ا.د.ابراهيم خليل العلاف
استاذ التاريخ الحديث المتمرس - جامعة الموصل
الدكتور علي الوردي وثورة ١٤ تموز١٩٥٨
والاستاذ المتمرس الدكتور علي الوردي 1913-1995 عالم اجتماع عراقي معروف ليس على صعيد العراق والوطن العربي وانما في العالم .هو ابن خلدون العراق ، وكاتب ، وباحث ، واكاديمي ما يزال معروفا ، وما تزال كتبه متداولة بين الناس ، وما تزال افكاره تثير الجدل والنقاش.
واليوم عرضت لكم جانبا من كتابه الذي الفه في مطلع الخمسينات من القرن الماضي والموسوم (الاحلام بين العلم والعقيدة) صدر سنة 1957 اي قبل ثورة 14 تموز1958 .
وقد سبق ان وجدت رسالة موجهة من الزعيم عبد الكريم قاسم رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة 1958-1963 ، الى الدكتور علي الوردي يشكره فيها على هديته عن الكتب التي اهداها للزعيم .وطبعا الزعيم يمتدح الكتب ويعدها مهمة جدا في فهم طبيعة المجتمع العراقي ، ويقدر الجهد المبذول فيها .
لكني في كتابه (الاحلام بين العلم والحقيقة) ، وفي طبعة جديدة صدرت بعد ثورة 14 تموز 1958 وجدت رأيا للدكتور علي الوردي ؛ رأي مهم ، وجديد ، يساعدنا في معرفة ، وفهم موقف الدكتور الوردي من ثورة 14 تموز 1958 .
وملخص الرأي هو تقييم الدكتور للثورة ، ولما قدمته للعراق فهو يقول بالنص : " ان ثورة 14 تموز 1958 ، كانت ثورة جذرية كبرى هزت عقول الناس ، وقلبت مفاهيمهم " .
ومعنى هذا ان المرحلة ، مرحلة ما بعد الثورة تحتاج الى كتاب وأُدباء وصحفيين من نوع جديد ، واهم ما يجب ان يفعله الكاتب هو ان يسير امام الجماهير لا وراءهم ، فالجماهير قد تتورط في أمور واخطاء مؤلمة لكن على القائد ان يصحح المسار . ويعترف الدكتور الوردي بأنه وجد نفسه عاجزا عن مواكبة الثورة بقلمه كما كان المنتظر منه، و" لكن الاسف لا يجدي في الامر شيئا “.
ويعترف الدكتور الوردي انه تخصص لا بل اصبح مولعا "بالنبش عن عيوب المجتمع ، وما يسيطر على عقول الناس من عقائد وعادات ضارة ، واصبح غير قادر على الكتابة في غيره الا قليلا وقد كان لي في ما مضى مجال ان اكتب فيه وان القى من القراء شيئا من التشجيع .اما الان بعد ان فتحت الثورة باب النشر والكتابة على مصراعيها فقد حق لي ولأمثالي ان نعتزل وان نترك المجال لغيرنا من ارباب الادب الجديد" .
هذا ما كتبه الوردي ، لكن الواقع اقول انا الدكتور ابراهيم العلاف ، كان غير ذلك فكتابات الوردي ما تزال حية ، ومطلوبة ، ومهمة ، وضرورية وتتجدد كل يوم .وكتابه الموسوعي (لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث ) بأجزائه التسعة دليل على حيوية واهمية ما كان يكتبه الدكتور الوردي وحتى كتابة هذا السطور نحن في العراق والوطن العربي بحاجة الى دراسة كتب الوردي ، وفهمها والاستفادة منها في ايجاد حلول لأمراضنا الاجتماعية وخاصة في مجال غلبة قيم البداوة ، وازدواجية الشخصية العراقية ، وتناشزها الاجتماعي .
من الطريف والمهم القول ان الاستاذ الدكتور علي الوردي ، وهو قد اصدر خلال العهد الملكي في العراق 1921-1958 خمسة كتب يقول :" ان بعضا من قراء كتبي هذه يعتبرونها "تمهيدا للثورة وتحبيذا لها " ، في حين كان آخرون يرونها "تنشر الافكار المدسوسة " وانا كاتب هذه السطور اميل الى انها احدثت تغييرا في الوعي بأهمية التغيير ، ونبذ الافكار ، والممارسات الخاطئة ، والمتخلفة ، والغيبية .
ويضيف الاستاذ الدكتور الوردي الى ما قاله تأكيده انه كان يحمل قبل ثورة 14 تموز 1958 "شيئا من النزعة الشعبية او اليسارية وقد ظهرت هذه النزعة في بعض كتبي السابقة بشيء من النضوج واتهمتني بها الحكومة احيانا واني اذ اعترف اليوم بهذه النزعة لا اريد ان افخر بها او اتبجح ولكن لابد من القول انه لعل وراء تلك النزعة الشعبية في نفسي دافعا ذاتيا يحفزني نحوها ؛ وهو اني كالملايين من ابناء الشعب عانيت من مذلة الفقر ، والم الحرمان ما عانيت ولهذا فإني لا استسيغ ان ارى فئة صغيرة تستكبر على الناس ، وتحتكر الفضل لها من دونهم " .
ان تلك النزعة الى الثورة طبيعية ، وهي في الواقع هدف التاريخ ؛ فالشعب اي شعب في العالم هو سيد نفسه وامره ، وان الفقير اولى بالعناية من الغني " .وضرب الدكتور الوردي على ذلك مثلا ، وقال ان احد المسؤولين في العهد البائد وهنا يقصد العهد الملكي وصفه بأنه في كتبه "يدس السم في العسل" .
ويعترف الدكتور الوردي انه كان يفعل ذلك ويقول : كنت ادس السم دسا خفيا يكاد لا يبين له طعم او ينتج الاثر المنشود منه " .كان يتبع –كما قال - " المراوغة والمداراة في مختلف كتاباتي ومحاضراتي اي كنت اتبع طريقة ابن المقفع في كتابه (كليلة ودمنة ) ، لهذا قيل عنه انه كان يدور حول الفكرة دون ان يدخل في صميمها .هذا كله صحيح ولا يريد ان يبرئ نفسه وطبعا شرح هذا فقال انه كان في العهد البائد مخيرا بين أمرين ؛ اما ان يفصح عن رأيه بصراحة تامة ، فيذهب الى المعتقل ، او يراوغ ويداري فيتخلص من المعتقل ، ومن مغبة قطع رزقه . وبعد تأمل وتمحيص وجد ان الامر الثاني اجدى واصلح له ، ولمن كان يدافع عنهم وهم الفقراء .
ويقينا انه ، وان كتب عن كارل ماركس وفلاديمير لينين والصراع الطبقي ولكنه لم يكن ماركسيا قحا او شيوعيا منظما وهنا استعيد مقولتي السابقة ان الشيوعيين لم يكونوا هم وحدهم ماركسيون او يحبون ماركس ويتمسكون بمقولاته ، فأنا عروبي قومي لكنني يساري ثوري اميل الى الفقراء ولي في هذا مقال منشور في موقعي الفرعي في (الحوار المتمدن ) .
واخيرا ، فإن الدكتور علي الوردي بعد ثورة 14 تموز 1958 حذر من الغوغاء وقال ان مفكرين لانشك في نزعتهم الشعبية والديموقراطية نبهوا الى خطر الغوغاء وان ماركس وانجلز في البيان الشيوعي أشارا الى خطر الغوغاء والامام علي بن ابي طالب قبل 1400 سنة قال :" ان الغوغاء همج رعاع ينعقون مع كل ناعق ويميلون مع كل ريح وقال عنهم كذلك انهم الذين اذا اجتمعوا ضروا واذا تفرقوا نفعوا ".والغوغاء ليسوا جزءا من الشعب وارادة الشعب تتمثل في القرارات الهادئة الرصينة التي تنبعث من مصلحة الاكثرية وبالفعل وقعت احداث في بعض مدن العراق ومنها الموصل وكركوك يقول الدكتور الوردي قادها الغوغاء كانت بشعة ، وخطيرة ، وفظيعة وتنبأ الدكتور الوردي كذلك بالصراع الحزبي الذي شهده العراق بعد الثورة ، والتنافس بين قادة الثورة واخيرا ينصح في ان يدرس الشباب طبيعة شعوبهم قبل ان يتحمسوا في سبيله لان الحماس الشديد يكون عادة ضار بالشعب ؛ فالشعب العراقي عاش زمنا طويلا تحت وطأة ظروف اقتصادية وسياسية جائرة وتحمل سياط الجلاوزة فيها بصبر عجيب ، والعراقيون تحملوا الظلم خلال اربعين عاما لا بل على مدى مئات السنين واعتاد على اخلاق ليس من السهل عليه التخلص منها فور قيام الثورة فيه ، وثمة جماهير غفيرة كانت تملأ شوارع بغداد وهي تهتف بالسلام وتكاد تذوب هياما به ، ولكنها كانت في الوقت ذاته تحمل الحبال تهدد بها من لا يؤيدها في دعوتها السلمية وطبعا لهذا علاقة بالازدواجية التي كثيرا ما تحدث عنها الدكتور الوردي .
ينصح الدكتور الوردي انه بعد الثورة ليس من المقبول ان يجلس الكاتب والمفكر والاكاديمي على التل متفرجا . ويقول انه حقا يُشفق على الزعيم عبد الكريم قاسم، وهو يقود ثورة كبرى كثورة 14 تموز، وفي مجتمع كالمجتمع العراقي؛ لهذا أكد الدكتور الوردي ان موقف الزعيم حرج، ودقيق، ومُحّير.
وحقا كان الامر - كما يراه كاتب هذه السطور- هكذا، والتاريخ هو أيضا هكذا احداث تقع نتيجة ظروف واسباب، وعلى المؤرخ ان يفككها ويحللها ويقدم رأيا موضوعيا ومنصفا لها.
579 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع