د. علي محمد فخرو
منذ أن هبَت رياح الربيع العربي في تونس والى يومنا هذا وجدت أنظمة الحكم العربية نفسها منشغلة ليل نهار بنصب خشبات مسارح المحاكمات في محاكم العرب، عبر طول وعرض الوطن العربي كلُه. لم يسلم قطر عربي واحد من المشاركة في التأليف أو التمثيل، في الاضحاك أو الابكاء، في الهرج والمرج. والظاهر أننا سنعيش ذلك عبر سنوات كثيرة قادمة.
بعد اليوم ستواجه المجتمعات العربية قوانين مكافحة الارهاب والتي بسبب تطرُف مخاوفها المريضة وهلوساتها قد تصبح هي بدورها قوانين ارهابية. بعد اليوم سيكون كلُ متظاهر معارض عرضة للمحاكمة بسبب توقيت ومكان وشعارات المظاهرة وهتافات المتظاهرين. بعد اليوم سيتعّرض كلٌ صاحب رأي للاعدام المعنوي ثم يجرجر الى مسارح المحاكم. بعد اليوم لن يستطيع أحد أن يضرب عن العمل لأسباب سياسية، اذ سيحاكم لأنه أضر بسيرورة الحياة الاقتصادية. بعد اليوم ستمتلئ الأرض العربية بمحاكمات الثَارات المتبادلة، اذ كلما ستجييء أمُة ستلعن أختها.
هل نبالغ ؟ أبدأ، فالأرض العربية ستحتاج الى مئات الألوف من القضاة والمحامين لمواجهة موجة المحاكمات العاتية.
من هنا فان موضوع القضاء والقضاة، مواضيع من مثل سلطاتهم، مدى استقلاليتهم، مقدار تأثُرهم ان لم يكن خضوعهم للسلطتين التنفيذية والتشريعية، مدى تأثُر أحكامهم بولاءاتهم العائلية أو المذهبية أو القبلية، النظام الاداري والمالي الذي يحكم تعيين القضاة ورواتبهم وترقياتهم ومساءلتهم.. هذا الموضوع أصبح لا يقلُ أهمية عن موضوع الانتقال الى الديموقراطية وموضوع الحكم الرشيد.
لماذا أهمية طرح مواضيع القضاء والقضاة ذاك؟ لأن هناك دلائل على أن مؤسسة القضاء العربية، مع الاختلاف بالطبع في الحجم والشدَة، مصابة بعلل جوهرية. فهناك اشكاليات عدم الكفاءة أو عدم النزاهة أو عدم الاستقلالية عند البعض، وهناك اشكاليات الرشوة وبيع الضمائر والخضوع لتوجيهات رجالات السياسة والعسكر والأمن وأصحاب المال. وهناك اشكاليات انغماس البعض في الصراعات الدينية والمذهبية والقبلية والعشائرية والعرقية والايديولوجية.
وفي المدة الأخيرة أطلت علينا بشكل مفجع اشكالية محاكمة المدنيين في المحاكم العسكرية وعلى أيدي عساكر موالين للمؤسسة التي ينتمون لها ولصرامة وتزمُت منهجية تفكيرها.
ويضاف الى كل ذلك ندرة برامج التدريب الدوري واعادة التأهيل لمن يحتاجونه، بحيث ننتهي بأعداد متزايدة من ممارسي أصولية قانونية عفى عليها الزمن ومن عاجزين عن الانفتاح والمتابعة لمستجدات العصر في حقل يزخر بالتغييرات الكبرى.
بسبب أهمية هذا الموضوع وانعكاساته على الملايين من العرب في المستقبل القريب، وبسبب عدم ايلائه مايستحق من مكانة في النقاشات السياسية الدائرة حاليا، اذ تطغي المناقشات السياسية والاقتصادية، وبسبب التعامل مع الموضوع بعموميات من المطالب من مثل القضاء المستقل النزيه العادل، بسبب كل ذلك هناك حاجة ملحة لأن تضع قوى ثورات وحراكات الربيع العربي هذا الموضوع في مقدمة قائمة برامجها التي تطرحها.
المطلوب ليس طرح الأوصاف النظرية العامة، على أهميتها، ولكن المطلوب هو طرح برامج محددة لمعالجة هذا الموضوع الحيوي.
هناك حاجة لوضع تصوُر عَما يعنيه استقلال القضاء، استقلاله عن الخضوع للسلطتين التنفيذية والتشريعية وتدخُلاتهما. ان استقلال القضاء يأخذ اشكالا تنظيمية مختلفة في مجتمعات العالم. ومع ذلك يجب أن يبقى الجوهر المتمثل في تمتٌع القاضي بالحرية والاستقلال في تفكيره وفي اصدار الأحكام وفي فهم روح القوانين. ومن أجل تأمين ذلك الاستقلال ستكون هناك حاجة لأنظمة تتعلق بالجهة التي تعين القضاة وبالاطمئنان الوظيفي للقاضي مهما كانت الاحكام التي يصدرها لا تتوافق مع رغبات هذه الجهة أو تلك، وكذلك بالقضايا المالية والترقيات والعلاقات مع الرؤساء القضاة.
ولن يكفي أن يكون القضاء مستقلا، بل لابدُ أن يكون نزيها عادلا، قابلا للمحاسبة اذا أخفق في أن يكون كذلك. وهذا بدوره سيحتاج لنظام صارم عادل للمحاسبة والاعفاء ان لزم الأمر. وقد يحتاج كل ذلك لاقتراح تعديلات في الدساتير والقوانين.
نحن أمام مهمة لن تكون أقل أهمية وحاجة للتفصيل عن مهمات وضع تصورات برنامجية للديموقراطية التي نسعى لها أو لنوع الاقتصاد والعلاقات الاقتصادية العادلة التي نرنو لتحقيقها.
معيار الحكم على القضاء أو جزه حديث نبي الاسلام (صلى الله عليه وسلم) من أن «القضاة ثلاثة: رجل علم الحق فقضى به فهو في الجنة، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار، ورجل عرف الحق فجار فهو في النار».
ومعيار قوة واستقلال القضاء أوجزه أحد قضاة المحكمة العليا الأميركية، القاضي ثرجود مارشال، من «أننا يجب ألا ننسى قط بأن مصدر القوة الوحيد للقضاة هو مقدار احترام الناس لهم».
لنتذكر بأن القضاء المستقل العادل هو من أهم دعائم حماية الديموقراطية.
783 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع