الفريق الركن طارق محمود شكري
جلالة الملك فيصل الثاني
١٩٣٥ – ١٩٥٨
على الرغم مما نشر عن الملك فيصل الثاني من كتب وبحوث ومقالات، إلا أن شخصيته تبقى جديرة بالدراسة والبحث والتقصي، وأود أن أقول كلمة عن هذه الشخصية الفذة من خلال لقاءاتي المتعددة مع جلالته في مناسبات مختلفة.
أتيحت لي فرصة اللقاء مع (جلالة الملك فيصل الثاني) لأول مرة، عند حضوره حفل تخرجي وزملائي في الكلية العسكرية الملكية البريطانية (ساندهيرست)، في دورتها 17 يوم 26 تموز 1956. وتزامنت فرحة التخرج مع فرحة تأميم قناة السويس يوم 23 تموز 1956 أي قبل ثلاثة أيام من التخرج. كانت نفوس الشباب متوثبة، وتلقت خبر التأميم بفرحة عامرة. أما الحكام في منطقة الشرق الأوسط خاصة والعالم عامة، فقد خيم عليهم الوجوم والقلق والترقب، في انتظار ما سيؤول إليه ذلك الحدث الجسيم.
التقطت لنا صور بمناسبة زيارة ( جلالة الملك فيصل الثاني) ، فقد كنا ثمانية طلاب ، ستة منهم تخرجوا هذا اليوم 26 تموز 1956، واثنان من الدورة اللاحقة سيتخرجان في السنة التالية . التقانا جلالة الملك في بهو الكلية القديمة (Old College) بحضور آمر الكلية الجنرال هوبز (Hobbs) والملحق العسكري العراقي (العميد الركن صادق علي) وحَرَمه. والتقطت الصور فردية مع كل طالب، ثم جماعية مع الطلبة الثمانية. وقد اشتهرت الصورة الجماعية في السنين الأخيرة، لكثرة تداولها على مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة.
تميز جلالة الملك فيصل الثاني بدماثة الخلق، وحلو الحديث، وبالهدوء، والصوت الخفيض، ولطف التعامل، وقد حباه الله بوجه بشوش لا تفارقه الابتسامة، التي تنم عن نقاء السريرة، فضلاً عن دماثة الخلق والتواضع الراقي، تواضع لم يبلغة أي من الحكام الذين جاؤوا بعد استشهاده. فقد كان بسيطاً إلى درجة يشعرُك معه، أنه واحد من المجموعة، ولا يختلف عنهم بشيء. تبادلنا الحديث معه، وأكد على ما ينتظَرنا من مهام بعد عودتنا ، وتطبيق ما تعلمناه لتطوير الجيش والارتقاء بمستواه. كان متحمساً وينتظر منا الكثير، وبارك لنا تخرجنا، وشعرنا لبساطته وتبسطه أنه واحد منا، له نفس المشاعر والطموحات. دام اللقاء حوالي النصف ساعة، ودعناه بعدها بتقدير بالغ وشكرناه على حضوره حفل تخرجنا. وكان حضوره هذا الى (ساندهرست) هو الأول والأخير.
لقد وجدنا فيه حب وإخلاص للعراق وشعبه، ولو دامت دولته لكان (العراق) غير (العراق) الذي نعرفه اليوم، او في الحقب السابقة التي مرت على (العراق) بعد 14 تموز 1958.
كانت لقاءاتنا اللاحقة مع (جلالة الملك فيصل الثاني) عند حضوره إلى الكلية العسكرية الملكية في (بغداد) للمشاركة في فعاليات حفل (صيد ابن أوى)، الذي يقام في ربيع كل عام. وبحضور ولي العهد (الأمير عبد الإله)، ورئيس الوزراء، ورئيس أركان الجيش، وعدد من المسؤولين وكبار الضباط، ويشاركهم عدد من فرسان الكلية العسكرية الملكية من الضباط والطلاب، وينطلقون على ظهور الخيل مع مجموعة من كلاب الصيد، ويعودوا عند موعد الغذاء محملين بما اصطادوه، ويغادرون بعد دعوة الغذاء بكل احترام وتقدير.
كما اعتاد جلالة الملك فيصل الثاني رعاية احتفالات تخرج دورات الكلية العسكرية الملكية كل عام، والفعالية الرياضية السنوية، وكان في كل مرة يحضر فيها إلى الكلية العسكرية الملكية، يستدعي الضباط العراقيين الذين سبق والتقاهم في الكلية العسكرية الملكية البريطانية (ساندهرست)، ويتحدث
في مواضيع شخصية تخصهم أو شؤون الكلية العسكرية. فقد نظر إلينا بمثابة أصدقاء لجلالته ،وبعيداً عن الرسميات نتجاذب أطراف الحديث مع حفظ المواقع وتقدير المنزلة. فنحن من جيل واحد ، مواليد الثلاثينيات من القرن العشرين، ونتفاوت في العمر بسنة أو اثنتين ، ولذلك تجمعنا مشتركات عدة وطموحات كبيرة ، فجلالته يسعى لبناء (عراق) عظيم، ونحن نعمل جاهدين لبلوغ المجد في خدمة جيشنا وشعبنا .
دامت هذه اللقاءات مع (جلالة الملك فيصل الثاني) عامي 1957 و1958، وانتهت بوقوع انقلاب 14 تموز 1958 واستشهاد المغفور له (الملك فيصل الثاني) رحمه الله، وهو بعنفوان شبابه بعمر 23 عاماً، مليء بالحماس والطموح لبناء (عراق) حديث متطور، ولديه تصورات واضحة للمشاريع التي يريد تحقيقها. فقد كان في منتهى الوطنية والحماس، ويعشق (العراق) بصدق وإخلاص ويسعى لخيرهِ، ويتدفق ذلك الحب من أحاديثه النابعة من القلب النابض بالتفاؤل والمستقبل المشرق.
تألمنا كثيراً لاستشهاده بتلك الطريقة الوحشية اللاإنسانية، وتنصل الجميع من مجزرة (قصر الرحاب)، وانتهت بصب اللائمة على (النقيب عبد الستار العبوسي)، واعتبروا فعله تصرفاً فردياً بارادته. ومنذ ذلك اليوم حتى يومنا لم يهدأ (العراق) او يستقر . وذاق شعبه الويلات على ايدي الأنظمة التي تعاقبت على حكمه منذ 14 تموز 1958، فقد عشت كل العهود وخبرتها.
وكلمة أخيرة أقولها، رحم الله (الملك فيصل الثاني) وغمره برحمته الواسعة، فهو جدير برحمة الله ورضوانه، لكونه نقي السريرة، محب للخير، لم يؤذِ أحداً، وديع ينطق محياه بالبراءة وصدق المقال، يضمر كل خير للعراق والعراقيين. فقدناه وقلوبنا يعصرها الألم، وفقدنا معه مستقبل (العراق)، كان فقدانه خسارة كبيرة للعراق، وبفقدانه بدأ (العراق) يتراجع عن موقعه في كل المجالات، بعد أن كان أرقى دول الشرق الأوسط، وبلغ أوجه عام 1958، وكان المستقبل واعداً ومظاهره بادية للعيان. هذا هو بعضٌ قليلٌ مما يمكن أن يقال بحق (جلالة الملك فيصل الثاني) في هذه المناسبة، وهناك المزيد له مجاله. سجلت شهادتي وانطباعي كشاهد عيان عن هذه الشخصية النبيلة.
782 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع