بين الضرورة والمصلحة: إتيكيت الثقافة تتآكل من الداخل

إبراهيم فاضل الناصري


بين الضرورة والمصلحة:إتيكيت الثقافة تتآكل من الداخل

كان يُفترض أن يشكّل المشهد الثقافي المحلي فضاءً نقيًا تتصدّره قيم المهنية والتواصل والتقدير المتبادل، غير أن ممارسات دخيلة بدأت تتسلّل إليه وتشوّه نقاءه، لتلوّن الفعل الثقافي بألوان الفئوية والمزاجية والمنفعة اللحظية. ولم يعد الغياب عن الفعاليات الثقافية مجرد ظرف عرضي أو اختلاف في المواعيد، بل صار في بعض الأحيان فعلًا مقصودًا يُقصى فيه من يستحق الحضور ويُستدعى آخرون عند الطلب، وكأن الثقافة أصبحت مجالًا تحكمه الحسابات لا القيم.
هذا التحوّل يكشف عن حاجة حقيقية لإعادة النظر في منظومة العلاقات داخل الوسط الثقافي، لا سيما مع تنامي مظاهر التجاهل المقصود التي تُغلف أحيانًا بلبوس المجاملة الاجتماعية. فقد بات من المألوف أن نرى نماذج تتقن فنّ الظهور عند الحاجة وتغيب حين يكون الحضور واجبًا مهنيًا أو أخلاقيًا، في دلالة على خلل في منظومة القيم التي يفترض أن تجمع المثقفين.
وقد ظهر هذا الخلل جليًا خلال مهرجان الشعر العربي الذي أُقيم مؤخرًا في تكريت، حيث كشفت الصور الرسمية عن غياب عدد من الأسماء الأدبية والفكرية التي كان حضورها ضرورة طبيعية في مثل هذه الفعالية. ولم يكن غيابها سهوًا، بل كان نتاجًا لسياسة انتقائية في دعوات الحضور، وكأن العلاقات الثقافية أصبحت أداة لتبادل المنافع لا إطارًا لتكريس الاعتبار المهني.
إن هذا النمط من السلوك لا يكشف تراجع اللياقة الاجتماعية فحسب، بل يعكس ثقافة ترى في الزميل رصيدًا يُستثمر عند الحاجة ويُستغنى عنه عند انتفاء المصلحة. وحين تتحوّل العلاقات الثقافية إلى حسابات انتخابية ضيقة، تفقد المؤسسات الثقافية مكانتها، ويتحوّل المشهد الإبداعي إلى ساحة مصالح صغيرة لا تليق بتاريخ الوسط الثقافي العراقي ولا بكرامة الفعل الإبداعي.
وليس جوهر المشكلة في التجاهل بحد ذاته، بل في الإصرار على إدارة العلاقات بمنطق “المنفعة المتقطعة”، حيث يصبح الاحترام رفاهية، والوفاء ترفًا، والحضور استجابة ظرفية لا ممارسة قيمية. ومع استمرار هذا النمط، ستظل المناسبات الثقافية فضاءات مغلقة على وجوه محددة ودعوات موجهة مسبقًا، ويظل الآخرون يُستدعون فقط حين تكون الحاجة مقدمة على الاعتراف.
إن استعادة المشهد الثقافي المحلي لمكانته الراقية رهن بتحريره من الفئوية الضيقة والمصالح العابرة، وتطهيره من ثقافات الإقصاء والتغليب والمصادرة. فالثقافة موقف وأخلاق ومسؤولية، وفضاء يتشارك فيه الجميع بندّية، مهما اختلفت مشاربهم وتعددت منطلقاتهم.
ومن لا يحترم زملاءه في الأيام العادية، لا يحق له طرق أبوابهم في المواسم الاستثنائية. فالأدب لا ينبغي أن يُدار بمنطق “الحضور عند الطلب”، ولا التاريخ يغفر لمن جعل المصلحة فوق قيمة الثقافة نفسها.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

993 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع