مقهى الحاج خليل القيسي في شارع الرشيد
ملاحق المدى/قحطان حبيب الملاك:ما ان استقرت اسرتي في مدينة بغداد لتشعب اعمال والدي واحلامه في تأسيس عالم من الفن السينمائي يجاري النهضة الفنية في القاهرة وبيروت ، وبتقدم عمري بدأت اجوب هذه المدينة الواسعة ولا سيما مركزها المتمثل بشارع الرشيد الذي كان يعج بمختلف مشاهد الحياة القديمة والحديثة ..
الا ان وجدت عالم المقاهي عالما فسيحا وموئلا للذكريات ، فدخلت العديد من مقاهي الشارع الشهيرة : البلدية والزهاوي وعارف اغا وحسن عجمي والبرلمان ، غير ان اني وجدت في مقهى الحاج خليل القيسي القهواتي الكبير عالما متميزا عن المقاهي الاخرى في مقدمة ذلك كان ما امتازت به شخصية صاحبها المرحوم خليل القيسي الوجه الاجتماعي البغدادي الكبير .
عندما بدأت الحياة تعود إلى العراق من بداية القرن العشرين وبداية الحكم الوطني وبدأت معها تخرج تلك الروح الحية مرة أخرى إلى الوجود من جديد. بدأ الشعر يأخذ منحاه الاجتماعي والسياسي الملتصق بالحياة الجديدة ويعطي أثره في حركة المجتمع، وبدأ معها التهافت على التعلم الحديث يأخذ منحاه الجديد ويخرج من بودقة الجامع والكتاتيب إلى المدرسة الحديثة. ومن هذه الحركة الجديدة في المجتمع، بدأت الشخصية البغدادية تعود إلى الحياة من جديد، فلا عجب أن بدأنا نسمع من اخواننا المصريين العرب تعابير تمت إلى الحياة البغدادية وصورتها الجميلة بحق وحقيقة فيقولون ‘تتبغدد’ أي تسير بطريقة بغدادية كلها خيلاء وعنفوان... وهكذا كانت بغداد أعطت صبغتها الاجتماعية الأصيلة على الحياة إلى اخواننا العرب في كل مكان.. فلا عجب أن تظهر في هذه الحياة شخصيات بغدادية أصيلة كان لها أثرها وطابعها الخاص والعام على الحياة الاجتماعية في بغداد.
ضمن وسط هذا الزخم من الحياة ومن وسط الحواري والأماكن التي تجتمع فيها النخبة من المجتمع والتي كان لها أثرها الاجتماعي والسياسي في البلد أن تظهر صورة الشخصية البغدادية الأصيلة إلى الحياة:
الحاج خليل القيسي البغدادي القهواتي.. كنا شباباً في الخمسينيات عندما كنا نمرّ سيراً على الأقدام في شارع الرشيد في الحيدرخانة نجده جالساً بكل خيلاء وعنفوان وبساطة على تخته وخلف طاولته يتحدث بصوته الجهوري مع هذا أو ذاك من زبائنه وأصدقائه.
كان مقهى خليل معلماً من معالم بغداد وليس لمجرد كونه مقهى فحسب، فالحاج خليل أعطى لهذا المقهى خصوصية جعلته مميزا من بين كل مقاهي بغداد، فهو ملتقى المثقفين وكبار الموظفين والعسكريين والتجار والطلاب القادمين من مدن العراق للدراسة الجامعية في بغداد.. وكنت ترى الحاج خليل يتفقد هذا أو ذاك ويمازح الآخرين بروحه البغدادية المرحة الأصيلة. عمل الحاج خليل في مدينة الموصل ثم ذهب إلى مدينة البصرة وفتح فيها مقهاه،
رجع بعدها إلى بغداد وأصبح ملتزماً لحانوت الإعدادية المركزية، المدرسة التي خرجت جمهرة من المثقفين العراقيين وعسكريين وسياسيين ورجال علم وأدب وكانت معلماً ثقافياً إضافة لكونها مدرسة إعدادية تخرج الطلاب وتؤهلهم إلى الكليات الجامعية ليكونوا الصفوة التي عملت على بناء هذا البلد وكان مسرحها يعج بحركة مسرحية ولو بسيطة ولكنها مكنتهم من التطور مع الحياة الجديدة في البلد.. فلا عجب أن نجد الحاج خليل يصبح له معارفه وأصدقاؤه من هذا الوسط الثقافي والاجتماعي البغدادي، لذلك عندما استقر وأسس مقهاه في الحيدرخانة ‘مقهى الحاج خليل’ أصبح المكان والملتقى لهذه المجاميع من الطلاب ورجال السياسة والمجتمع لقضاء وقت راحتهم معه.
وعلى الرغم من وجود العديد من المقاهي المميزة في هذه المنطقة(الحيدرخانة)، فهناك مقهى حسن عجمي والبرلمان والزهاوي والشابندر وكل مقهى له ميزته الخاصة من بين المقاهي الأخرى، ولكن مقهى الحاج خليل كان له خصوصيته من بين كل هذه المقاهي.. فالمتظاهر المطارد من قبل الشرطة السرية يأتي إلى زاوية من زوايا المقهى في الداخل ويكون في حماية الحاج خليل لأن الشرطة السرية لاتجرؤ الدخول إلى مقهى الحاج خليل، والطالب الذي تأخرت حوالته يتحدث بهدوء مع الحاج خليل عن مشكلته ويكون الحاج عوناً له في حل مشكلته، والذي لم تهنأ نفسه بوجبة غذاء في النهار ينتظر الصينية الكبيرة التي تأتي ظهراً من بيت حاج خليل ليجتمع الجميع حولها مع الحاج خليل، والذي لم يجد مكاناً ليهنأ بنومه في المساء يجد له تختاً في زاوية من زوايا مقهى الحاج خليل ليقضي ليلته عليه، وأما الذي لديه مشكلة أو لديه موقوف في أحد مراكز الشرطة فإن الحاج خليل يهرع معه بعد أن يضع عباءته على كتفه ويعدل يشماغه ويسير بخطواته المتسارعة إلى حيث يستقبل بكل رحابة في مركز الشرطة أو الدائرة الحكومية وينهي المشكلة أو القضية على عهدته، حيث كانت للحاج خليل علاقة طيبة مع الناس أجمعين، فلا عجب أن يحترمه ويحبه الجميع، لأنه يحمل في داخله كل هذه الصفات والأخلاق البغدادية الأصيلة في الشهامة وحب الخيرللناس.
أما هوايته التي ميّزته أكثر في حياته وبين أقرانه وأوجدت له شهرة خاصة وعامة فهي حبه لكرة القدم، لذلك كنت تجده جالساً في ساحة الكشافة أما مفترشاً الأرض أو على مدرجات الساحة مشجعاً الفرق التي تلعب وكنت تميزه من بعيد من بين الجميع بقيافته الفارهة وجراويته وعباءته التي لاتفارقه... إن حياة الحاج خليل القهواتي فيها الكثير والكثير الذي يمكن أن يكتب عنها وليست محررة على وريقات أو كتاب لأنها تمثل جزءا من الحياة البغدادية في تلك المرحلة من حياة البلد.
ولقد حاول صديقنا الأستاذ حميد أن يعطي لأيام وحياة والده بعضاً مما يتذكره عن تلك الأيام الحلوة من الحياة وهو الذي كان الأقرب إليه في عمله في المقهى وأعاد إلينا جزءاً أصيلاً وجميلاً من الحياة البغدادية المتمثلة بشخصية والده وهي مهمة نريد لها تستعاد وتكرر إلى الحياة قبل أن تندثر هذه الذكريات الجميلة من ذاكرة حامليها وفي الأقل يبقى جزءاً أصيلاً ولو بسيطاً من حياة بغداد وأهلها ومجتمعها حياً، وهي إضافة لذلك حافزاً لكل من لديه مثل هذه الذكريات العزيزة على قلوبنا ليسجلها من أجل أن تبقى جزءاً حياً من حياة هذه المدينة وفي ذاكرة الأجيال الحاضرة والقادمة.
1362 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع