د.سعد العبيدي
تشوّه صورة الدولة العراقية في وعي مواطنيها
لم تعد الدولة، في وعي الكثير من المواطنين العراقيين اليوم، كيانًا جامعًا يحتضن التنوع ويحمي الجميع. تسللت إلى خزان وعيهم الجمعي كصورة، مشوّهة، متناقضة؛ فهي تارةً قاسية وعنيفة، وتارةً أخرى غائبة وضعيفة. لا يُبعث حضورها على الاطمئنان، ولا يُثير غيابها حنينًا، وكأنها كائن مبهم، لا يُطمأن له ولا يُفتقد. من هذا التذبذب الإدراكي نشأ شعور عام لم يعد يُفرّق بين الدولة كفكرة والدولة كسلطة، بين الوطن كقيمة والدولة كأداة قهر. وحين تفشل الدولة في منح مواطنيها شعورًا بالعدالة والانتماء، يبدأ هؤلاء بتصنيفها كـ"آخر" بعيد، لا كامتداد لهويتهم الجمعية، ويصبح من الطبيعي نمو الإحساس بالاغتراب، وفقدان الثقة، وتحوّل مفهوم "نحن" من صيغة جماعية تشمل الدولة والمواطنين، إلى صيغة دفاعية تُقصي الدولة من الضمير العام.
لقد أفضى التراكم التاريخي لهذه العلاقة الملتبسة مع الدولة العراقية إلى ترسيخ صورة مقلوبة عنها في أذهان البعض. لا تحضر في وعيهم كضامن للحقوق، وإنما كمصدر تهديد للوجود. ولا تُرى كأمينة على ثروات البلاد، وإنما كخصم ينازع المواطن عليها. إنها صورة مشوهة لم تتكوّن بين ليلة وضحاها. إنها ثمرة سياقات يومية، تكاثفت فيها الجروح الصغيرة حتى غدت جرحًا غائرًا في الوجدان الجمعي:
في مدن الجنوب مثل العمارة والناصرية، والسماوة اهملت لسنوات، فيما تصدّرت مدن أخرى مشهد الاهتمام. في الأحياء الفقيرة من بغداد، لا يجد الشباب سوى المقاهي والبطالة، بينما تُحجز المناصب الإدارية العليا لأبناء المسؤولين أو حاملي الولاءات. في الجامعات، تتكرّس صورة الدولة كمُقصِّرة حين تُهمّش الكفاءات وتُزكّى العلاقات.
كل ذلك يشير إلى ما يُشبه "العنف الرمزي، تمارس فيه السلطة سيطرتها عبر التجاهل لا عبر المواجهة، عبر التجهيل لا عبر التنوير. وحين تُحرَم الأجيال من المعلومة الشفافة، ويُستعاض عنها بسيل من الروايات الرسمية المشكوك فيها أصلًا، يزداد التشوه. وعندما يقدّم الولاء المطلق كشرط للمواطنة، تنشأ في الوعي صورة مقلوبة: الدولة بوصفها شبحًا يُطارد، لا كيانًا يرعى ويحمي، وهو أساس التشويه.
في كل مرّة ترفع فيها الدولة شعار "سيادة القانون"، يتساءل المواطن من تجربته: هل هذا القانون يُحمي من لا يملك جاهًا؟ هل يلاحق من يملك نفوذًا؟ هل يُطبّق على الجميع بعدالة؟ ويزداد التشوه تعقيدًا حين تُرهن الدولة للهويات الضيقة: مذهبية، حزبية، مناطقية. ويزداد أكثر وتنمو معه مشاعر الغربة عن الدولة نفسها حين تُوزّع فرصها وفقًا للانتماء لا الكفاءة؟ وتستبدل معيار الاستحقاق بمقياس القرب من مركز النفوذ.
في الصورة المشوهة تفقد الدولة حيادها، وحين تفقده، تفقد قدرتها على جمع المتناقضات في حضن واحد، فتتسع الفجوة بينها وبين مواطنيها، حتى تغدو الكلمات عاجزة عن ردمها. والأخطر في هذا الشأن هو أن هذا النوع من التشوّه لا يتوقف عند حدود الفهم، إذ يتسرّب إلى السلوك. فالمواطن الذي يرى دولته فاسدة، لا يجد غضاضة في التحايل عليها. ومن يراها ظالمة، لا يشعر بتأنيب ضمير حين يخالف قوانينها. ومن لا يشعر بانتماء إليها، لا يهبّ للدفاع عنها، لأن شرعية السلطة لا تُبنى على نتائج قراراتها فقط، وإنما على إدراك الناس لطريقة اتخاذها، وإن غابت العدالة في الآليات، لن تنفع النتائج في استعادة الثقة. وهكذا تحوّل التشوّه الإدراكي عند العديد من أبناء العراق إلى تآكل أخلاقي. خسر فيه المواطن حسَّه بالمسؤولية، وفقدت فيه الدولة معناها الرمزي. وما دام الأمر هكذا، فإن محاولات إعادة بناء الدولة العراقية ستظل حبرًا على ورق، ما لم تُترجم إلى سياسة ترمم فيها الصورة وتحترم العقل، وتُعيد الايمان الى المواطنين بأنهم ليسوا رعايا، بل شركاء.
600 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع