يوميات مسافر على طريق أحمر..الجزء السادس
الخطوة السابعة .. بانتظار قرار الحكم
رجعنا إلى بغداد من دون أن نحصل على وعد واضح عن الحكم الذي سيصدر على العريف الأمريكي الذي نفذ فصول الجريمة، على الرغم من أن المحامي شيفرز وزميلته قطعا بأن بيركنز سيدان بارتكاب الجريمة وأن العقوبة تعني طرده من الجيش وحرمانه من حقوقه التقاعدية وتعميم اسمه على جهات كثيرة لمنع توظيفه وقالا إن هذه العقوبة تعتبر قاسية جدا بكل المقاييس.
في اليوم التالي غادر مأمون ومروان إلى سامراء، وكنت أتلقى مكالمات هاتفية من داخل العراق ومن خارجه عن نتيجة المعركة القانونية التي دخلناها، وكالعادة في مثل هذه الظروف كنا نواجه كثيرا من الأسئلة عما حصل خلال سفرتنا للولايات المتحدة، حينما كنا نجيب بأن الجلسة كانت للتحقيق وليس لمحاكمة المتهمين كانت تعليقات المتصلين تجمع على إبداء الأسى والأسف والدهشة في وقت واحد ذلك أن التحقيقات قد أخذت زمنا كبيرا جدا في قضية واضحة ولا ألغاز فيها أبدا، بعد أن نوضح ذلك تنتقل الأسئلة للقادم من التدابير والإجراءات، وفي هذه النقطة بالذات نجد أنفسنا أكثر رغبة في معرفة ما ستؤول الأمور إليه لأننا أصحاب القضية، اتفقت مع مروان أن يبلغني بأي اتصال يتم من جانب الأمريكان معه قبل أن يقدم على أية خطوة غير مدروسة، كنت أظن أن الأمريكان ربما يسعون للتخلص من مروان لأنه الشاهد الوحيد على جريمة لم يكونوا ليتصوروا أنه سيفلت من الموت، فإن لم يبتلعه ناظم الثرثار، فإن الماء البارد في بداية شهر كانون الثاني/ يناير كاف لقتل من ينزل إليه ولهذا فقد تعمدت المجموعة التي نفذت الجريمة على البقاء لمدة ساعة تقريبا في موقع الجريمة لرصد المشهد وقتل من يتمكن من الخروج منهما.
واصلت حركتي ونشاطي على مستوى الصحف المطبوعة والفضائيات وحيثما أتيحت لي فرصة الحديث عن الجريمة فقد كنت أطرح المعلومات القديمة وما يستجد من معلومات وكنت في حالة انتظار الخطوة التالية، وبعد شهر من عودتنا من فورت هود اتصل بي السرجنت واتسون وهو مساعد لسينترون وأبلغني بالحضور إلى منطقة المطار لمراجعة السفارة الأمريكية مرة أخرى بهدف الحصول على تأشيرة ثانية لدخول الولايات المتحدة، ولكنني أوضحت أن هذا الطلب لا مبرر له أبدا وأننا نستطيع الذهاب إلى بوابة المنطقة الخضراء قرب جسر الجمهورية، وننتظر هناك لحين مجيئكم وتسلمون أسماءنا لشعبة الاستعلامات وعندها ستمر بشكل اعتيادي، وأضفت لا معنى أبدا لمجيئنا إلى منطقة المطار ثم العودة مرة أخرى إلى بغداد، وبعد نقاش لم يخل من تباين حاد في وجهات النظر، اقتنع بوجهة نظري ومن المحتمل أنه لم يبت من تلقاء نفسه بذلك، وحدد يوم الخميس الثاني من كانون الأول ديسمبر 2004 موعدا للذهاب إلى السفارة، اتصلت بمأمون ومروان وطلبت منهما المجيء من سامراء، وكانت هذه السفرات تحمل من المغامرة والمجازفة بسبب انعدام الأمن على طول طريق بغداد سامراء، بسبب النشاط الذي تمارسه المقاومة المسلحة ضد قوات الاحتلال الأمريكي وردود الفعل الانتقامية التي ترد فيها تلك القوات على المواطنين الآمنين المسافرين على الطرق الخارجية، وفي اليوم المحدد ذهبنا إلى بوابة القصر الجمهوري في كرادة مريم عند جسر الجمهورية، وبعد انتظار طويل نودي علينا للدخول ووجدنا واتسون بانتظارنا في عربات عسكرية مدرعة، ومضيا معا إلى مبنى السفارة الذي كنا قد جئناه قبل عدة أسابيع للغرض نفسه، كانت المهمة هذه المرة أسهل من السابقة حيث أن السفارة سبق لها أن ثبتت المعلومات الخاصة بنا في حواسيبها ولم تفعل أكثر من استخراج تلك المعلومات مع تغيير تواريخها.
بعد الانتهاء من هذه المهمة المزعجة حقا، سألت واتسون عن سينترون فقال إنها أنهت خدمتها وعادت إلى الولايات المتحدة وأنه شخصيا حل محلها في مهمتها القانونية، وسألته عن موعد السفر فقال إنه لا يعرف وحينما تتوفر لديه معلومات سوف يخبرنا قبل وقت كاف من أجل الاستعداد للسفر، ولكنه في التالي اتصل بي وأبلغني بالحضور إلى المطار يوم السبت 4/12/2004 وحوالي الثالثة عصرا كنا في داخل المطار بعد تكرر الإجراءات الأمنية عند البوابات المتعددة للمطار، وسلمنا حقائبنا لواتسون وجلسنا في صالة الانتظار مع ملاحظتنا بعدم وجود استعدادات حقيقية للسفر، وبعد انتظار طويل قالوا لنا إن السفرة تأجلت حتى الغد، وخيرونا بين المبيت في صالة الانتظار أو العودة إلى المنزل، فاخترنا العودة للمبيت في البيت على أن نكون في المطار عند الساعة الحادية عشرة من صباح اليوم التالي الأحد 5/12 وهذا ما حصل، غير أن طائرتنا لم تقلع إلا في التاسعة والربع مساء وأخذت حركتها اللولبية بالارتفاع وكان ذلك يذكرني بالصعود على مئذنة الملوية في سامراء من حيث طبيعة الحركة اللولبية، ووصلنا الكويت مرة أخرى حوالي العاشرة والنصف مساء، ومن هناك انتقلنا إلى مطار الكويت الدولي، ولكن المشهد السابق تكرر هذه المرة أيضا وعجبت أن بلدا مثل الولايات المتحدة يقع في نفس الخطأ مرتين وفي غضون خمسة أسابيع فأية دولة عصرية هذه وقلت لواتسون لو أن بلدا مثل العراق ارتكب هذا الخطأ الذي وقعتم فيه ماذا كنتم ستقولون عنه وماذا ستطلقون عليه من الأوصاف؟ لم يعط جوابا قاطعا عن السؤال لأنه كان مقتنعا بأن المشكلة سيتم حلها في غضون ساعات، وسنغادر في طائرة لاحقة كما حصل في المرة السابقة، ولذا فقد تم نقلنا إلى دار الضيافة في قاعدة الدوحة العسكرية الأمريكية في الكويت وهذه القاعدة كانت بالأصل ميناء بحريا تجاريا كويتيا وتم تحويله إلى قاعدة بحرية أمريكية، استمرت الاتصالات خلال الليل مع السلطات الكويتية والتي كررت حجتها السابقة بأننا دخلنا الأراضي الكويتية بصورة غير مشروعة وكأننا كنا نرغب بدخولها بأية صورة من الصور أو كأن هذه السلطات تمسك بحدود الكويت من أطرافها، ولما وصلت الاتصالات إلى طريق مسدود أبلغنا واتسون بأن السلطات الكويتية أبلغته بضرورة مغادرتنا الكويت فورا، من أجل ذلك تم نقلنا من القاعدة البحرية في الدوحة إلى قاعدة علي السالم الجوية وتم وضعنا تحت حراسة مشددة، وقابلنا آمر القاعدة وهو ضابط برتبة عقيد وطمأننا على سلامتنا، قال لنا بأنهم حرصوا على التحفظ علينا لحمايتنا من الكويتيين لأنهم يعرفون نواياهم تجاه كل عراقي فأبدينا استغرابنا من هذا الطرح، ليس لأننا نعجب من عقد الكويتيين تجاه من هو اكبر منهم حتى في أسوأ ظروفه وإنما لأننا سنكون في حماية أمريكية على حد زعمهم من عرب لم نشعر بخوف منهم في أي ظرف من الظروف ومهما لوثت السياسة المشاعر والعقول فهل يكون من قتل العراقيين ودمر كيان دولتهم بل وقتل ابنهم بتلك الطريقة التي لا ترد على بال إنسان سوي، أن يحرص على حياة أبيه وعمه بل وعلى من ألقي معه في اليم؟
أمر العقيد بترتيب غرفة نوم فجلبوا لنا ثلاثة أسرة على عجل، وكان سؤالنا الملح، هل يصح لبلد مثل الولايات المتحدة والذي يطرح نفسه أعلى قمة في التطور والتقدم الإنساني والعلمي والسياسي والقانوني، أن يكرر هذا الخطأ الكبير في قضية صغيرة بهذا المستوى، ولماذا لم تستفد السلطة المختصة من تجربة منعنا في المرة السابقة ولم تمض عليه إلا خمسة أسابيع؟ الكويت أرادت معنا أن تستعرض أهميتها وتمنع دخولنا إلى أراضيها في المرة السابقة وبعد تدخل قائد القيادة المركزية الأمريكية تم السماح لنا بالمغادرة إلى أمريكا، فما بال السلطة نفسها ترتكب نفس الخطأ مع نفس الجهة في غضون خمسة أسابيع؟ ترى ماذا كانوا سيقول الأمريكيون بلد مراكز الدراسات الإستراتيجية وبلد أكثر أجهزة الكومبيوتر تعقيدا وتطورا لو أن بلدا عربيا ارتكب هذا الخطأ؟ ألا يعتبرونه فضيحة تنم عن غباء مستحكم ومركب؟ أم أنهم سيعتبرونه سهوا يمكن أن يقع فيه الجميع؟ نعم هذه أمريكا عارية بالتجربة الميدانية الصغيرة، وفي الثانية والنصف من يوم الاثنين 6/12 أقلعت بنا الطائرة إلى بغداد ووصلناها في الرابعة وخمس دقائق، وكان طبيعيا أن تؤجل الجلسة مرة أخرى لحين جلب شهود حق الادعاء الشخصي.
رجعنا إلى بغداد ولم يبلغنا الأمريكيون عن موعد سفرنا البديل وإن قالوا لنا سنتصل بكم في وقت لاحق لإبلاغكم بالموعد، وطلبت منهم أن يتم الاتصال بنا قبل ثلاثة أيام كي تتاح لنا الفرصة للتهيؤ للسفر لاسيما وأن مأمون ومروان يسكنان في مدينة سامراء وفي ظل الظروف الأمنية المعقدة وتنقل الأرتال العسكرية الأمريكية على الطريق وقطعه ولمدد طويلة فلا بد من إبلاغهما قبل وقت مناسب للانتقال إلى بغداد على الطريق نفسه الذي سار عليه مروان وزيدون في اليوم الذي سبق ليلة الجريمة الأمريكية.
ويوم 24 كانون الأول/ ديسمبر2004 اتصل السرجنت واتسون وطلب منا الحضور إلى نقطة السيطرة الأولى التابعة للمطار، ولم نعلم ما هو المقصود من هذه الخطوة الجديدة ولماذا الذهاب إلى المطار مرة أخرى، وطالما أننا أصبحنا جزء من هذا المشهد فعلينا أن نذهب به إلى نهايته مهما عانينا من التحرك بناء على مواعيد يفرضها عدونا فهو الخصم والحكم ليس في جريمة قتل زيدون وإنما في جريمة قتل مشروع العراق النهضوي الكبير، ولكن معاناتنا عند المرور على طريق الموت تتكرر وبصورة مؤلمة كلما ترافقت مع مشاعر البغضاء لجنود يرتهنوننا كدروع بشرية لحمايتهم أو لقتلنا معهم في حال لم نوفر لهم الأمن في طريق محفوف بكل الأخطار المحتملة وغير المتوقعة، ومع كل متر نجتازه ونشعر فيه بالطمأنينة تضغط علينا هواجس مئات الأمتار الأخرى بكل ثقلها، وصلنا وانتظرنا مرة أخرى وبعد أن جاءنا واتسون وأخذنا إلى قصر الفاو الرئاسي الذي تحول إلى مقر القيادة العسكرية للقوات الأمريكية في العراق ويشكل كابوسا مزعجا بسبب هذا السطو، تم إبلاغنا بأن موعد سفرنا الجديد إلى الولايات المتحدة قد تقرر في يوم الثلاثاء 28/12/2004، ألهذا استدعيتمونا إلى المطار؟ ألم يكن ممكنا تبليغنا هاتفيا؟ تساءلنا بسخط ظهرت علاماته على وجوهنا، ولكن جوابا لم يصل أبدا.
ظهر يوم الثلاثاء 28/ 12 لم يبق من عمر السنة غير ثلاثة أيام ونصف ونودع عاما ذاق فيه العراقيون مرارات لم يذوقوا أمر منها قبلا ولكنهم قد يذوقوا أمر منها في قابل الأيام والأشهر والسنين، كانت الفلوجة قد شهدت معركتين ضاريتين استخدمت فيها الولايات المتحدة كل ما في ترسانتها من وسائل قتل ولكن الفلوجة استبسلت ولقنت الأمريكيين درسا مؤلما ومريرا ستبقى مرارته تحت ألسنتهم إلى الأبد، لأنهم لم يكونوا ليتصورا يوما أن تواجههم مدينة الفلوجة بهذه الشجاعة ومن دون إسناد خارجي، ولهذا ظنت قيادة القوات الأمريكية أن الفلوجة لن تحتاج إلى أكثر من ساعة لتلتهمها لقمة واحدة، ولما استعصت عليها لم تترك سلاحا محرما إلا وجربته على رؤوس أبنائها، ولم يسأل أحد من المراقبين الدوليين نفسه هل كانت هذه الأسلحة محرمة؟ أم أن في القتل هناك سلاحا نظيفا وآخر محرما؟ وشهدت مدينة النجف معركة بدأها أنصار مقتدى الصدر للسيطرة على خزائن مرقد الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ومفاتيح المزار للسيطرة على المداخيل وإزاحة المجلس الأعلى للثورة الإسلامية عنها، فوقع الصدام بين الجانبين وانحاز الأمريكيون إلى جانب المجلس ودفع أبناء النجف ثمن صراع مفاتيح المزارات وخزائن الضريح المليئة بالتحف الثمينة، وحدثت الانتهاكات المروعة في سجون الاحتلال الأمريكي وخاصة سجن أبو غريب وبأوامر منهجية من الرئيس الأمريكي جورج بوش ونائبه ديك تشيني ووزير دفاعه دونالد رامسفيلد، وتغيرت حياتنا وساد القلق في أعلى درجاته كل دقيقة من عمرنا الباقي مع هذا الاحتلال البغيض.
نقلتنا زوجتي سهام بسيارتي إلى المطار، وعند منتصف نهار ذلك اليوم كنا عند (جيك بوينت وان) في المطار، أنزلنا حقائب السفر وبدأ الكلب الأمريكي المدرب يؤدي دوره ويدور حول السيارة من دون توقف، وصلنا المقطع الثاني وفيه تفتيش من قبل أفراد (الحرس الوطني) الذي تم ببلادة بحيث شعرنا أن كل شيء قد تم من دون أن نشعر أن الأمر انطوى على دقة حقيقية مما أكد أن الإجراءات الأمنية كانت تحرص على المظهر من دون أن تنفذ تدابير تفتيش دقيقة، وعند المقطع الأخير ودعنا سهام وأخي عبد الحكيم (أبو مروان) عند اجتيازه وجدنا واتسون بانتظارنا، تسلم حقائبنا وركبنا السيارة العسكرية الأمريكية والتي أصبحت رمزا لاستهداف المقاومة العراقية المسلحة، وحينما وصلنا قاعة الانتظار وجدنا المئات من الجنود الأمريكان وهم يغطون في سبات عميق، منهم من استلقى على كراسيهم ومنهم من ألقى بنفسه فوق حقائبه ومنهم من افترش الأرض وقليل منهم من وجد سريرا، يا لها من فرصة سانحة لحصاد عظيم لو أن قذيفة أو صاروخا يسقط وسط هذه الجموع من القتلة والذين يمكن رؤية الدم يقطر من بين أصابعهم، ونحن في هذه الخواطر وإذا بالسرجنت واتسون يبلغنا بأن السفرة تأجلت إلى الغد وبدم بارد كما يقتل الأمريكيون ضحاياهم قال لنا عودوا إلى بيتكم وتعالوا غدا صباحا، هنا تصطك المشاعر مع بعضها بقوة وتبعث أنينا مكبوتا لهذه الاستهانة بقيمة الإنسان والوقت، لم يعتذر عن هذا التأخير ولو أنه غير مسؤول عنه، لكننا افترضنا أن الأمريكي يحمل قليلا من الذوق وكثيرا من الوقاحة كي يكلف نفسه عناء الاعتذار، ولكن كيف جاز لي أن أفكر بهذا والأمريكي هو الذي حمل آخر ما في ماكنته الحربية من أسلحة دمار ليجربها فوق رؤوس العراقيين من دون احتجاج أو اعتراض أو حتى نقد من المنظمات المعنية ولو على استحياء، فأمريكا فوق القانون الدولي وفوق ميثاق الأمم المتحدة وفوق الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وفوق كل أجهزة الإعلام في العالم.
كان علينا أن نجتاز طريق المطار مرتين إضافيتين، ولهذا غادرنا المطار واتصلنا بالمنزل كي تحضر السيارة لأخذنا، ولم يطل انتظارنا ورجعنا إلى المنزل على أمل العودة إلى المطار في الغد وهذا ما كان، وفي اليوم التالي أي يوم الأربعاء 29/12 تكرر الانتظار عند نقاط التفتيش ولكن بصورة أسرع لأن الحقائب بقيت في المطار وربما حصل الأمريكيون على اطمئنان أكبر على محتوياتها وربما كان الهدف التعرف على محتوياتها من خلال مضي الوقت من غير أن يحصل فيها انفجار مفاجئ، ومضينا إلى نفس الأماكن التي كنا قد مررنا بها قبل أربع وعشرين ساعة.
لا أحد يعرف موعد إقلاع الطائرة، والجنود الذين ألقوا بأنفسهم بهذه الطريقة فوق الأرائك وعلى الأرض لو لم يكونوا قد وصل الحد الأخير من طاقتهم في مواجهة الموت والخوف منه مما منعهم من النوم أيام وليالي كانت لحظة نوم تساوي العمر كله، نحن أكثر الناس طمأنينة وسط هذا الحشد المرتعب، كنا نتلفت وندعو بضراعة مع استعداد حقيقي لكل أسباب القوة لمواجهة قوات الغزو، لم يكن دعاؤنا مجردا من أدوات الفعل الميداني أن يزداد عدد قتلى من عبر المحيطات والبحار ليقتل العراقيين ويدمر بلدهم استجابة لأكاذيب خونة لم يحترمهم أحد لا الأمس ولا اليوم ولا غدا، وسيرجمهم الناس كما يرجم الحجيج موضع أبي رغال.
الطائرة ستقلع في الواحدة والنصف، هكذا قال واتسون، وقف البعض وظل البعض نائما، فالطائرات العسكرية الأمريكية تقلع من مطار بغداد باتجاه مختلفة، ولكن الموعد تأجل إلى الثانية والنصف بعد الظهر، ولكنها لم تقلع إلا في الثالثة والنصف وكانت أربعة انفجارات متوسطة قد هزت منطقة المطار من دون أن نتبين موضعها أو ما تركته من آثار، بدأنا التوجه إلى الطائرة المتوجهة إلى عمان هذه المرة والطائرة تسير على مدرج الإقلاع توقفت عن الحركة فجأة ودوى انفجار هائل أوشك أن يقتلع الطائرة الضخمة وهي من طراز C130 عن المدرج ثم سارعت للإقلاع وإذا بعمود دخان أسود يرتفع في السماء وكأنه ثمرة الفطر، وبدأت طيرانها اللولبي فوق المطار ثم أفلتت من جاذبيته باتجاه الغرب، أحسسنا أننا نقترب رويدا من الفلوجة لأن الطائرة أخذت ترتفع بصورة غير متوقعة وغير معهودة، ربما وصل قائدها إنذار بأن الخطر على الطائرة لا يقتصر على الأرض أو في منطقة المطار وإنما فوق سماء الفلوجة المدينة التي مزقت أرتال الجيش الأمريكي وأوصلته إلى سن اليأس المبكر وأوشكت أن تدمر حلمهم لولا خيانة الصحوات، ومع كل الحزن الذي يعتصرنا ونحن نذهب لمتابعة قضية زيدون، ومع كل ما يرافق العسكريين الأمريكيين من هلع نكاد نسمع وجيبه من بين الصدور، كنا نشعر بالفخر أن المقاومة العراقية المسلحة واليتيمة من كل دعم كانت تدخل في قلوب جنود أقوى قوة عسكرية عرفها تاريخ البشرية كل هذا الفزع والهلع، وفي خطوة قلقة جاء جندي يحمل مصباحا يدويا بعد أن نقل له الآخرون أن رائحة حريق قد شمها بعضهم في الأسلاك الكهربائية المخفية وراء جدرانها، وبعد فحص دقيق أعطى إشارة الاطمئنان للركاب .
متى تنتهي متاعبنا نحن الباحثين عن الحقيقة والعدالة في بلد الظلم؟
بعد رحلة استغرقت ساعتين بدأت الطائرة بالهبوط في مطار ماركا في عمان عاصمة الأردن، وبعد أن استقرت بنا الطائرة وانتقلنا إلى الصالة بدأت عمليات تفتيش الحقائب المرافقة، شك أحد رجال الكمارك الأردنية بإحدى حقائب الجنود الأمريكيين وأمره بفتحها وإذا به يحمل الكثير من القطع النحاسية أو المذهبة من قصر الفاو ولم يكن هذا الجندي وحده من يحمل مثل هذه القطع ولكنه كان أكثرهم جشعا وطمعا، وبعد مداولات واتصالات تمت تسوية الأمر وكأن شيئا لم يكن فرجل الكمارك الأردني يرتبط بسياسة دولته التي شاءت تقديم التسهيلات لتنقل القوات الأمريكية عبر أجوائها، ثم وجدنا شخصا أردنيا يعمل مستخدما محليا في السفارة الأمريكية في عمان بانتظارنا وهو يحمل لافتة كتبت عليها أسماؤنا باللغة الانكليزية، وأخذنا إلى فندق عالية وهو قريب من مطار الملكة علياء الدولي وربما تعود ملكيته لشركة الخطوط الملكية الأردنية عالية، وتوزعنا على الغرف وبعد استراحة قصيرة وأخذ حمام ساخن نزلنا إلى المطعم لتناول طعام العشاء، كان علينا أن نبيت ليلتنا مبكرين كي ننهض مبكرين، فالسيارة ستحضر في الثامنة صباحا والطائرة ستقلع في العاشرة والدقيقة الأربعين من يوم الخميس 30/12 باتجاه الولايات المتحدة الأمريكية.
استيقظنا مبكرين ومضينا إلى المطعم لتناول طعام الفطور بعد أن حزمنا حقائبنا، وجاءتنا السيارة في الثامنة صباحا ومضينا إلى مطار الملكة علياء الدولي على أمل أن تقلع بنا طائرة الخطوط الجوية الملكية الأردنية عالية في الساعة العاشرة والدقيقة الأربعين، ولكننا علمنا بأن موعد إقلاع الطائرة قد تأخر ساعة واحدة على الأقل على عادة كل خطوط العالم الثالث الجوية من دون إبداء الأسباب.
في مواضع كثيرة من المطار شاهدت طائرات الخطوط الجوية العراقية ذات اللون الأخضر جاثمة على أرض المطار وكان العراق قد أخرجها من أراضيه قبيل العدوان الأمريكي البريطاني الثلاثيني عام 1991 ولكنها بالنتيجة تعرضت للموت البطيء تماما كما لو أنها ضربت بقذيفة قتلتها على الفور، كانت الطائرات كلها من نوع بوينغ ومن حجوم مختلفة فهناك الجمبو وهي طائرة بوينغ 747، وهناك بوينغ 707 وهناك من 737 و727 وهي تحكي قصة مأساة أكثر الخطوط الجوية في العالم أمانا في طيرانها لدقة الصيانة الدورية ومهارة الطيارين العراقيين، ولكنها وقد تحولت محركاتها إلى أعشاش للطيور لا بد أن تستدعي دمعة حزن وألم على ما آل إليه وضعها ووضع العراق بسبب الحصار الاقتصادي والعدوان الثلاثيني ومحاولات إذلال العراقيين والنيل من إبائهم وشموخهم ومنع طائرهم الأخضر من التحليق، لم أطل النظر إلى تلك الطائرات الموزعة على المزاغل المفضية إلى مدارج المطار، فلم أرغب برؤية شيء عراقي تعمد البعض على إذلاله حتى ولو كانت طائرة مصنوعة في البلد الذي جيش جيوشه لتدمير اسم العراق وحضارته وتاريخه وحذف اسمه من الخارطة تحت عنوان الديمقراطية وحقوق الإنسان والفدراليات ذلك المشروع الانفصالي اللئيم الذي يريد تهديم أعلى سياج عربي للأمن القومي وتشتيت قوته، دلفنا إلى صالة المطار وبعد وزن الحقائب والإجراءات الأمنية الدقيقة لفحص محتوياتها بأجهزة السونار، وتأشير تذاكر السفر مضينا إلى كابينة شرطة الجوازات والذين دققوا مطولا في سلامة تأشيرات الدخول إلى الولايات المتحدة، لما مررنا عبر البوابة المؤدية إلى الطائرة خضعنا لتفتيش دقيق جدا فنحن ذاهبون إلى زعيمة العالم الحر والتي كانت ما تزال تعيش أكبر كابوس مرعب في حياتها اسمه الإرهاب الذي تصنفه على أنه عربي إسلامي سني منذ أحداث 11/9/2001، والذي صنعته سياساتها العدوانية على كل شعوب الأرض حتى بات الأمريكي رديفا للون الدم وعنوانا للتعذيب والقتل وكأنه حادلة تريد سحق كل ما يقف في طريقها، مررنا سريعا إلى الطائرة التي كانت من نوع أير باص 340 بأربعة محركات وهي الطائرة المخصصة للرحلات الطويلة، وفي الساعة الثانية عشرة والدقيقة الأربعين بتوقيت مكة المكرمة وبغداد تحركت الطائرة نحو مدرج الإقلاع، وبدأ قائدها بقراءة دعاء السفر والذي بعث في النفوس طمأنينة كبيرة والذي يقول (سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون)، وقال قائد الطائرة إن الرحلة ستستغرق من عمان إلى شيكاغو حوالي أربع عشرة ساعة من دون توقف، السفرة طويلة ولكن مقاعد الطائرة متقاربة على نحو يبعث على تعب وإرهاق شديدين وهذا يعود لرغبة الشركة في مزيد من الإيرادات وتحقيق ربح أكبر، تم إنزال شاشات الطائرة التي ستعرض أفلاما أو رصدا لسرعة الطائرة وارتفاعها عن مستوى سطح البحر ودرجة الحرارة خارج الطائرة، وعلى الرغم من طول الرحلة فإن الشركة الناقلة لم توفر ما يكفي من زاد الطريق فالطعام قليل جدا حتى أن الطائرة التي كان حوالي ثلث ركابها من الأطفال الصغار، كانوا يلحون على آبائهم أو أمهاتهم بطلب المزيد من الطعام ولكنهم لم يحصلوا على شيء أبدا فلم يتوقع أحد من الركاب أن طائرة تعمل بين الأردن والولايات المتحدة ستجوع ركابها وخاصة الأطفال، وهذا ما زاد من مستوى الضجيج داخل الطائرة ليضاف إلى صوت محركاتها الذي لم تتمكن تدابير العزل من منع وصوله إلينا بقوة،ولم نتمكن من النوم ليلتها على كراهة مع أن التعب والنعاس كانا رفيقين معنا في عبور المحيط الأطلسي.
كان أعلى ارتفاع حلقت الطائرة فيه اثني عشر كيلومترا، وكانت درجة الحرارة في ذلك الارتفاع عند أدنى مستوى لها وهو 71 مئوية تحت الصفر، ووصلت سرعتها في بعض الأحيان 880 كم، وأخيرا وبعد انتهاء وقت الرحلة بدأت الطائرة بالهبوط التدريجي في مطار شيكاغو في الثانية وعشرين دقيقة فجر يوم الجمعة 31/12 /2004 بتوقيت مكة المكرمة، وبعد توقف الطائرة ونزولنا منها توجهنا إلى صالة الأمتعة، ولكننا لم نجد حقيبة مروان، سألنها عنها ولكننا لم نجد جوابا شافيا واستذكرنا الساعة التي غادرنا فيها مطار عمان، كانت حقيبة مروان متوسطة الحجم ويمكن حملها باليد، ولكن نقطة التفتيش الأردنية رفضت السماح له بحملها معه داخل الطائرة، ولهذا أنزلوها منه ووعدوا بإرسالها مع بقية الحقائب ولكنهم لم يفوا بوعدهم لأنهم ارتابوا أصلا بالأسباب التي دعت مروان إلى حملها معه وعدم وضعها مع حقائبنا ولذا وجدنا أن علاج الأمر يتطلب توفير ملابس بديلة لمروان لحين معرفة مصير حقيبته، وفي مطار شيكاغو كان علينا الانتظار عدة ساعات لنغادر إلى أوستن بطائرة أمريكية، اللافت أن معظم الطائرات العاملة على الخطوط المحلية في الولايات المتحدة هي من الطائرات المروحية الخفيفة والتي لم تحذف من الخدمة، ويعكس طياروها طبيعة الكاوبوي الأمريكية المغامرة أثناء الإقلاع والطيران وبخاصة أثناء الهبوط، لقد تعودنا مع طياري الخطوط الجوية العراقية أن الطائرة حين تهبط فإن الركاب لا يشعرون بذلك لولا مشاهدتهم لمدرج المطار، غير أن الطائرات ذات المروحتين التي تنقلنا فيها بين المدن الأمريكية كانت تسقط ككرة من الهواء وتتقافز على المدرج عدة مرات قبل أن تأخذ مسارا عاديا على المدرج حتى تتوقف مما يعكس استهانة الطيارين الأمريكان بحياة الركاب وربما هو تعبير عن الحنق على أنهم ما زالوا يعملون على طائرات قديمة ومتخلفة بالمقاييس المعتمدة في عالم الطيران لاسيما وأنهم ينتمون لبلد هو الذي اخترع أول طائرة وما يزال يصنع أجود الطائرات في العالم، حقا لم أكن لأتصور أنني سأرى هذا النوع من الطائرات المروحية في الولايات المتحدة وهي التي تنتج أحدث الطائرات النفاثة في العالم ولكنني حينما رأيتها وجدت تفسيرا لجشع الشركات فهي تريد استنزاف عمر هذه الطائرات حتى الساعة الأخيرة من عمرها الافتراضي، وهي على العموم ذات كلف تشغيلية أقل من الطائرات النفاثة وهي طائرات لا تلقى منافسة في داخل البلاد وهي تستخدم للخطوط القريبة وربما أسعار تذاكرها أرخص من أسعار تذاكر الطائرات النفاثة، وأخيرا وفي الثامنة وعشر دقائق بتوقيت مكة المكرمة أيضا من صباح السبت أخذنا طائرة أمريكان أير لاين في سفرة إلى أوستن حيث وصلناها بعد ساعتين ونصف وكانت الساعة تشير إلى الواحدة وأربعين دقيقة من فجر الجمعة بالتوقيت المحلي، علما بأن فرق الوقت بين أوستن ومكة المكرمة هو ثماني ساعات، وجدنا سيارة عسكرية بانتظارنا في المطار وكان هناك مترجم اسمه ولسون بانتظارنا مع سيارة وبعد استكمال الإجراءات تحركنا صوب قاعدة فورت هود العسكرية واستغرقت الرحلة بالسيارة من مطار أوستن إلى القاعدة أكثر من ساعتين، وبعد سفر بين مطار وآخر واستغرق حوالي أربع وعشرين ساعة وجدنا أن التعب حد الإرهاق قد انتزع قدرتنا على المطاولة وألقى كل منا نفسه على الفراش كجثة لا تعي ما حولها بانتظار الخطوة التالية، ولكن صفارات سيارات الإسعاف والإطفاء أفسدت علينا نوما نحن بأمس الحاجة إليه إذ كانت السيارات تزعق بلا توقف ليلة رأس السنة من دون أن نتبين سببا محددا لذلك خرجنا من شققنا إلى الواجهة الأمامية وإذا بألسنة اللهب ترتفع عاليا في سماء مدينة كلين المجاورة لقاعدة فورت هود وتحركت فينا الرغبة في معرفة ما يحصل في أقوى بلد في العالم، بلد بقدر ما نقدر دوره في النهضة الحديثة في مجالات العلوم والتكنولوجيا، فإننا نكرهه لأنه يسير في تدمير القيم الإنسانية بسرعة إلى الوراء تفوق سرعته في التطور التكنولوجي وربما لم نشعر بأسى للخسائر التي يتكبدها ومن أين يكون مصدرها، صحيح قد يكون في هذا النمط من التفكير تعبيرا عن عجز وسلاح الضعفاء وفيه شماتة لا تليق بالرجال، ولكن الصحيح أيضا أن العراقيين لم يألوا جهدا في تحجيم دور أمريكا في العالم وتقزيمها ومع ذلك فأكفهم ترتفع بالضراعة إلى الله سبحانه أن ينتقم من كل من كان سببا في ما لحق بهم من موت ودمار على يد الجيش الأمريكي الذي نقيم (في ضيافته) الآن في أكبر قاعدة برية له في العالم على كثرة ما يمتلك من قواعد منتشرة على طول الكرة الأرضية وعرضها.
كما قلت كان هذا هو اليوم الأخير من عام 2004 والذي بدا لنا نحن الغرباء الثلاثة وكأنه يلفظ أنفاسه الأخيرة ببطء شديد ووقع خطواته فوق صدورنا كان ثقيلا جدا، الليلة ستسهر المدن على أنغام الموسيقى الصاخبة حد الجنون وعلى أنغام الرصاص المنهمر من بنادق الغزاة بجنون أعظم، لم نشعر بأسى أننا فرضنا على أنفسنا إقامة إجبارية في الغرفة فهذا هو شأننا حتى عندما كانت الأيام أنيقة ومترفة والليالي في العراق جميلة وجميلة أكثر من قدرة كثير من العراقيين على التحمل والتخيل، فالزمن الجميل لم يمكث إلا بعمر الربيع في العراق، لم يكن أحدنا ليفكر فيما خلا من الأيام بالبحث عن المكان الأفضل لقضاء الساعات الأخيرة من أعمار السنين التي مرت علينا، ثم ليبقى في حالة انتظار حتى يتعانق عقربا الساعة ويعود الإنسان إلى بهيمته.
على العموم الآن بل ومنذ ساعات دخل العراق يوما حزينا جديدا في عام حزين من سنوات الاحتلال، وعجبنا لحالنا أننا جئنا إلى مركز العصابة التي قتلت ولدنا وسرقت أموالنا وما تزال تفعل في بلدنا كل منكر، لنسترد جزءا من حق ضاع كما ضاعت فلسطين ولم يكن أمامنا إلا أن نترحم على أبي الطيب حين قال:
يا أعدل الناس إلا في معاملتي فيك الخصام وأنت الخصم والحكم
لكننا نعرف أن العم سام لم يكن عادلا مع عربي ولن يكون، ففيه الخصام ومن فعلها طرق الآلام الجديدة.
كان علينا انتظار انتهاء عطلة نهاية الأسبوع التي تزامنت مع عطلة نهاية العام حيث ستصاب الحياة بالشلل التام في البلاد، وسنبقى ننتظر بداية الأسبوع الجديد كي نشهد انعقاد جلسة المحكمة وحينها سنعرف أين وصلنا بعد كل هذا الجهد الشاق الذي بذلناه خلال عام كامل من دون أن تلوح في الأفق حتى الآن بوادر تطبيق العدالة الأمريكية التي رأيناها كثيرا في أفلام هوليود، ولم نجد لها أثرا على الأرض لا في العراق وقبله في فيتنام وبعد فيتنام أفغانستان وما رافق تطبيقات العدالة الأمريكية المعصوبة الأعين في غوانتانامو وأبو غريب، وما يجري في فلسطين ومع شعبها بدعم ومظلة أمريكية بالمال والسلاح والإعلام، أو صمت أمريكي حتى تجددت الأسئلة القديمة ترتفع من جديد كلما أصابنا كدول وشعوب أو كأفراد بعض كمن يرتدي قميصا ضيقا أو فضفاضا وفي كلا الحالين سيبدو مثيرا للضحك والسخرية، ومن قال إن ما نجح في بلد أو مجتمع ما سينجح في كل مكان؟ إن الديمقراطية مثل شجرة ما يصلح منها للمناطق المتجمدة لا يصلح للمناطق الحارة، على العموم هذه بركات الديمقراطية الأمريكية خصوصا والغربية عموما، هل أن الديمقراطية المصممة على مقاسات الغرب يراد إقحامها على مجتمعاتنا بقوة السلاح أم أن الديمقراطية أغنية جميلة للأمسيات الملونة من غير المتاح نقلها لبلداننا من الناحية العملية؟ وما قيمة الديمقراطية من دون احترام حقيقي لحقوق الإنسان ومراقبة دقيقة لتطبيقاتها على الجميع من قبل المنظمات الدولية والإنسانية والدول الضامنة لها؟ هي أسئلة لا يمكن أن نعثر لها على جواب بين ما خلفته حروب الغرب العدوانية على الدول النامية والعالم الثالث وخاصة الوطن العربي الذي دفع أعلى التكاليف السياسية جراء ركونه إلى الوعود الغربية التي كان يتأكد زيفها وخداعها في كل مرة، في سفرتنا الماضية طلب منا المترجم اللبناني الأصل إبراهيم حسين تمرا من العراق، جلبنا له كمية منه وسألنا عنه ولكن أحدا لم يعط جوابا عن مكان وجوده بل أن البعض أنكر معرفته به، نحن لسنا بحاجة إليه ولكنه طلب بلسانه تمرا عراقيا ولما كان طبعنا نحن العراقيين الكرم فقد وجدنا أن طلبه يجب أن نؤمنه له وإن كان عبئا ثقيلا علينا، كان رقم تلفونه مسجلا عندي وطلبت من أحد المترجمين الاتصال به واتصل به بالفعل فحاول في البداية أن يتخلص من هذا الحرج ولكنني قلت له بشكل قاطع من غير الممكن أنك نسيتنا ونحن كنا هنا منذ شهرين فقط هل يعقل أن يتعمد تجاهلنا بسبب الخوف في بلد الديمقراطية الأمريكية، أخبرته بأننا جلبنا له التمر، شكرني على ذلك ووعد بأنه سوف يأتي لرؤيتنا وأخذ التمر، ولكنه لم يفعل وقدرت أنه محرج لأن أصله عربي ولا يريد أن يضع نفسه في موضع الشبهة مع الاستخبارات الأمريكية خاصة وأنه يعمل في الجيش هذه عقدة العرب والمسلمين في الغرب بصرف النظر عن البلدان التي ينتمون إليها والذين يشعرون بأنهم متهمون إلى تثبت براءتهم، ولهذا لم نر المترجم اللبناني إبراهيم حسين أبدا، وأعطينا التمر لعاملة النظافة الأمريكية التي كانت تتولى تنظيف مقر إقامتنا في قاعدة فورت هود، والتي قالت إنها تحب التمر كثيرا.
في تلك الأيام ضرب إندونيسيا مد بحري هائل (تسونامي) أعقب زلزالا هائلا في أعماق المحيط الهادي وقتل مئات الآلاف وشرد الملايين، وكان أسوأ كارثة طبيعية مسجلة حتى ذلك الوقت، ولم نمنع أنفسنا من التمني لو أن أمريكا هي التي ضربت بتسونامي انتقاما لكل الضحايا الذين سقطوا نتيجة جرائمها في شتى أرجاء العالم، ولكن الأمنيات تدور في مكانها داخل الرؤوس الحالمة والنفوس الضعيفة التي تريد أن تنوب عنها في استرداد حقوقها قوى الغيب، أو تبقى تسبح في فضاء الكون الرحيب ولا تنتقل إلى الأرض لأن الله سبحانه وتعالي يمد بالعون والمدد من يقف إلى جانب نفسه ويتصدى لكل من يعتدي على حومته وحرماته.
كنت أتساءل مع نفسي لماذا تتكبد البلدان الفقيرة والمتخلفة أكبر الخسائر البشرية والمادية عند تعرضها لأية كارثة طبيعية؟ الإجابة جاهزة وواضحة على الرغم من أن بعض البسطاء أو المغرضين يحاولون تصوير الأمر وكأنه نقمة ربانية على المجتمعات الفقيرة لاسيما وأن معظمها بلاد إسلامية، فالأمر لا يعدو عن كونه أمرا إلهيا بالذهاب إلى الأسباب وأخذ الاحتياطات اللازمة لمواجهة أي خطر محتمل، سواء كان ذلك في تطوير أساليب الاستشعار المبكر أو في أساليب البناء العمراني القادر على مواجهة أخطر التحديات، فالله سبحانه وتعالى أمر المؤمنين بمن فيهم المصلون بأخذ الحيطة والحذر إذا خافوا من أعدائهم أن يميلوا عليهم ميلة واحدة، ومن باب أولى أن يتنبهوا إلى سائر الأخطار التي تهدد وجودهم في تفاصيل حياتهم اليومية، ولا يعد الاحتراز للظروف الطبيعية وتقلباتها مغايرا لسنة الله في خلقه، فماذا لو وقع التسونامي على شواطئ الولايات المتحدة؟ هل كانت خسائره بنفس المستوى؟ نعم شهدت الولايات المتحدة وما تزال كثيرا من الأعاصير مثل كاترينا وريتا وغيرها كثير ولكن الخسائر التي تقع هناك لا تتناسب مع قوة تلك الأعاصير ولنا في مدينة نيو أورليانز التي عاشت تجربة مرة مع كاترينا قبل بضع سنوات ما يمكن أن يدلنا على مواجهة الكوارث الطبيعية مع أن خسائرها كانت قاسية على أمريكا كلها.
على العموم خلال أيام عطلة نهاية السنة في الولايات المتحدة ومن شقتنا في فندق قاعدة فورت هود، كنا نقضي وقتنا في متابعة التلفزيون والذي لم تكن لديه قضية إلا تسونامي كما هو شأن كل الفضائيات ومحطات الإذاعة والتلفزيون والصحف في العالم، ولأننا كنا نجلب احتياجاتنا الغذائية من أسواق قريبة فقد كنا مضطرين لإعادة تسخينها في فرن كهربائي من نوع مايكروويف، وفي اليوم التالي وإذ كنا قد وضعنا الخبز في الفرن وانشغلنا عنه قليلا، فإذا بالدخان يتصاعد من الفرن فبادرنا من فورنا إلى قطع التيار الكهربائي عنه، ولكن صافرة إنذار منصوبة داخل الشقة تحسست من الدخان وسبقتنا فبدأت تطلق صفيرا في أنحاء المعسكر كله وما هي إلا دقائق حتى كانت سيارات الشرطة تصطف على مقربة من شقتنا، وكانت عاملة الخدمة قد وصلت قبل سيارات الشرطة (كما في معظم الأفلام الأمريكية التي تصل الشرطة فيها بعد أن تنتفي أسباب قدومها) واطمأنت العاملة إلى أن الأمر أصبح تحت السيطرة فاتصلت بالجهات المعنية وأبلغتهم بذلك فانسحبت الشرطة من المكان بعد وقت عشنا فيه قلقا مشروعا مما وقع، فنحن عراقيون وجئنا لمتابعة قضية شائكة وحادث كهذا يمكن أن يفسر ضدنا من قبل أجهزة بلد تبحث عن الأدلة ضدنا بعد أن أصدرت حكمها، على كل حال الحمد لله انتهت المشكلة وعدنا إلى تفاصيل حياتنا اليومية انتظارا ليوم الاثنين، غير أن مترجمة اسمها سيرا جاءتنا لتبلغنا أنها مكلفة بمرافقتنا والترجمة لنا طيلة مكوثنا هناك وقالت بأن المحكمة ستعقد جلساتها يوم الثلاثاء 4/1/2005 ، هذا يوم تأخير آخر ولكن علينا أن نتعامل مع التقاليد السائدة في العالم المسيحي في الاحتفال بأعياد الميلاد ورأس السنة فنحن الآن في بلادهم وليس أمامنا إلا انتظار جلسة الثلاثاء، ومعنى ذلك أننا لن نستطيع مبارحة المعسكر إلا بإذن رسمي ومع المترجم.
مرة كنا في أحد مراكز التسويق الكبيرة في مدينة كلين والقريبة من القاعدة، جاءنا أكثر من مواطن أمريكي ليعبر عن تعاطفه مع قضيتنا المعروضة على المحكمة وكان بعضهم ساخطا على ما ارتكبه الجنود وقالوا إنهم كانوا يتابعون الحاكمة عن طريق الصحافة، تساءلت في نفسي لماذا يكون الفرد الغربي إنسانيا في مشاعره وسلوكه حينما لا يكون مسؤولا أم أنه ممثل بارع عندما يؤدي هذا الدور؟ أكاد أجزم أن مشاهرهم كانت صادقة فما يحرك المشاعر داخل النفوس هو عامل واحد عابر للأديان والقوميات والمذاهب، ولكن للدول مصالحها العابرة للقارات، ولهذا ينزع الأمريكي عنه كل هذه المشاعر عندما يحتل موقعا حتى لو كان هامشيا في سلك الخدمة العامة؟ لأن تلك الوظيفة تجرده من إنسانيته وتتركه يتحرك بآلية عمياء يفقد فيها كل ما يمت إلى ما يميز البشر عن سائر المخلوقات إذا اقتضت ضرورات الوظيفة ذلك؟
للراغبين الأطلاع على الجزء الخامس:
http://www.algardenia.com/qosesmenaldakera/12386-2014-09-03-18-23-27.html
706 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع