د. سيّار الجميل
مؤرخ عراقي
لا عجب انّ المجتمع العراقي عاشَ منذ اكثر من نصف قرن جملة من التناقضات والمشكلات ، ونكلت به الانظمة العسكرية والسلطات الاحادية ، وتلاعبت بمقدراته الاهواء والاحزاب والايديولوجيات .. وفقد المزيد من قيمه ومبادئه، واختلط على الناس الصواب بالخطأ .. لقد مرّ المجتمع العراقي بمخاضات وتحديات صعبة للغاية مثلتها انقلابات وحروب وحصارات واحتلالات حتى وجد نفسه اليوم ازاء " دولة " مهترئة ، لم يألف مثلها ابدا .. دولة تغيب عنها المؤسسات ، وحكومة يستشري فيها الفساد ، وقد ضاعت منها كل القيم والاعتبارات ، بل وانعكس عليها صراع كل الاجندات .. وغدت تغوص في دوامة من الازمات ، في مرحلتين من ثماني سنوات ، وسواء جدد رئيسها ولايته ثالثة ام لم يفز بالرئاسة من جديد ، فهي نتائج عملية سياسية خاطئة ومشوّهة !
عملية لم تقو على اعادة بناء المؤسسات ، عملية عملت على هتك مجتمع متنوع ، وجعله عرضة للتشظي والتفسخّات ، فنمت في شرائحه بذور كل الانقسامات .. وتفشّت في تنوعاته الاحقاد والكراهية والصراعات ، وخصوصا بفعل تفاقم حجم التمايزات الطائفية البغيضة التي اججتها قوى واحزاب وميليشيات ،فكثرت فيه الانتماءات على حساب القيم الوطنية روحا ونزعة ومشروعا .. تلك القيم التي تعب الاباء الاوائل في زرعها وانمائها ورعايتها .. وهي التي ضحى من اجلها بدمائهم وازمانهم وجهودهم آلاف مؤلفة ، بل ملايين من العراقيين .. وكانت ستغدو " اجمل مشروع " لو رسمت على نحو عقلاني مدني حضاري اثر ازالة آثار الاحتلال عام 2003 ، وكانت ستؤتي اكلها لما كان للعراقيين من ارادة وطنية ، وروح مشتركة ، ونخب مبدعة ، وقوى فاعلة ، ولكن تكالب الطائفيون مع الاحتلال لينشروا الانقسامات بين ( المكوّنات ) – كما اسموها – فتغدو الاوبئة السياسية بسمومها الصفراء تكتسح العراق ، ومن ثم تنتقل عدواها الى كل المحيط العربي والاسلامي ، لتبدأ ردود الفعل قوية وعنيفة لدى العراقيين !
اكثر من عشر سنوات مرت ، والثيران الطائفية تصارع من اجل اشعال الحرب الاهلية بين العراقيين من خلال الاقصاء والتهميش والاساءة بين ( المكوّنات ) التي استخدمت بديلا لتسمية ( الشعب ) .. والنار تضطرم تحت الرماد العراقية ، ويقف هناك من يؤجّجها وينفخ في اوارها .. واجتاح الارهاب العراق ليأكل العراقيين اكلا من دون اي علاج .. مع تفشي اعلام هابط ، واشاعة سياسات حاقدة تزرع الثارات بين العراقيين الذين لم يكونوا هكذا ابدا ، في حين بدأوا يواجهون نهجا منظما في ترسيخ الضغائن والكراهية بين العراقيين حتى وصل الى نخب المثقفين والاكاديميين ويا للاسف الشديد .. وبدأ التداول علنا بأن من فاز بالسلطة لا يتنازل عنها ، وكأنها مسألة حياة او موت بين العراقيين انفسهم بعد ان خلقوا التمايزات بينهم ..
واخذ التصعيد السلطوي يسري ضد كل من ينتقد او يعترض فيجعلوه في القائمة السوداء ، ويتهّموه بأبشع التهم ، ويسقطوه ويشوهوا سمعته .. وبات كلّ عراقي لا يعرف من هو الارهابي والتكفيري والداعشي .. الخ في حين غدت حالة الهروب من السجون بالمئات لا تعرف اسبابها ولا تعالج فضائحها رسميا .. حكومة بقيت تنحدر اخلاقيا بحيث تسكت على جرائم فساد كبرى ، وتشارك في صفقاتها ، ولم يعاقب اي مسؤول اجرم في حق شعبه وبلده والمال العام ، ولم ينله اي حساب ولا عقاب ! في حين تحاصر الحكومة من خلال الجيش .. مدنا كاملة بكل ما تضمّه من عشرات الالوف المؤلفة من الناس الامنين ، او قتلهم او نزوحهم او تطويقهم وفرض الحصارات عليهم !
لقد مضت عشر سنوات والقادة العراقيون يكذبون على انفسهم وعلى شعبهم انهم يحكمون باسم المشاركة او الشراكة او التحالفات او التكتلات وهم من الكاذبين المارقين ! لقد توضّح اليوم جليّا من الذي يقوم بصنع الازمات فتتفاقم المعضلات ، ويخطط اساليبها ، ويبرمج التوقيتات ، وهو يستخدم اسوأ الديماغوجيات مع شعب يعامله قادته بمنتهى القسوة والفظاظة والكراهية ، حيث كان دولة الرئيس يعد الناس بتنفيذ مطالبهم لأكثر من سنة على الاعتصامات ، ولكنه يوّقت ويبرمج سحقها كي تكون فريسة لكسب اصوات انتخابية معجونة بدماء العراقيين ! الكل طالبوا الحكومة منذ ثماني سنوات بكشف الحقائق ومعالجة المشكلات ، ومنذ ان حمل القاضي راضي الراضي حقائبه المليئة بأسرار الفاسدين ، لكنهّا " حكومة " كانت ولم تزل تفعل العكس تماما ، وتقصي كل النزهاء والاذكياء . ان كل العقلاء يدركون تماما ان عهدا سياسيا بليدا يمر اليوم بالعراق الذي تأكله الاحقاد والانقسامات الطائفية والفساد والاختراقات .. وبدا واضحا للجميع بأن الحكومة مصدرها ، ولابد من عقد محاكمة لمن هو مسؤول عنها !
ويعلم الجميع أنه لو امتلأ العراق ضجيجا بفعل الاف الكتاب المناضلين والخطباء المعارضين والمتشددين المسالمين ، فالقوة الحقيقية تبقى بيد المتسلطين والمتنفذين وصناع القرارات البائسة ومن يدور حولهم من الحواشي والاذناب والجواسيس والقوات .. والفعل يبقى للأوامر والقرارات لا للخطب والمقالات .. ان السلطة بيدها كل المفاتيح في اشعال الفتن او اخماد المشكلات .. والناس – كما قيل – على دين ملوكهم ، اذ ترى الجموع تنساق للأقوى دوما ، وتصفق للاعتي ظلما ، فكيف يكون الحال وكل المسؤولين العراقيين ينفخون في النار ، او يمارسون الاحادية ، او يشعلون الطائفية .. ؟؟ ما بالكم بنخبة حاكمة لا تعرف فقه السياسة للجمع بين المتناقضات ؟ ما رأيكم بقادة يمايزون بين العراقيين ويذكون حريق الفتنة ويحظّون على اخذ الثارات ؟ هل آمنوا يوما بالحياة المشتركة والمنسجمة على اسس وطنية وتعايشية بين كل الانواع العراقية ؟ لماذا تعمدوا العمل على تفسيخ المجتمع الواحد ورئيس حكومة يقسم شعبه الى تصنيف مثير بين يزيديين وحسينيين ؟
لماذا يتبع الالتفاف والمناورة في حل المشكلات والازمات المزمنة ؟ ما الاجندة السياسية التي يمارسها العراق في الاقليم ؟ ما الاجندة العقائدية في كل ما يرتكب ضد المجتمع ؟ لماذا التشبث بالفاسدين وعدم محاسبتهم وتسليمهم مسؤوليات جسام ؟ لماذا السكوت الكامل على مشروعات فساد تتهم الحكومة بصفقات مفضوحة ؟ لماذا بعثرة المال العام بالمليارات والعراق يغرق في الحضيض ؟ لماذا تمنح المناصب للجهلاء ، وتسلم المسؤوليات للأغبياء ، اولئك الذين لم يمتلكوا خبرة في الدولة ولا معرفة للمجتمع ؟ لماذا يكتشف الارهاب في محافظة عراقية معينة لتعلن الحرب ضد الانبار ، في حين تجتاح الانفجارات كل العراق ؟ اذا كانت الحكومة منشغلة وقد اشغلت العالم ضد الارهاب ، فماذا الذي يجعلها تصدر قرارات بصدد انشاء محافظات جديدة ، وهي كافية لخلق مشكلات من نوع آخر ! وكأن العراقيين لا يعرفون ما الذي يتم اثارته واختلاقه من اجل البقاء في السلطة .
اذا كنت قد عارضت الدستور حين صدوره ولم ازل ، ذاك الذي روجوا له ورقصوا من اجله ، ولكن بدا انهم اول من خان الدستور وضرب بنوده عرض الحائط .. واذا كنت قد عارضت نهج العملية السياسية منذ بداية العمل بها ، فان ذلك لا يجعلني خائنا او ارهابيا او بعثيا او داعشيا .. واذا كنت قد نبهّت الى حجم المخاطر التي سنصادفها جراء السياسات البليدة التي اتبعتها الحكومة منذ عشر سنوات ، فان ذلك يمنحني شهادة حسن سلوك وطني لا يحملها الاخرون ممن ساهموا في سحق العراق ، وتمزيق مجتمعه ، وافناء موارده ، واضعاف مؤسساته ، وضياع اجياله .. او اولئك الذين صفقوا وما زالوا يصفقون للمسؤولين على هذا العهد السياسي البائس !
474 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع