العرب والقوة الناعمة: هل نملك فرصة أخيرة لصياغة نفوذنا؟

علاء الدين حسين خماس

العرب والقوة الناعمة: هل نملك فرصة أخيرة لصياغة نفوذنا؟

مقدمة
حين نشرت مقالي السابق عن مفهوم القوة الذكية، وجدت نفسي في قلب حوارات ثرية مع إخوة كرام تفاعلوا بصدق وطرحوا تساؤلات عميقة. كان من بين أكثر تلك التساؤلات إلحاحًا: ما موقعنا نحن العرب في عالم لم تعد القوة فيه تقاس بفوهات البنادق، بل بقدرة الشعوب على التأثير في العقول، وبناء الصورة، وامتلاك السردية؟
لقد دخلنا عصرًا أصبحت فيه الرموز أقوى من الرصاص، وأمسى النفوذ يُقاس لا بما تملكه الدولة من عتاد أو ثروات فحسب، بل بما تملكه من قدرة على التمثيل الذاتي أمام العالم، على صياغة خطاب يتجاوز الجغرافيا، ويخترق الضمائر.
من هنا، انبثق سؤال محوري ظل يلحّ في ذهني: هل ما زال بوسع العرب أن يستعيدوا شيئًا من مكانتهم في هذا المشهد العالمي المتغير عبر أدوات القوة الناعمة؟ وهل نمتلك من الروافد ما يكفي لبناء مشروع تأثير عربي، يستثمر في اللغة، والثقافة، والدين، والجغرافيا؟ أم أن ذلك محض حلم في زمن مثقل بالتحديات والانقسامات؟
هذه الأسطر ليست أكثر من خواطر كتبتها استجابة لتلك التساؤلات. لعل فيها ما يُغني الحوار، ويُنعش الأمل، ويفتح كوة في جدار الصمت، نحو تصور مختلف لما يمكن أن يكون عليه المستقبل العربي.
اتجاهات جديدة في نظريات النفوذ
لم تعد القوة في عالم اليوم تُفهم كما كانت تُفهم في العقود الماضية. فقد انتقلنا من زمنٍ كانت فيه القوة تعني السيطرة العسكرية المباشرة، إلى عصرٍ بات فيه التأثير الرمزي، وتوجيه الإدراك، وصناعة الصورة الذهنية، أكثر تأثيرًا من الجيوش والأساطيل. القوة الناعمة، التي كانت تُعد في الماضي مكمّلة للقوة الصلبة، أصبحت اليوم في طليعة أدوات النفوذ، وتحوّلت إلى عنصرٍ حاسم في تحديد موقع الدول داخل النظام العالمي الجديد.
وقد ظهرت في العقدين الأخيرين اتجاهات جديدة في فهم وتطبيق النفوذ، أبرزها ما يمكن تسميته بـ "الهيمنة الرمزية"، وهي قدرة بعض القوى الكبرى على فرض تعريفاتها الخاصة لمفاهيم مثل الحرية، والتقدّم، والاستقرار، ثم تسويقها للعالم على أنها معايير كونية. وبهذه الطريقة، تتم إعادة تشكيل القيم والمعاني وفقًا لمنطق الهيمنة الثقافية لا التفاهم الحضاري.
إلى جانب ذلك، برزت ظاهرة "القوة الخوارزمية"، حيث لم تعد عملية التأثير تقتصر على ما يُقال ويُكتب، بل على ما يُعرض أمامك في شاشاتك، وما تختاره الخوارزميات لتضعه في متناول عينيك. فالذكاء الاصطناعي اليوم قادر على توجيه سلوك الأفراد من خلال اختيارات غير مرئية: ما تقرأه، ما تراه، بل وحتى ما لا تراه.
أما "النفوذ السيبراني المموه"، فهو نوع جديد من التأثير غير التقليدي، لا يظهر في صورة هجوم مباشر، بل في عمليات دقيقة تهدف إلى زعزعة الثقة، والتشكيك في المؤسسات، وبثّ روايات موازية تُربك المجتمعات المستهدفة وتُضعف تماسكها.
وفي موازاة ذلك، تحوّلت وسائل التواصل الاجتماعي إلى ساحة مركزية لـ" الدبلوماسية الرقمية"، حيث لم تعد العلاقات بين الدول تُدار فقط عبر السفراء والبيانات الرسمية، بل من خلال التغريدات، والبث المباشر، وصور الزعماء، والمحتوى المصمم بعناية لاستمالة الرأي العام في الداخل والخارج.
ومن الظواهر اللافتة كذلك ما يمكن وصفه بـ "النفوذ اللامركزي" ، حيث لا تُصدر الرسائل الرسمية من الحكومة مباشرة، بل عبر مؤسسات خاصة، أو شخصيات مؤثرة، أو شركات ترويجية، ما يمنح الخطاب الرسمي مظهرًا شعبيًا ويزيد من فعاليته.
وأخيرًا، تكرّست ما يمكن تسميته بـ" سردية التفوّق الأخلاقي "، وهي محاولة بعض الدول تقديم نفسها على أنها حاملة لقيم إنسانية عليا تمنحها شرعية التدخل في شؤون الآخرين، أو تبرير سياساتها الخارجية، بل وأحيانًا إسكات خصومها فقط بإلصاق تهمة " اللا أخلاقية" بهم.
إن هذه الاتجاهات مجتمعة تُبيّن أن معركة النفوذ في العصر الحديث لا تُخاض بالدبابات، بل تُدار عبر الصور، والسرديات، والتقنيات، والخطاب العام، وأن من لا يمتلك أدوات هذا النوع من القوة، يظل رهينةً لروايات الآخرين.
الفرص المتاحة أمام العرب
قد يُخيَّل للبعض أن قطار النفوذ الناعم قد غادر المحطة، وأن العرب باتوا في مؤخرة الركب العالمي حين يتعلق الأمر بصياغة الصورة والتأثير الرمزي. لكن هذه الرؤية، برغم واقعيتها الظاهرية، تُغفل الإمكانات الكامنة التي ما تزال حاضرة في الجغرافيا العربية والتاريخ العربي والعقل العربي، والتي يمكن لها أن تتحول إلى قوة ناعمة فعالة، لو أُحسن استثمارها بوعي واستراتيجية لا ترتجل، بل تُخطّط وتُدار بعقل مؤسسي.
فالعرب يملكون ثروة ثقافية ولغوية قلّ أن يجود الزمان بمثلها. من الجاحظ الذي شرّح العقل والبيان، إلى درويش الذي أعاد للقصيدة هويتها الوطنية والإنسانية، يختزن العالم العربي كنوزًا من الفكر والأدب والفن، تمتد عبر قرون وتغذّي الحضارة الإنسانية بلغتها وسردياتها ومخزونها الرمزي. اللغة العربية وحدها، بما تحمله من موسيقى وجمال ومرونة، قادرة على أن تكون جسرًا حضاريًا لا مجرد وسيلة تواصل.
وإلى جانب هذه الثروة الثقافية، يمتلك العرب رمزية دينية وجغرافية لا ينافسهم فيها أحد. فمقدسات الإسلام، ومواقع التاريخ الإنساني الكبرى، والمفاصل الحضارية الأولى، كلها تقع في قلب العالم العربي، مما يمنحه عمقًا رمزيًا يفيض بالمعاني، ويمنح حضوره في الوعي الإنساني أبعادًا تتجاوز الجغرافيا والزمن.
كما لا يمكن إغفال الجاليات العربية المنتشرة في الغرب، التي بقيت لسنوات طويلة على الهامش، متفرجة على صورتها تُرسم بيد غيرها، بينما كان يمكن وما زال أن تتحول إلى روافع ناعمة تعيد التوازن لسرديات مُختلّة، وتُظهر الوجه الحقيقي للعرب بعيدًا عن التنميط والتشويه.
ولا يُمكن الحديث عن القوة الناعمة دون التوقف عند منصات الإعلام العربي العريقة، التي رغم تناقضاتها، ما تزال تحتفظ بقدر لا يُستهان به من الانتشار والقدرة على التأثير، لا سيما في مناطق تمتد من المحيط إلى الخليج، بل وتتجاوز العالم العربي إلى أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، حيث يوجد جمهور واسع من المتلقين يتفاعل مع ما يُقدَّم له بالعربية.
وتبرز أيضًا تجارب تنموية عربية ناجحة، خصوصًا في بعض دول الخليج العربي كالمملكة العربية السعودية والامارات العربية المتحدة وقطر ، التي استطاعت أن تواكب العصر وتبني نماذج عمرانية واقتصادية حديثة، باتت تُضاهي وربما تتفوق على مدن العالم المتقدم. هذه التجارب يمكن تسويقها ليس فقط بوصفها إنجازات محلية، بل كمؤشرات على قابلية الهوية العربية للتماهي مع الحداثة، بل والمساهمة في إنتاجها.
ولا نغفل هنا رأسمال الأمة الأهم: جيل الشباب. ملايين من العقول الشابة التي تجيد لغات العالم، وتتحرك بين العوالم الرقمية بخفة، وتملك من الخيال والمهارات ما يُمكّنها من صناعة سردية جديدة للعرب، لو أُتيح لها المجال، وتمت حمايتها من الإحباط والتيه.
إن هذه الفرص، في مجملها، لا تمثل فقط عناصر قوة خام، بل أساسًا جاهزًا لبناء مشروع نفوذ ناعم عربي متماسك. ولكنها كأي فرصة إن لم تُدرك في وقتها، تفلت من اليد، وتتحول إلى ذكرى لما كان ممكنًا.
التحديات التي تعرقل المشروع
غير أن الحديث عن الفرص، مهما بدا مشجعًا، لا يكتمل دون الاعتراف بالصعوبات الكامنة التي تجعل من مشروع بناء قوة ناعمة عربية مهمة شاقة ومعقدة. فهذه الإمكانات، برغم ما تحمله من وعود، تواجهها جملة من التحديات البنيوية والمعرفية والسياسية التي لا يمكن التغاضي عنها، إن أردنا لمشروع التأثير العربي أن يرى النور.
أول هذه التحديات هو غياب سردية عربية جامعة. فالعالم لا يتعامل مع العرب كأمم متفرقة، بل ينظر إليهم شاءوا أم أبوا ككتلة حضارية واحدة. وإذا كانت هذه الكتلة لا تملك قصة موحدة تحكي عن نفسها، ولا تصورًا مشتركًا لموقعها في العالم، فإن الآخرين هم من سيتولون سرد الحكاية نيابة عنها. وعندها، تصبح الصورة في الغالب مشوهة، مفككة، بل أحيانًا معادية للذات.
ترافق ذلك حالة من التضارب المزمن بين الخطابات السياسية والثقافية داخل العالم العربي. فبينما تتبنى بعض الدول العربية خطابًا عقلانيًا منفتحًا على العالم، تسير أخرى في اتجاهات انغلاقية تعادي الحداثة وتشكك في مقاصد التفاعل الدولي. وفي ظل هذا التناقض، يصعب تقديم صورة متسقة للعرب، سواء أمام أنفسهم أو أمام العالم.
وتزيد الأمور تعقيدًا حالة الضعف الواضح في المؤسسات المعنية بالدبلوماسية العامة، وهي المؤسسات التي يفترض أن تكون الواجهة الثقافية والحضارية للدول. في الكثير من البلدان العربية، ما زالت هذه المؤسسات إما غائبة تمامًا، أو تعاني من ضعف التمويل، وغياب الرؤية، والتبعية للسلطة السياسية دون امتلاك هامش من المبادرة والمرونة.
يُضاف إلى ذلك استمرار الاعتماد على أدوات تقليدية في التأثير، لا تراعي تحولات العصر ولا أدواته الجديدة. ما يزال البعض يظن أن خطابًا رسميًا مُنمقًا، أو عرضًا فولكلوريًا، يمكن أن يترك أثرًا حقيقيًا في عقول الأجيال الجديدة، متناسيًا أن التأثير اليوم يُصنع في فضاءات رقمية، وبوسائط غير تقليدية، لا تعترف بالرتابة أو الخطابة الجافة.
وفي ظل هذه المحدودية، يتعرض الفضاء الإعلامي العربي لاختراق مستمر من قبل سرديات أجنبية، بعضها يحمل أجندات واضحة، وبعضها الآخر يتسلل في هيئة محتوى ترفيهي أو ثقافي، لكنه يحمل بين طياته تصورات مضمرة تُعيد تشكيل الوعي الجمعي بما يخدم مصالح غير عربية.
ومن أخطر ما يواجه هذا المشروع كذلك، النظرة السطحية للثقافة، إذ لا تزال تُعامل في كثير من الأوساط بوصفها ترفًا، أو رفاهية نخبوية، وليست جزءًا من منظومة الأمن القومي وأداة من أدوات التأثير الاستراتيجي.
وأخيرًا، لا يمكن تجاهل غياب الإرادة السياسية اللازمة لإطلاق مشروع عربي مشترك في مجال القوة الناعمة. فطالما ظلت الأولويات الأمنية والاقتصادية تأخذ الحيز الأكبر من اهتمام صانع القرار، دون وعي متكامل بأهمية التأثير الرمزي والثقافي، سيبقى هذا المشروع معلقًا، طموحًا دون تنفيذ.
إن التحديات جسيمة، لكنها ليست قدرًا محتومًا. والتاريخ علّمنا أن الأمم القادرة على الاعتراف بمشكلاتها بشجاعة، هي الأقدر على تجاوزها.

هل يمكن صياغة رؤية استراتيجية عربية موحدة؟
قد تبدو فكرة بناء قوة ناعمة عربية مشتركة حلمًا بعيد المنال وسط الانقسامات، وغياب الإرادة السياسية، وتزاحم الأولويات الوطنية. لكن السؤال الحقيقي ليس: هل هو ممكن؟ بل: هل هو ضروري؟ والإجابة لا تترك مجالًا للشك. فالعرب، إذا أرادوا أن يكون لهم موطئ قدم في عالم تُصاغ فيه النفوذ بالصورة والسردية والرمز، لا بد لهم من مشروع يعيد تشكيل حضورهم الرمزي في الوعي العالمي.
ولحسن الحظ، فإن تحقيق هذا المشروع لا يتطلب المعجزات، بل يحتاج إلى وعي استراتيجي جديد، يقوم على الانتقال من الرمزية الخطابية إلى الفعل المؤسسي. فما لم تتجسّد أفكار القوة الناعمة في مؤسسات فاعلة، ومبادرات قابلة للقياس والاستمرار، ستظل تلك القوة مجرد أحلام على ورق، تُقال في المناسبات وتُنسى في اليوم التالي.
ومن أهم عناصر هذه الرؤية، الحاجة إلى سردية عربية عقلانية جامعة. سردية لا تستدعي المجد الماضي فحسب، بل تستحضر الحاضر وتتطلع إلى المستقبل، تُركّز على القيم المشتركة: اللغة، الثقافة، الإبداع، التاريخ المشترك، والتحديات الواحدة. سردية تُبنى بالعقل لا بالعاطفة، وتنفتح على الآخر دون أن تفقد خصوصيتها أو تتنازل عن جوهرها.
ويجب كذلك إعادة الاعتبار إلى الثقافة، لا بوصفها زينة حضارية أو مهرجانات موسمية، بل كأداة تخطيطية في صميم السياسات العامة، تمامًا كما تُعامل الثقافة في الدول التي تدير نفوذها بخفة ورشاقة عبر أدواتها الرمزية. الثقافة، حين تُدرج ضمن استراتيجية الأمن القومي، تصبح سلاحًا ناعمًا فعالًا، لا ترفًا ولا كماليات.
ولا يمكن تصور هذا المشروع من دون الشباب. فهؤلاء لا يمثلون مجرد مستقبل الأمة، بل هم واجهتها المباشرة أمام العالم. الشباب العربي، حين يُمكَّن ويُمنح الثقة، يصبح قادرًا على خوض معركة الصورة والرواية بلغة العصر وأدواته، وبما يليق بتاريخ الأمة ومكانتها.
وفي عالم اليوم، لا تُبنى القوة الناعمة في عزلة. من هنا تأتي أهمية بناء تحالفات ثقافية ذكية، خصوصًا مع دول إفريقيا وآسيا، حيث الروابط التاريخية، والدعم المتبادل، والفرص الهائلة. تحالفات تقوم على الاحترام والتكامل، لا على التبعية أو الإملاء.
كل ما سبق يشير إلى أن بناء قوة ناعمة عربية ليس حلمًا مستحيلًا، بل مشروعًا ضروريًا، قابلًا للتحقيق متى ما وُجدت الرؤية، وحضرت الإرادة، وتم تحويل الأفكار إلى خطط، والخطط إلى أفعال.
خاتمة: بين الحلم والممكن
في زمن تتراجع فيه الجغرافيا أمام الشبكات، وتتقدّم فيه الصورة على الواقع، بات من العبث الاكتفاء بالحنين إلى أمجاد القوة الصلبة. فالمعركة اليوم تُخاض في العقول، لا في الساحات، وفي الخيال الجمعي، لا في خرائط النفوذ التقليدي. وبينما تتسابق الأمم إلى رسم صورها بالألوان التي تختارها، ما يزال العرب أسرى صور يرسمها الآخرون عنهم، بألوان باهتة أو مشوهة.
لكن هذا الواقع لا يعني أن الوقت قد فات. فالقوة الناعمة ليست امتيازًا غربيًا، ولا حكرًا على دول دون أخرى. إنها حصيلة رؤية، واستثمار في الرموز، وثقة بالذات، وتراكم للخطاب والفعل معًا. والعالم العربي، برغم ما يعتريه من ضعف وانقسام، ما يزال يملك من الكنوز الرمزية، والطاقات البشرية، والموقع الحضاري، ما يخوّله أن يكون شريكًا فاعلًا في تشكيل وعي العالم.
ربما لا نملك مفاتيح القوة كلها، لكننا نملك الكثير من مفاتيح التأثير. وما نحتاجه اليوم ليس أكثر من أن نضع هذه المفاتيح في الأيدي الصحيحة، وفي الأطر الصحيحة، ومع الإرادة الصحيحة.
فحين نفكر بالعقل، ونحلم بالكبرياء، ونعمل بوعي طويل النفس، يمكن لحكايتنا أن تعود لتُروى، لا بوصفها صدى لما كان، بل كصوت لما يمكن أن يكون.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

717 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع