د. سيّار الجميل
أحدّثّكم هذا الاسبوع عن اندثار " العدالة الانتقاليّة " في العراق .. وتجاوزات حكومة تتراقص على جراح الناس ، ولا يحرّكها ضمير أو وجدان أو غيرة لما يحدث في العراق ، ولما يعاني منه كلّ العراقيين ، تراها ساكتة ، او صامتة ، او غير مكترثة ولا آبهة بما يحلّ بالعراقيين من كوارث ومآس ونكبات ، ولا تجد على شاشات الفضائيات الا تصريحات ممسوخة ، واملاءات مسلوخة ، وتهديدات منسوخة ، وقرارات مسؤولين مشبوهة ، واتهامات مفضوحة ، وكأننا في مسرح كوميدي ساخر يثير الاستهزاء تارة ويهيج الغرائز تارة اخرى ..
والبرلمان يقهقه على كلّ ما يجري ، وكم كانت اجتماعاته ولم تزل مجرّد مهازل ومهاترات ، مقارنة بما يجري في برلمانات العالم .. ان عشرات من النوّاب العراقيين ليس لهم الا خطابات فارغة ، وانتهازيّة مارقة ، وتعليقات سخيفة، والقاء مدائح ، او سوء تصرّفات .. برلمان يقهقه فما يفرّق نواب الشعب عن الشعب اكبر ممّا يجمعهم به . نوّاب يمثلّون احزابهم وكتلهم وزعمائهم وما لهم مصالح وارتباطات واحزاب وتكتلات اصابها التفسّخ ..ازاء مصالح وطنيّة لشعب لم يعرف الا الصمت والتواكل والخوف اذ لا يتحرّك من اجل التغيير ابدا
حكومة لا تتخذ اية اجراءات ،ولا تفصل بين الحق والباطل ، بل تساهم في صفقات خادعة ولا تحسم قضايا الفساد ولم تحدّ من عمليات الارهاب .. بل لقد انكشف دورها في سحق العراق وتدمير العراقيين .. وان العراقيين لا حيلة لهم الا العويل والولولة والتأوّه والبكاء وشقّ الجيوب ولطم الخدود .. مع صمت الملايين وسكوتهم عن كلمة حق ينبغي ان تقال .. ليس من اجل مكاسب شخصيّة او فئويّة ، بل من اجل تحقيق الحدّ الادنى من العدالة التي تنتهك كلّ يوم من دون خجل او وجل ..
لقد علمنّا التاريخ الحديث ان أيّ بلد يخرج من كوارث ونكبات بعد مرور احداث جسام لها انتهاكات جسيمة لحقوق الانسان ، فينبغي ان يمرّ بمرحلة انتقاليّة تعاد فيها الموازنات وتعالج خلالها التدابير ، وتهدأ الملاحقات ، وتعاد الحقوق للمواطن أيّا كان جنسه ، او لونه ، او دينه ، او طائفته ، او جهتّه وقربه او بعده من خلال برامج نفيّ الضرر واصلاح المؤسسات وجبر الخواطر .. انهّا كما عُبّر عنها بـ " العدالة الانتقالية " التي لا يمكن ان يحرم منها أيّ مواطن من المواطنين وتأمين حياته وسكنه وامنه وكرامته وصحته ومستقبله وهذا لم يعرفه العراق منذ اكثر من عشر سنوات.. بل ولم تجر ايّة محاولات لخلق طور الانتقال من زمن الصراع الى زمن الاستقرار .
لقد غابت عن العراقيين انتقاليّة للوصول الى تحقيق أيّ نوع له خصوصيته من " العدالة " وذلك بتعويض الضحايا ، ونشر المصالحة ، وزرع الثقة بين الدولة والمجتمع حتّى يتمّكن البناة من سيادة القانون ، وتطوير فصل السلطات ، وتشريع القوانين حتّى يبدأ زمن جديد يتأهّل الناس فيه الى " الديمقراطية " .. في حين يعرف الجميع كيف طبخت " المسرحية " على زمن الاحتلال تحت اسم " العملية السياسية" برمتها ، بدءا بالحكومة الانتقاليّة ومرورا بسنّ دستور غير ملائم ، وسلق انتخابات مخترقة ومزوّرة ، واذا كانوا يروّجون سابقا اجندتهم باسم الديمقراطية ، فان ما حصل الى حدّ الان في العراق يمثّل تجاوزا على الدستور ، وعلى الاخلاق ، وعلى حقوق الانسان .. كما يمثل انتهاكا للديمقراطية .
ان العراق لم يمرّ بأيّة مرحلة انتقاليّة كي يؤسس نفسه من جديد ، فالشعار الذي طرح منذ العام 2003 باسم " العراق الجديد " كان اكذوبة تاريخية سيضحك عليها العراقيون في المستقبل ! انّ ايّة متغيرّات فاعلة وتاريخيّة وبنيويّة لم تحدث ابدا .. ان ما كان يتطلّع اليه اغلب الناس من الشرفاء الوطنيين ، والمناضلين الحقيقيين ، والاحرار المستنيرين لم يحدث في العراق لا بعد انتهاء الحرب مع ايران عام 1988 ، ولا بعد انتهاء الحرب مع امريكا وحلفائها اثر تحرير الكويت عام 1991 ، ولا بعد الاحتلال الاميركي وسقوط النظام السابق عام 2003 ، وبقيت العدالة الانتقاليّة في خبر كان ، وخصوصا بعد 2003 التي تعتبر نقطة تاريخيّة فاصلة بين عهدين سياسيين او زمنين اثنين ، وذلك بسبب السيّاسة الاميركيّة الخاطئة في العراق ، وبسبب النظام ( الجديد ) الذي خلقته باسم " الديمقراطية " .
لقد بقي الشعب العراقي لا يعاني من نتائجها المريرة ، بل يكابد من صناعة الفوضى ، وفقدان المؤسسّات ، وضياع الامن ، ونهب الموارد ، وغلبة الانقسامات الاجتماعيّة باستفحال التمييز الطائفي مع صمت ملايين ، ونفاق ملايين ، وتخنّدق ملايين ، ومرتزقة ملايين ، وتهميش ملايين ، وانفصال ملايين ، وانسحاق ملايين ، ولطم ملايين ، وتشرّد واغتراب ملايين .. وبالتالي انتفاء التدابير والاجراءات التي يتطّلب حصولها كون العراق دولة ومجتمعا لم يمرّا بزمن انتقالي حقيقي بسبب اعتلاء نفر سيّاسي للمسؤوليّة والحكم والادارة والقيادة .. اناس لا خبرة لهم ، ولا كفاءة عندهم ، ولا مشروعيّة لديهم ، ولا تجربة لأيّ واحد منهم في دواوين الدولة ، وبالتالي غياب العدالة الانتقاليّة ومستلزماتها بإقصاء كلّ المؤهّلين والمهنيين القادرين على خلق القوى الفاعلة واعادة تأسيس للمؤسسات والاجهزة ! واستعادة تلك القوى البشرية الفاعلة لتعود منتجة عاملة بدل ان تبقى في بطالة مقنّعة وليس لها الا تسلّم رواتب وعيش الحياة الريعية الكسولة ..
ان اضمحلال المؤسّسات وافراغها من عناصرها السابقة قد عكس حالة من الشلل وانعدمت القدرة على الادارة مع تفاقم الفساد وعدم ايجاد ايّة حلول لمعالجته واجتثاثه من الجذور في كلّ مؤسسات الدولة واجهزتها . وعليه ، فقد تبلورت انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان العراقي ،وضياع حقوقه ، وتبعثر واجباته ، وهدر كرامته ، وانتفاء خدماته ، وتحطّم قدراته مع عدم وصول قادة اذكياء لهم امكاناتهم حتّى الان الى السلطة يفقهوا طبيعة الزمن الانتقالي ، وكيفيّة تحقيق العدالة الانتقالية ، ولا كيفيّة العمل في تحقيق ما انتظره العراقيون طويلا من عدالة اجتماعية دائمة ، وخصوصا اولئك الذين مرّوا بتواريخ صعبة جدا وتحديّات ثقيلة بدءا بالحروب والحصارات وانتهاء بتفجيرهم في بيوتهم وشوارعهم ومدارسهم ومؤسساتهم وحتى وزاراتهم ومستشفياتهنم .
لقد ساهمت الاجراءات العقيمة على امتداد اكثر من عشر سنوات بعد 2003 الى تكريس التفكّك ، وطغيان الفساد ، وانتشار الارهاب ، والعنف مع مباركة اختراقات وتدخّلات الاخرين في الشؤون الداخليّة في أشكال شتّى. كما تلاشى القضاء ، كسلطة مستقلة ، بعد ان اصبح اداة بأيدي السياسيين ، واذا كانت العدالة الانتقالية تهدف بشكل أساسي، إلى تحقيق المصالحة الوطنيّة، فان السيّاسات البليدة قد انتجت حربا اهليّة بكلّ ما حملته من الثارات والنزاعات واستشراء العنف والاحقاد والكراهية والرغبة بالانتقام، فدخل المجتمع العراقي في دوّامة لا نهائيّة من العنف والعنف المتبادل والمضاد ، وكما الغي الجيش السابق ، غدا الجيش الجديد لا يمّت بصلة الى التقاليد العسكرية نهائيا ، وقد افسده ادماج الميليشيات والعصابات معه ، فبدا متنافرا ومرتزقا وغير متمتع بأيّة عقيدة عسكرية ولا بأيّة روح وطنية .. وتورّطت الاحزاب الحاكمة بارتكاب جرائم ضدّ العراقيين نسوة ورجالا . مع افتقاد السلطة المركزية هيبتها وقوتها ، وغدت اجزاء واسعة من البلاد خارجة عن سيطرتها ! واذا كانت محاكمات نورمبرج التي اجريت للنازيين في المانيا اثر اندحارها وخسرانها الحرب الثانيّة قد جرت في زمن انتقالي وحققّت العدالة في المجتمع ، فان النظام العراقي الجديد كال بمكيالين اثنين في تعامله مع عناصر النظام السابق ، فثمّة من ضاع في الشوارع ، وهرب الى المنفى ، او قتل غدرا ، او حرم من حقوقه الرسمية ، ولكن الاف العناصر ، قد احتواها النظام الجديد ، واسند اليها المناصب والمال والحياة الكريمة لأسباب طائفيّة فاضحة .
ان الافا مؤلفّة من العراقيين ، خدموا العراق ، او ضحّوا وماتوا من اجله ، او سجنوا واعتقلوا واهينوا ، او اسروا ، او استشهدوا في حروبه ، او هربوا من اجل الحريّة ولقمة العيش ، او ناضلوا بصمت في دواخل البلاد او في شتات العالم ، كما وقف آخرون في الخارج وقفة شريفة ازاء اهلهم واصدقائهم ايام الحصار الجائر .. الخ كلّ هؤلاء لم يأخذوا حقوقهم بعد ، بل وماتت حقوقهم وحقوق عوائلهم ازاء نفر من المنتفعين والطفيليين والادعياء والطائفيين الذين يتسلّمون كلّ شهر رواتب تقاعدية خيالية باسم " الخدمة الجهاديّة " ، ولا اعتقد ان عراقيا واحدا مهما كان معتقده السياسي يحرم من حقوقه التي كفلها له القانون والعرف والاخلاق ، الا اذا كان قد لوّث نفسه بجرائم قتل !
اننّي شخصيّا اعرف اربعة اشخاص لم يخدموا يوما واحدا في الدّولة العراقية ، ولكن احتسبت لهم سنوات تسكّعهم في الخارج ، او اعمالهم المشينة في الداخل خدمة جهادية لهم ، فمنح كل واحد منهم راتبا تقاعديا قدره 10 ملايين دينار عراقي شهريّا مدى حياته ، وتسلّم كل واحد منهم باثر رجعي رصيدا هائلا من الاموال التقاعدية على امتداد العهد السابق 35 سنة مضت ، فلكم ان تتخيلوا 120 مليون دينار سنويا مضروبة في خمس وثلاثين سنة ! في حين تحرم الالاف المؤلفة من العراقيين المدنيين والعسكريين من حقوقهم التقاعدية ظلما وعدوانا .. السؤال الاخير : كيف تريدون ان يستقر العراق ومجتمعه فاقد للعدالة الانتقالية والعدالة الدائمة ؟؟
510 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع