د.سعد العبيدي
سكة سفر
كلما اقترب العمر من عتبة الثمانين، غدا البيت عالمًا كاملاً، وصار التواجد بين جدرانه نوعًا من الغزل الهادئ بما تبقى من الحياة. ومع هذا الاقتراب، يسري الميل إلى سكينة مغلّفة بالروتين، والاتكاء على عادات الرتابة كما يتكئ الراعي على عصاه. ويغدو السفر فكرة مؤجلة، تُنتزع من الوعي تحت ذرائع شتى، وكأن النفس لا ترغب في مغادرة رتابة قد ألفتها، بل تتشبث بها كأنها آخر أشكال الطمأنينة.
لكنّ الأحلام لا تموت، إنما تُكبت في زوايا اللا وعي، كأنها تأخذ قيلولة، ثم تستفيق فجأة لتطرق أبواب الذاكرة بقوة لا تُقاوم.
وهكذا فعل ذلك الحلم العتيق، الذي وُلد في أيام الشباب:
السفر برًّا بين البلدان، سفرٌ تلامس فيه الأرض بعجلاتك، وتتّصل بخيوط الطبيعة وتضاريسها وناسها من كل الأجناس. أيقظته لويذاء من سباته باقتراح بدا كأنه صوت النداء الأول للعبور الى عالم النشاط.
"رحلة بالسيارة من لندن إلى ألمانيا... مرورًا بهولندا ومدن الطريق العريقة ."
قالتها بنبرة تشبه الهمس في أذن الحلم النائم: "رحلة للتمتع بالتنوّع الحاصل في الطبيعة، والتقاط نبض الحياة بين ثقافاتٍ مختلفة."
وصلت بسيارتها الصغيرة "السمارت" تمامًا في السادسة، كما تمّ الاتفاق. بدت السيارة وكأنها لعبة أنيقة: ذكية، ضئيلة، بالكاد تتسع لشنطة يد وشخصين.
سألتها ضاحكًا: "هل أنت واثقة من أن هذه السمارت قادرة على ابتلاع ألفي كيلومتر وربما المزيد ذهابًا وإيابًا؟"
أجابت بثقة لامبالية: "جُرّبت قبلك، وقطعتُ بها طرقًا أطول."
وبعد دقيقتين، كانت قد وضعتها على الطريق السريع القريب من البيت انطلقت كباقي السيارات، متحدية قوانين الحجم، مساوية الكبار في السرعة المحددة — سبعون ميلاً في الساعة كما يفرض قانون المرور البريطاني، ذلك القانون الذي لا يرحم متجاوزيه، توثقهم عشرات الكاميرات الرقمية، وتغرمهم بمئةٍ وعشرين جنيهًا مع نقاط تخصم من الاجازة..
في خضم زحام الطريق، وتحت سُحب متناثرة، بدت السمارت نقطة صغيرة في محيطٍ من الفولاذ المتحرّك.
شاحنات مهيبة وسيارات رباعية الدفع أحاطت بها من كل جانب، ترمقها كأنها دخيلة على ميدان لا يليق إلا بالكبار. لكنها مضت بثبات، بمحرك خافت يهمس لعجلاتها، وعزم لا يعرف التردد.
كانت وكأنها تقفز فوق الإسفلت كفراشة تتحدى الريح، تتمايل بثقة لا تعرف الخوف، تهمس في صمتها: "أنا هنا، رغم ضآلتي... أعرف طريقي."
أبطأ السير في الربع الأخير من الطريق الى مدينة هاروتش (Harwich) والميناء الذي تنطلق منه العبارة الى الضفة الأخرى من بحر الشمال، وأعلنت إحدى محطات الـ FM عن حادث تصادم.
بدأ الوقت يذوب. وبدأ الاحتياطي الموضوع — خمس وأربعون دقيقة — يتآكل حيث الاقتراب من موعد الاغلاق لبوابة العبارة الساعة الثامنة والنصف. وهنا أظهرت السمارت براعتها الحقيقية، إذ تسللت من بين السيارات، واخترقت الصفوف، وانطلقت بسرعة تجاوزت الحد القانوني أحيانًا، أوصلتنا الى بوابة الجوازات عشرة دقائق بعد الثامنة والنصف، بمواجهة سيدة أربعينية جميلة تملك زمام الأمور، تتحكم من حاسوب أمامها بكل شيء، وقبل تبرير التأخير على الطريقة العراقية والقسم بأغلظ الإيمان، رفعت رأسها من على الشاشة، وابتسمت بهدوء، ثم طلبت الجوازات، تصفحتها وأومأت بالمرور. قالت لقد وصلنا خبر الحادث، فكانت السمارت هي السيارة الأخيرة في دخولها مرآب الباخرة العبارة الفخمة.
بين مكتب الجوازات ومرسى الباخرة أقل من دقيقة، انبثقت خلالها ذكرى عبورٍ طويلٍ ومتكرر لمنفذ طريبيل، حين كان الطريق البري مسرحًا لطقوس العبور القاسية الى الأردن. هناك، يتنقل السائق ومن معه كمن يؤدي طقسًا مفروضًا: يفتحون الحقائب المكتظة، يعيدون ترتيبها مرات، يدفعون المقسوم، يتنقلون بين مكاتب النقل والجمارك والجوازات كمن يطلب النجاة لا المرور.
المفارقة كانت صارخة - ففي هذا المشهد، بدا الإنسان وكأنه يُعامَل بندى الاحترام، بينما هناك، في منفذ الوطن الأم، يُقاس بمقدار ما يدفع لا بما يستحق. تباين حضارات لا يمكن قياسه بالمباني وعدد المطاعم ولا بنوع المرشحين الى مجلس النواب، بل بطريقة النظر إلى الإنسان:
هل هو عبءٌ يجب عبوره، أم كائنٌ له كرامة العبور؟
.....
987 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع