أ.د. عبدالسلام سبع الطائي
أستاذ علم الاجتماع
مجهولو النسب في العراق عابرون أم مشروعٌ خفيٌّ لحكامٍ قادمين؟!القسم الاول
مقدمة: أطفال بلا نسب قنابل موقوتة!
تابعت باهتمام بالغ، قبل فترة قصيرة " نداء استغاثة" حول ظاهرة "الأطفال مجهولي النسب في العراق" الذي طرح في أحد النصوص المنسوبة إلى الدكتور حسين وادي . ولا يسعني إلا أن أثمّن جرأته ووطنيته في طرح قضية إنسانية حساسة، في وقت دفع فيه كثير من الأكاديميين والعلماء وضباط وأطباء ومهندسين وغيرهم أثمانًا باهظة في العراق وخارجه لمجرد التعبير عن آرائهم في ظل بيئة أمنية وسياسية مضطربة!
وفي الوقت الذي نتفق معه حول خطورة هذه الظاهرة(مجهولو النسب) من الناحية الاجتماعية وتضخم حجمها بعد نكبة العراق الكبرى بالاحتلال في 2003. لم يعد الصمت خيارًا لنا كأكاديميين؛ آن الأوان أن نصرخ في وجه التجاهل. إننا أمام مشهد عبثي يهدد الأمن القومي ، يفرض علينا ان ندق ناقوس الخطر، قبل ان ينتقل مجهولو النسب والمشردين ... من الهامش، إلى المنصة، من الظل، إلى القرار ومن المذهبية المقيته، إلى مفاصل دولة الانقسام الهوياتي غير المدنية !نحذر لئلا نُساق ، بصمت، نحو هندسةٍ ديموغرافيةٍ تُعيد تشكيل العراق لتمهّد الطريق، طوعًا، لولادة نخبٍ سياسية بديلة، بلا جذور، بلا انتماء وبلا شرعية؟!!
لذا وجب علينا، ألا نغفل أبعاد هذه الظاهرة، السياسية والأمنية، المسيرة خيوطها خارجيا، خاصة في المناطق الرخوة واللينة الاختراق في العراق وبقية الامصار العربية من قبل اطراف خارجية وعلى راسها إسرائيل وايران واحزابها وميليشياتها في العراق وسوريا ولبنان واليمن والاحواز والسودان وغيرها!
الأهمية: تحذير جيوسياسي مبكر !
تتجلى أهمية الغوص في دراسة تصاعد أعداد ضحايا هذه الجريمة في كونها ليست مجرد أرقام، بل انعكاسًا مرعبًا لظاهرة تتشابك فيها الأبعاد السياسية، والدينو–ثنو–غرافية، والأمنية... مما يجعل فهمها ضرورة ملحّة لكشف خيوطها المعقدة، ووقف نزيفها المتسارع! كما يعني ذلك، الاستغلال الممنهج لفئات الأطفال دون سن الثامنة عشرة، وذوي الإعاقة، خصوصًا عبر استغلال الثغرات القانونية. فهذه الفئات، المحصّنة قانونيًا من المساءلة، تُعد أرضًا خصبة للتجنيد والتوظيف في عمليات تخريبية من قبل العدو، خاصة في ظل ضعف الحماية القانونية والاجتماعية. ومن واجبنا – كأكاديميين تربويين – أن نحذر مبكرًا، وبصوتٍ عالٍ، من انتقال مجهولي النسب (بقدرة فاعل معلوم!) من هامش المجتمع إلى مراكز التمكين، ومن العزلة إلى التأثير! إن وقوع هؤلاء الأطفال بلا هوية في قبضة الميليشيات، لا يعني فقط تحويلهم إلى مشاريع دموية، بل يشكّل اختطافًا ممنهجًا للهوية الوطنية الشرعية، عبر الولادات غير الشرعية، بهدف صناعة نخب سياسية بديلة تحكم العراق مستقبلًا... وربما تمتد إلى دول الجوار!
ان هذا الجيل المنسي من الأطفال، أصبح أداة بيد إيران، تُستخدمه في إعادة هندسة المجتمع العراقي والعربي. فالأمن القومي اليوم في مهبّ الاختراق الديموغرافي، ومجهولو النسب يُمثلون النموذج الأخطر في هذا المسار، ضمن مشروع إيراني عابر للحدود، يستثمر في إعادة تشكيل البنية السكانية والسياسية للمنطقة!
ولابد أن ننوّه هنا، بأن عدد الأطفال المشردين، واللقطاء، والأيتام في العراق اليوم يُقدّر بنحو (خمسة ملايين طفل!)، عدا سوريا ولبنان واليمن والأحواز والسودان وغيرها، حيث قد يتجاوز عددهم (20 مليون نسمة منسية ومهمّشة!)... وهو رقم يفوق سكان دول مثل: الدنمارك، النرويج، السويد، أو حتى دول الخليج (باستثناء المملكة العربية السعودية)! إن الزجّ بهؤلاء القُصّر في أعمال إرهابية، وجرّهم إلى شبكات المخدرات والدعارة التي صلت قبة البرلمان العراقي ، يُمثّل انتهاكًا صارخًا للشرائع السماوية، والمواثيق الدولية! وقد تحوّل مجهولو النسب، والمشرّدون، والمعاقون من أطفال إلى أدوات أمنية تُستغل ضمن مشروع قومي فارسي، تقوده إيران. لذلك، فإن التعامل مع هذه الظاهرة يجب ألا يقتصر على المقاربة الاجتماعية، بل يتطلب رؤية وطنية–أمنية–جيوسياسية شاملة، تعالج الجذور، وتحمي المجتمع من استغلال مجهولي النسب، والأيتام، والمشرّدين، والمعاقين عقليًا، في مشاريع وعمليات تفجيرية ضد مصلحة الوطن والمجتمع! تجدر الإشارة إلى أن المؤشرات العلمية والعملياتية التي لدينا، بيّنت أن أسباب هذه الظاهرة تكمن في:
استخدام الميليشيات المسلحة للعنف الجنسي (1)
تنامي الزواج المؤقت "المتعة" بعد عام 2003
وختامًا، أكرر شكري للدكتور حسين، ولكل من يملك الجرأة على فتح هذه الملفات الإنسانية المؤلمة، التي شاعت بعد تغيير النظام الوطني في العراق بالقوة المسلحة عام 2003. وأتمنى أن تُطرح مثل هذه القضايا ضمن مسار علمي ووطني، معزّز بمصادر وبيانات إحصائية دقيقة، تحفظ كرامة الإنسان، وتصون أمن المجتمع!
قراءة في جذور المشكلة
تعود جذور استغلال الفئات المهمّشة والمنسيّة" مجهولو النسب والايتام والمعاقين" في العراق إلى فترة الحرب العراقية–الإيرانية، حينما انشغل العراق في مواجهة التمدد الإيراني الإقليمي. إلا أن هذه المواجهة العسكرية التقليدية غطّت على مؤشرات أكثر تعقيدًا وخطورة، تمثّلت في بروز أنماط غير تقليدية من النفوذ الإيراني داخل العراق، تجاوزت الأدوات العسكرية و"الأدلجة" الطائفية، لتشمل استراتيجيات خفيّة تستهدف البنية الاجتماعية والأمنية للبلاد!
الأكاديميا في قلب القرار الأمني العراقي
الحديث عن الأمن الاجتماعي، والاستعانة بالأكاديميين لصيانته، يدعونا للعودة إلى ما يمكن وصفه بـ"الحقبة الذهبية" للتنسيق الأمني–العلمي خلال حقبة الحكم الوطني في العراق ، وتحديدًا يعود إلى تجربة معالي وزير الداخلية العراقي، الأستاذ سمير الشيخلي ودعوته الى تحويل المؤسسات الأمنية من "مؤسسات بوليسية الى مؤسسات تربوية" ، تستحق الوقوف عندها طويلًا! حيث تشكل حقبة استيزار معالي وزير الداخلية سمير الشيخلي حصرا، والدكتور فاضل البراك والأستاذ رافع دحام لرئاسة المخابرات، محطات مفصلية للتعاون بين الأمن العراقي مع الأكاديميا. حيث التقت العيون الأمنية الداخلية والخارجية بالعقول الأكاديمية! فتحالف الدرع والقلم في مواجهة الجريمة المنظمة، الذي تحقق منذ مطلع ومنتصف ونهاية الثمانينيات وما تلاه، بفضل القيادة الحازمة لمعالي وزير الداخلية الأستاذ سمير الشيخلي. فقد نجحت الأجهزة الأمنية العراقية، تحت إشرافه المباشر، في كشف شبكات إجرامية خطيرة كانت تستغل الأطفال الأيتام ومجهولي النسب، بل وتستهدف المصابين بإعاقات جسدية ونفسية، في انتهاك صارخ لكل القيم الإنسانية! لقد شكّل هذا الإنجاز الأمني نقطة تحوّل في التصدي لجرائم الاتجار بالبشر، ورسّخ مكانة وزارة الداخلية كدرعٍ وطني لحماية الفئات المنسية "غير المرئية"، ضمن عمليات أمنية معقّدة شملت: التفجيرات، القنص وجمع المعلومات. إحدى هذه الشبكات، التي ظهرت في بغداد عام 1987، كانت تضم عنصرًا (مبتور القدمين) نتيجة انفجار لغم، وكان يُستخدم كقنّاص ضمن مجموعة تُعرف باسم "سيارة البرازيلي الزرقاء"، بقيادة المجرم المدعو "شهاب الخفاجي" من سكنة "محلة السباع" ببغداد! هذا النموذج من التوظيف الإجرامي خلق حالة من الرعب المجتمعي، خصوصًا بين العائلات التي كان أولياء أمورها يقاتلون على جبهات القتال ضد العدو الفارسي، ما استدعى تدخلًا عاجلًا من رئاسة الجمهورية لتشكيل لجنة تحقيق أكاديمية–أمنية مشتركة متخصصة. (1)
العودة إلى الوحشية: بين (الحشد) و(داعش)... وجهان لدمٍ واحد!
بعد عقود من تلك الأحداث ، وتحديدًا في أعقاب فتوى تأسيس الحشد وسيطرة تنظيم "داعش" على مدن واسعة من العراق، أعاد الحشد الشعبي إنتاج ذات الأساليب، ولكن بوتيرة أكثر وحشية وتنظيمً بحجة محاربة داعش، في حين ان كلاهما اسمان مختلفان لهدف واحد!
تقارير حقوقية، منها تقرير صادر عن "هيومن رايتس ووتش"، وثّقت استخدام جماعات مثل "االحشد وداعش في العراق" لأشخاص من ذوي الإعاقة، وآطفال دون سن 18، في تنفيذ عمليات انتحارية وتفجيرات في أماكن عامة، بما في ذلك: المساجد، الكنائس، الأسواق ومحطات النقل وغيرها! وفي حادثة مروّعة عام 2008، تم تفخيخ امرأتين تعانيان من إعاقات عقلية، وتفجيرهما عن بُعد في سوقين للحيوانات ببغداد ("سوق الغزل")، ما أسفر عن مقتل نحو 98 شخصًا، وإصابة أكثر من 200! (2) هذا النمط من الاستغلال يعكس مستوى الانحدار الأخلاقي لداعش وميليشيات إيران ، التي تستهدف الفئات المنسية (أمنيًا وسياسيًا) في المجتمع، لتحقيق أهدافها السياسية والأيديولوجية!
حين يرد العقل على الرحمة: قراءة في طلب الأم تريزا!
على ضفاف الرحمة، وبحضور معالي وزير العمل والشؤون الاجتماعية العراقي، بابكر محمود رسول، تغلّب منطق العقل على العاطفة، وتم تفكيك مقترح (الأم تريزا) من منظور امني وطني–قومي، في مقاربة بين الفكر الإنساني ومثالية العطاء... لأن الرحمة ليست كافية في كل زمان ومكان، فللضرورة أحكام!
في عام 1987، نشرتُ بحثًا ميدانيًا في مجلة "القضاء المحكمة" (العدد 3–4)، الموسوم: : "الرعاية الاجتماعية لمجهولي النسب في العراق – دراسة ميدانية" (2)
ونظرًا لقلة عدد الأطفال، مجهولي النسب، آنذاك (والذي بلغ 28 طفلًا فقط في عموم العراق!)، فقد تم اعتماد أسلوب الحصر الشامل في الدراسة، لضمان دقة النتائج وتكاملها. عقب انتهاء حرب "القادسية الثانية" وغزو الكويت، قامت (الأم تريزا) بزيارة العراق، وقدّمت مقترحًا إلى وزير العمل والشؤون الاجتماعية آنذاك،، يقضي بنقل الأطفال مجهولي النسب من العراق إلى ألمانيا، وإيطاليا، وغيرها من الدول الأوروبية، لرعايتهم وتوفير بيئة بديلة لهم.
على إثر ذلك، استدعانا السيد الوزير، وبحضور الدكتور مصباح الخيرو (مستشار الوزير)، للاستئناس برأي أكاديمي واجتماعي حول الموضوع. وخلال اللقاء، أبديت تحفظي على المقترح، انطلاقًا من اعتبارات لا اجتماعية فقط، بل أمنية وسياسية استراتيجية، حيث ذكرت لمعاليه:
"سيادة الوزير... هؤلاء الأطفال ليسوا مجرد محتاجين للرعاية كما يبدو في الظاهر! بل هم نواة مشروعٍ أخطر مما نتخيل، سيعاد إعدادهم وفقًا لما يمكن تسميته بـ(نظرية تنشئة الأجيال وبناء الدولة)، ليُوظفوا لاحقًا في سياقات تتجاوز تمامًا البُعد الإنساني أو الأخلاقي! هؤلاء، قد لا استبعد ان يتحولون إلى خلايا نائمة، تُزرع في قلب مجتمعنا، لا لشيء... سوى أن يُعاد إنتاجهم كأدوات جاهزة لتولي السلطة، دون جذور شرعية، ولا انتماء وطني حقيقي! إنها صناعة نخبة سياسية بديلة مستقبلا ... تُصنع وتُغذّى من خارج الحدود!!"
ترقبوا القسم الثاني... من هذا الحوار، نكشف الستار فيه مع معالي الوزير، وننقل لكم رأي رئاسة جمهورية العراق بكل وضوح وجرأة!
مصادر القسم الأول:
(1)https://www.hrw.org/news/2005/10/02/iraq-insurgent-groups-responsible-war-crimes
(2 )Insurgents Remotely-Detonate Retarded Women in Baghdad, Killing Dozens | WIRED
962 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع