ليس كل الأرمن ممن دخلوا العراق، احتفظوا بدينهم، أو تبنتهم عائلات أرمنية وكنائس
عندما تفتقَ وعيي مبكراً وبدأتُ أتعرفُ على الألوان والأشكال، انتبهتُ أن لون عينيّ لا يشبه لون عينيّ أبي الزرقاوين. كنتُ أصدق دعابتهُ وأبكي في صغري وهو يحكي لي أنني لستُ ابنتهم وأنهم وجدوني في كيس من الخيش أمام الجامع. هكذا بقي هاجس الشك في داخلي وأنا أذهب إلى الروضة ثم المدرسة ويسألني الأولاد لماذا عيناي بنّيتان بينما عينا أبي وعيون عائلته ملونة ولهم بشرة بيضاء صافية. كنتُ أسمع مزاح الناس في ما بينهم عندما يصادفون شخصاً بصفات شقراء ويقولون عنهُ أن جندياً انكليزياً ضاجع جدته وورثت منهُ هذه العيون. وعندما كبرت وعرفت تاريخ جدتي صرتُ أردّ على سخريتهم السمجة هذه بأن من ضاجع جدتي كان عراقياً وأنجب منها أولاداً يشبهون أولاد الانكليز، بينما تركني أرث منهُ ومن أمّه العربية بملامح لن يخطئ فيها أحد أنني عراقية قح.
لم أحظ بلقاء جدتي "الأرمنية"، فقد ماتت قبل ولادتي بسنوات. لكني حظيت بلقاء الرجل الذي عاشرها وعرفها جيداً، جدّي. كلما دخلتُ عليه غرفتهُ البعيدة وتأملت صورَه على الحائط، يقف في إحداها بكامل قيافتهِ المسلحة، وأخرى بين أقرانهِ في المعتقل وهم يبتسمون لكاميرا كانت توثق للحظة سلب حريتهم بسبب مواقفهم السياسية، كنتُ أبحث بين الصور عن صورة لجدتي ولم أجد. لقد أخفاها كلها بعدما تزوج زوجتهُ الثانية. المرة الوحيدة التي سمح لنا أنا وأخوتي بأن نشاهد صورتها كان لوحدهِ أثناء سفر زوجته. امرأة متوسطة الطول، نحيفة بجذيلتين طويلتين تصلان إلى أسفل الخصر ونظرة تحمل عتاب الكون كلهُ تجاه عالم خذل طفولتها في يوم ما. هذا كل ما أذكرهُ عن صورتها، لكني أعرف نظرتها جيداً، فقد عاشت معي إلى حد هذه اللحظة.
كانت طفلة لا يتجاوز عمرها الست سنوات عندما وصلت جدتي الى شمال العراق مع الناجين من المذبحة. على ظهر بغل تحديداً، حيث كان النخاسون يبيعونهم بثمن بخس. كانت جدتي، الطفلة الحمراوية ذات العينين الزرقاوين، من نصيب جدي الأكبر. اشتراها ليعتقها ويكسب بها أجراً عند الله بحسب اعتقاداته. حملها معهُ ورباها بين بناتهِ وأولادهِ ولقّنها الشهادتين لتدخل الإسلام. ولا أعرف ما معنى أن تدخل الإسلام وهي طفلة لا تعي شيئاً عما حولها وهل هذا التعبير من الناحية الإنسانية مقبول أن يدخل الطفل في دين ما؟ جدتي لم تكن تجيد أي لغة سوى لغتها والتركية. كل ما بقي في ذهنها من طفولتها المترفة هو أرجوحة حديقتهم التي تركتها والفراغ يتأرجح عليها، ونشيد تعلمتهُ في الكنيسة وملامح أختها الكبرى قبل أن تفترقا. لم يكن يتخيل أحد أن هذه الطفلة ستكون فتاةً فاتنة في يوم ما وسيحكمون عليها بالزواج لسترها من الفتنة. كان جدي هو الخيار أمامها. تزوجها وهي لم تحِض بعد كما أخبرتني جدتي الأخرى، رفيقتها المقربة. اختلط في دم العائلة "العراقية" الشمالية، دم جديد، وصار لعنوان ملامحهم لوناً وتفاصيل مميزة. بعد مرور عشرات السنوات ورغم "اعتناق" جدتي الإسلام، بقي اسم أبي وأخوته في الحي والجوار: أولاد "ماريا" الأرمنية! وكذا كان يفعل بعض الناس في نينوى مع العائلات اليهودية التي رفضت الهجرة إلى اسرائيل وآثرت البقاء في مدينة الموصل. شاهدتُ هذا بنفسي وسمعت الناس ينعتون جارنا البقّال بـ"هذا اليهودي" حتى بعد اعتناق العائلة كلها الإسلام واختيارهم مدينة الموصل موطناً لها بدلاً من أورشليم.
ليس كل الأرمن ممن دخلوا العراق، احتفظوا بدينهم، أو تبنتهم عائلات أرمنية وكنائس أرمنية كانت موجودة في العراق قبل المذبحة التي تبلغ مئويتها هذا العام. كثيرون منهم وصلوا أطفالاً أو شباباً وقد فقدوا أفراد عائلاتهم بالكامل في المذبحة وأصبحوا بحكم الظروف جزءاً من العائلات المسلمة، مثل جدتي. بعد مرور سنوات على زواج جدتي وانجابها الأولاد ونسيانها تماماً لغتها الأرمنية وأصولها، جاءت امرأة تشبهها جداً تبحث عنها في البلدة التي كانت تعيش فيها شمال العراق. أخبرتها أنها أختها الكبرى وتوصلت إليها بالسؤال وتتبع الشخص الذي رافقهم في رحلة نجاتهم من المذبحة حتى أوصلهم حدود العراق. كانت أختها تبلغ من العمر ما يؤهلها على تذكر كل شيء. حافظت على دينها وما تعلمتهُ منذ طفولتها ومع الأيام استطاعت العودة إلى بلدتها في الآناضول. وبعدما استقرت قررت البحث عن أختها، جدتي. طلبت منها أن تعود معها إلى بلادهما، إلى بيتهما، وإلى إحياء صناعة عائلتهم التي اشتهروا بها وهي صناعة الأحذية الجلدية. لكن جدتي رفضت العودة. نظرت حولها متفقدة حياتها الآن، لن تستطيع البدء من جديد لأنهُ لم يعد هناك جديد للبدء به.
عادت الأخت الكبرى بخيبة الأمل إلى بلادها، وتركت أختها الصغرى وراءها، تنتظر مزيداً من الأطفال، وشقاؤها مستمر في أن تثبت لنساء البلدة أن لون وجنتيها طبيعي ولا تضع أي مساحيق كما يتهمونها. في كل مرة كانت تمسك طرف وشاحها الأبيض وتمسح به وجنتيها لتثبت لهم ذلك. كانت كلما ألحّت في المسح، كلما أحمرّت وجنتاها أكثر وأكثر. وكلما أحمرّت وجنتاها اسودّت معهما ذاكرتي عن حقبة دموية ستظل وصمة عار على جبين البشرية.
المصدر:موقع المدن
1130 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع