا الوصف انطبق على العراق فقط، أما إيران التي خرقت قواعد القانون الدولي حتى في تعاملها من الدبلوماسيين، ومقار البعثات الدبلوماسية، فقد تحايلت على المجتمع الدولي وأوقفت من طرف واحد تبادل الأسرى منتصف أيلول 1990، وهنا أسجل تقصيرا فاضحا على اللجنة الدولية للصليب الأحمر، أنها لم تتحرك كما يقتضي ميثاقها وميثاق الأمم المتحدة في إعادة الأسرى العراقيين إلى أهلهم ووطنهم.
كما قلت معظم أسرى دفعتنا كانوا من أسرى معسكر قمصر كاشان، وتم جلب دفعات من معسكرات أخرى، وتم نقلنا من معسكرنا يوم 18 كانون الثاني 2002، إلى معسكر برندك، وقد بلغ عدد أسرى دفعتنا650 تقريبا، وبعد سفرة عكسية إلى خراسان أخذتنا في طريق يبلغ طوله أكثر من ألف كيلو متر، لزيارة مرقد علي بن موسى الرضا، ثم العودة من بعد ذلك إلى طهران ثم التوجه إلى الحدود، كان الجو باردا ودرجة الحرارة تحت الصفر، وفي طريق الذهاب والإياب، كانت الثلوج تتساقط بغزارة، حتى إذا اقتربنا من الحدود العراقية، انحسرت الثلوج، وبدأ المطر يتساقط بغزارة، حتى بعد أن دخلنا نقطة الحدود من خسروي إلى المنذرية، لم يتوقف المطر، وهو ما فسره الطيبون بأنه فأل خير علينا وعلى وطننا.
بهذه الذكرى العزيزة، التي اعتبرتها عيد ميلادي الذي يجب الاحتفال فيه، أتوجه بأعظم معاني الاعتزاز، لرجال العراق الشجعان الذي حافظوا على شرف الجندية العراقية، وصانوا شرفهم من أن تدنسه لحظة ضعف عابرة، كما صانوا شرف وطنهم الذي يستأهل من كل عراقي أن يضحي بالغالي والنفيس من أجل حماية حياضه بكل سلاح متاح وتحت متناوله.
وأحيي أبطال سنك بست الذين أعجزوا العدو بصمودهم الأسطوري، فكتبوا بدمائهم في سفر الشرف أروع قصائد المجد وقصص البطولة الفردية.
تحية لرجال معسكر قمصر كاشان الأبطال الذين حافظوا على الأمانة.
تحية لأسرى العراق الرجال الأبطال الذين ستبقى ملامحهم منار فخر لهم وفنار مجد لعائلاتهم وأقربائهم، فمرارة ما عانوه من عنت الآسر انتهت عندما يرفع الجلاد يده عن السوط.
أحيي أرواح شهداء معسكرات الأسر الذين رحلوا ولم تبكهم البواكي ساعة الرحيل.
تحية لأرواح رفاقي الذين أمضينا معا سنوات طوال في معسكر واحد، فتوطدت الرفقة وكان واحدنا أقرب إلى رفيقه من أخيه الذي ولدته أمه، وأخص بالذكر أحد أبرز أبطال العراق، الشهيد اللواء الركن دخيل علي الهلالي، الذي جسد بكل إباء أنصع صورة للجندي العراقي الباسل الذي حافظ على شرف الجندية العراقية الباسلة حتى الرمق الأخير.
تحية لرفيق السلاح الرجل الشجاع بلا حدود السيد علي محمود المشهداني، الذي اغتالته يد شريرة مأجورة.
تحية لروح صديقي وأخي المقاتل الفلسطيني الباسل الرائد يوم الأسر والعميد بعد العودة محمد نجيب أبو الهيجاء، أبي مازن.
تحية لروح صديقي وقريبي السيد حبيب حسن حبيب السامرائي، الذي لم تشفع له جلطته القلبية بوضعه على قائمة العائدين، فتم اطلاق سراحه ليلة التاسع عشر على العشرين من آذار 2003.
أسأل الله أن يتغمد شهداء الأسر الذين سقطوا برصاص العدو في الانتفاضات الباسلة التي خاضوها بلا تردد داخل معسكرات الأسر، وخاصة انتفاضة قوچان 1983، وڰرگان 1984 برحمته الواسعة ويسكنهم فسيح جناته.
وأسأل الله الرحمة للشهداء الأسرى الذين رحلوا بعد العودة، فوجدوا بلدهم في شغل شاغل لمواجهة التهديدات الأمريكية البريطانية الأطلسية، وبتواطؤ الإيراني الذي كنا نحن الأسرى أكثر العراقيين خبرة بخبثه ومكره وغدره، وعزاؤنا أننا حافظنا على الأمانة ولم نفكر بمقابل عما فعلناه.
لم يسألنا محققو غوانتنامو وصيدنايا والحوت عن جبهات الحرب وحجم الحشود لشن الهجوم المقابل، ولم يسألوا عن الانتماء الديني والعرقي والمذهبي إلا بهدف الكسب السياسي الرخيص، كانت أسئلتهم تتركز، على "لماذا قاتلتمونا؟ هل تحبون قيادتكم؟.
كان العراقيون عراقيين بامتياز، ولم يمنّوا على أحد بحمل وطنهم في الضمائر وتحت الضلوع وفوق الرؤوس، فلم يسمحوا بسقوط هذا الرمز عن موضعه، وهذا وحده شهادة ميلاد ووفاة وشرف وكرامة وكفى.
تحية لكل أسير حافظ على شرف الولاء للعراق.
1431 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع