زيد الحلي
بهدوء يقرب إلى انسيابية مياه نبع ، ونسمة هواء ربيعية في صيف قائظ ، أطلت علينا قناة " العباسية " الفضائية ، وبعيدا عن المماحكة السياسية ، وما يحب البعض من نهجها ..
او يغضب البعض الآخر من توجهها ، إلا ان الحق المهني والإعلامي يفرض علينا القول ، ان هذه القناة بإمكانياتها التي تبدو متواضعة ، قياساً الى ما نلمسه في قنوات حديثة أخرى من بهرجة وبذخ ، أخذت قاعدة مشاهدتها تتسع ، وفي أكثر من مكان زرته في بغداد ومحافظات عديدة ، لاحظت ان مؤشر "الريمونت" اختار قناة " العباسية " لتكون ضيفة الدائمة ..
وكانت مصادفة ، جميلة ، تقترب من السلوى الممهورة بالحزن الشفيف ان تعرض القناة برنامجا فريدا عن الراحل المبدع الكبير جواد سليم ليلة الجمعة على السبت 6 ــ7 من الشهر الحالي ، في ذات الوقت الذي نشرتُ فيه انا موضوعا عن نصب الحرية لجواد سليم ،في صحيفة " الزمان " الدولية ، اعادت نشره وسائل إعلام رصينة عديدة ، وبقدر فرحي بهذا التزامن ، حزنت على جواد سليم ، الذي شاهدته في الفلم الوثائقي لـ " العباسية " وهو يحادث طلبته ، في بداية ستينيات القرن الماضي ، بعنفوان وثقة ، بدا فيه متحدياً للموت الذي ينتظره بعد اسابيع قليلة على هذه المشاهد المصورة .. كان فلما فريدا ، عن فنان فريد ..
ورغم ان اكثر من شخص ، ممن تحدثتُ معه عن هذه المشاهد الوثائقية ، في هذا الفلم ، اكدوا ان الفلم ليس جديدا ، وقد سبق ان شاهدوه ، لكنه كما يبدو رُكن جانبا ، لتعيد " العباسية " اليه الحياة ، لتظهره من جديد للجيل الحالي ، جواد سليم بلحمه وشحمه ، متحدثا ، هاشاً ، باشاً ، ولتظهر لهم ، بغداد في ايام جواد سليم ، كم كانت نظيفة ، جميلة ، بشوارعها وحدائقها ، وأناقة رجالها ونسائها واطفالها ، عكس بغداد ... اليوم .
وما دمنا ، نتحدث عن جواد سليم ، وعن القناة التي اطل منها ، نشير الى برنامج " وقفة مع هارون محمد " الذي تقدمه القناة ، هذا البرنامج المتسم بطراوة الكلام ، غير المعد سلفا ، المليئ بالاستذكارات وايراد الاسماء، واللقطات السياسية عن واقع عراقي مضى ، وواقع معاش ، يفرض علينا مشاهدته ، سواء كنا مع رؤاه او ضدها .. فلحكايات التلفزيون شروطها ، وقد امتلك الأستاذ هارون محمد ناصية هذه الشروط ، نتيجة خبرته في الصحافة والإعلام والكتابة الممتدة لخمسين عاما ..
والى جانب هذه الوقفة يطلع علينا ساحر الكلمة ، الصديق الرائع " على السوداني " ببرنامج ، لم أجد له شبيها ، طيلة حياتي ، أسمه
" كرسي فوق .... كرسي تحت " فعلى هذين الكرسيين ، يتموج السوداني بعفوية تقترب الى القلب قبل العين ، واراهن على ان من يشاهد حلقة منه ، سيدمن على ترقب الحلقات الأخرى ... برنامج ليس ككل البرامج ..
"سودانية "علي المعروفة ، تتجلى في هذا البرنامج بأحلى صورها ..
اما برنامج " شجن عراقي" للزميل اسعد الغريري ، فهو اسم على مسمى ، برنامج مفعم بشجن عراقي آخاذ ، يغوص في عمق أعماق الوجدان الجمعي للعرقيين ، فإلي جانب معلوماته الفنية الثرة ، نجد اختياراته للأغاني تتسم بالعذوبة والرقي .. فما احلي شحن اسعد الغريري ، وهو يتجول بين ذاكرتنا مؤكدا ، ثراء الفن العراقي ، الذي يحاول البعض ان "يعدمه" اليوم ، متعمدا دفنه في تراب الحقد ... لأن هذا البعض لا يروق له ضياء الفجر ، وتسكنه نزعة الخفافيش التي تستطيب الكهوف والظلام .. فمرحى للغريري ، الذي يبثنا شجنا عراقيا ، بوعاء من المحبة ..
ويطل من على شاشة القناة الإعلامي عماد الدين النجار وهو يقدم برنامجه ( قضايا ساخنة ) الذي يستضيف عددا من السياسيين والإعلاميين من المهتمين بالشأن العراقي .. كما تقدم القناة قراءة يومية لكتابات عراقية مما تنشره الصحف والمواقع الالكترونية .. الى ذلك تستمر القناة في تقديم برامج وثائقية ، عراقية وعالمية ، ولا زال برنامجها عن مدينة بغداد وشارعها القتيل " شارع الرشيد " الذي عرضته مؤخرا ، وأتمنى إعادته ، يحفر في خاطري جرحا سوف لن يندمل ، بسبب ما آل اليه حال بغداد العباسية من قهر وإهمال وتعسف !!
وتختار القناة بين فترة وأخرى أغان من الزمن الجميل لأم كلثوم وعبد الوهاب وفريد الأطرش وناظم الغزالي وكاظم الساهر، ووردة الجزائرية ..
ولعل ما جعلني أتوجه للتو إلى حاسبتي ، لأسجل انطباعاتي عن هذه القناة ، هو الفلم الوثائقي عن " جواد سليم " االذي تحدثتُ عنه واتمنى على القناة إعادة عرضه ، مرة ومرات ، فنصب " الحرية " الذي ولد على يديه مريض جدا حاليا ، ويشكو تداعي اعمدته ، واسوداد تماثيله !!
اضافة الى سبب آخر هو ، إعادة عرضها للمسلسل العراقي الخالد " حكاية المدن الثلاث " حيث كان للفن اشتراطاته ، وللممثلين هيبتهم ..
ان تجربة قناة " العباسية " تستحق التوقف ، فهي بينت لنا بأن البذخ المالي لا يصنع مشاهدة لأية قناة ، بالعكس تماما من العفوية .. فالعفوية مثل صديق ، صدوق ، تأنس اليه ، بغض النظر عن ملبسه..وإنني اجزم ، بأن " العباسية " هي اقل قناة كلفة ، بل اقل من ميزانية صحيفة ، لكنها رغم بثها الذي لم يكمل شهره السابع ، أوسع انتشارا من قنوات مضى عليها سنين !!
للذين يشكوّن في سطوري ، أرفق تردد القناة (11515، 27500، 3/4 على قمر النايل سات ) مع تأكيدي بأنني أتحدث بمهنية ، وليست سياسية ، عن قناة حديثة عرفت كيف تحفر لها مكانا في صخرة المشاهدة ، دون ان يسجل عليّ البعض موقفا سياسيا ... فبين الرأي المهني والرأي السياسي فرق شاسع ، مع إيماني المطلق بأن العروبة هي سمائي ووعائي ..
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
1901 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع