د.سعد العبيدي
من دفاتر الحرب: صولة رجل واحد
العميد الركن عباس مزعل يجلس في غرفة المعيشة بعد العشاء، يرفع فنجان الشاي، ينظر إلى طفلته الصغيرة بنظرة حب رقيقة. يرن الهاتف؛ يلتقطه بلا تردد، صوت قائد الفرقة: عميد عباس، اقطع الإجازة والتحق الآن، هناك مؤشرات لهجوم إيراني قد بدأت.
ينفض عباس بقايا المساء عن كتفيه، يهمس للعائلة بكلمات طمأنة سريعة مثل كل مرة، يرتدي بدلة القوات الخاصة التي تمنحه هدوءًا مألوفًا، ويقود سيارته العسكرية بنفسه بعد أن عجز عن استدعاء السائق. الطريق إلى مقر لوائه طويلٌ كوقع الحرب.
في غرفة الحركات تُعرض الخريطة، يصل التقرير الاستخباري: سقوط مقر الفرقة، وتوسع الخرق باتجاه طريق بصرة–عمارة بهدف قطعه وعزل الجنوب. يستلم الأمر الإنذاري: هجوم مقابل ينفذه لواؤه. الشروع بالساعة ١٠٠٠. يتصل بآمري الأفواج الثلاثة وهو في الطريق إليهم، يوزع المهام في جمل قصيرة لا تحتمل التأويل. لا وقت للنقاش؛ ساعة الصفر تقترب.
قبل البدء بعشر دقائق يراجع مع هيئة ركنه الأهداف وخطة النيران، والإسناد المدفعي، ويأمر ضابط المجس الجوي أن يبقى قريبًا منه. عند العاشرة تمامًا يعطي الإشارة بالشروع.
تتحرك الصفوف؛ يغدق العدو عليهم نيران مدفعيته التي أُعدّت لإسناد هجوم الأمس. الميدان مكشوف؛ لا ستار يحمي من الرؤية في النهار ولا من القذائف التي تتساقط مثل زخات المطر. يتقدمان الهجوم الأمامي فوجان، يتبعهما آخر ببطءٍ شديد؛ يسقط أمراؤهم الثلاثة شهداء، وتتبدل الأسماء بآخرين لملء الفراغ.
يأتي اتصال من اللواء جواد رئيس الأركان، صوته يحمل إشادة وتفحّصًا: أبطال رجال القوات الخاصة. ما الموقف؟
- وصلنا منتصف المسافة سيدي. خسائرنا كثيرة، لكننا مصرّون على تحقيق الهدف.
مع الضياء الأخير يعلن عباس احتلال الأهداف المكلف بها، ويرفع العلم العراقي على مقر الفرقة الذي سقط بالأمس. يتلقى أمراً: سلّموا المواقع إلى اللواء ٣١٤ حال اكتمال وصوله، وانسحبوا لإعادة التنظيم. تُسلم آخر المواقع ظهر اليوم التالي تحت وابل القصف الشديد. وهو في طريق الانسحاب يُستدعى إلى المقر المتقدّم للقيادة العامة؛ تبدو ملامح الحاضرين متعبة، والهمسات قصيرة وقاسية. يدخل مقرًا تحت الأرض؛ يجده مزدحمًا وضيقًا، تنتشر على حيطانه خرائط طمسها الغبار، وطاولات متفرقة عليها دفاتر وهواتف، وضباط ركن يتحركون بينها، يقرؤون الإحداثيات ويكتبون أرقامًا وكلماتٍ مختصرة، على وجوههم آثار ليالٍ بلا نوم. من فوق كل ذلك يصل صوت القائد العام، فيسكت الجميع كأنهم في قاعة درس. يختار عضو القيادة العامة اللواء الركن هشام كلماته بعناية لتفادي غضب القائد: كبدنا العدو آلاف الخسائر سيدي، والموقف في طريقه إلى التحسن إن شاء الله، وأضاف: سوف أخرج للاستطلاع القريب وأوافي سيادتكم بالموقف الدقيق. ثم يلتفت صوب عباس: لقد استعاد العدو كافة الأهداف التي حررتها بالأمس، هيّئ لواءك للهجوم عليها اليوم حتمًا، وتعال معي لنستطلع الساتر الأمامي معًا قبل الشروع.
يسير إلى جانبه ويسلمه تقريرَ الخسائر، ثم يرفع نظره ببطء. وجهه باهت، لكنه يتكلّم بصوت رصين يختلط به الإرهاق والشجاعة: سيدي، قدّمت إلى الفرقة والفيلق هذا التقرير؛ لوائي تكبّد خسائر تزيد على ثمانين بالمئة. قدرته القتالية الفعلية الآن في حدود سريةٍ واحدة؛ الأفواج مجرد هياكل بلا آمرين، ولم يبقَ في مقرّي سوى مقدم اللواء. عوّضونا بفوجين أو حتى فوجٍ مشاةٍ واحد، وسأستعيد المواقع أو أستشهد في المحاولة.
تخف أصوات الانفجارات لحظة، يستلقيان خلف الساتر، فيرد اللواء هشام ببرودة الحساب: لا احتياط لدينا. كل القطعات التي بإمرتنا زُجّت بالقتال. أوامر القائد العام: استكمال الهجوم واستعادة المواضع الساقطة بأي ثمن. وطلبك فوج لتنفيذ الواجب في هذه الظروف التعجيزية ينمُّ عن عصيانٍ لأوامر سيادته وتخاذل واضح.
تصعد في صدره موجات من الذاكرة؛ صور ليالٍ نام فيها فوق الخرائط، رفاقٌ حملهم التراب قبل أن يبلغوا غدًا كانوا يحلمون به، ووقائع لا تُمحى من نقاطِ اشتعالٍ استعادها بعرقٍ وجلدٍ لا يندثر. قلبه يضرب بإيقاعٍ متباعد بين الإرهاق والغضب، وعيناه تثبتان على الحاضرين كقاضٍ يرى حكماً مُعوجًّا، والفم يحتفظ بكلماتٍ ثقيلةٍ تزنها دماء رجالٍ سقطت على الطريق. يشعر بخفقٍ بطيءٍ من الأسى على ما ضاع، ثم بشرارةٍ من عزمٍ لا يلين؛ العجز عن حماية من كانوا تحت رايته صارت تجرحه، والاتهام يلهب صدره كما يلهب الفحمُ النار.
في هذا الصمت المحشو بالأفكار، يقف ليقول بوجهٍ لا ينكسر: هذا ليس تخاذلاً سيدي. إنما أقلّ من المقاييس التقليدية التي تعلمناها للهجوم على لواءٍ في المواجهة. إن اعتبرتم ذلك تخاذلاً فسأثبت لكم العكس.
يدير ظهره لكل من خلف الساتر. يمشي بخطوات هادئة باتجاه العدو، كل خطوة منقوشة بذاكرة معركة لا تُمحى: وجه طفلته يلمع في رأسه للحظة، ومواقع أعادها بعرقٍ لا تفارقه ذكرى الكدّ. يحمل في يده تقرير الخسائر كما يحمل دعاءً أخيرًا، وفي يده الأخرى مسدسًا مصوبًا باتجاه العدو في صولة يائسة أخيرة. لا يقطع أكثر من بضعة أمتار في الأرض الحرام حين تقطع رصاصة صفاء الهواء وتُقسِم زمنه إلى نصفين. يسقط وكأن ستارًا سُدل عن مشهد طال انتظاره. يلتفت اللواء إلى مرافقيه، يأمرهم بالعودة إلى مقر القيادة بلا تردد؛ وعلى الأرض يبقى جسد واحد، وسؤالٌ واحد يعلو: هل إدارة الجيوش بهذه الطريقة تضمن كسب الحرب؟ الجواب بالنفي نقش على جسد عباس الباقي هناك في أرض الحرام.
723 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع