مثنى محمد سعيد الجبوري
في أحدى الليالي من بداية عام 1971 - أن لم تخني الذاكرة - جمعتني مائدة بمناسبة أجتماعية في أحد النوادي الاجتماعية العائلية مع عدد من المدعويين لهذه المناسبة. كان أغلبهم ممن ألتقي بهم لاول مرة ولم أكن أعرف من بينهم غير واحد أو أثنين على اكثر تقدير، كان الحديث يدور بحذر ويغلـب عليه طابع المجاملات الاعتيادية في ضوء طبيعة العلاقة الانية التي تجمع الحاضرين، وكذلك للتوجس والتحسب الذي كان يطغى على الاحاديث في ذلك الوقت، خوفاً من زلـة لسان تؤدي بصاحبه الى ما لاتحمد عقباه.
وفجأة لفت أنظار جميع من كان جالسا في المكان، قطع البث التلفزيوني عن برامجه المعتادة، وظهور رئيس الجمهورية الاسبق أحمد حسن البكر، وهو يقلد نائبه صدام حسين (رتبة عسكرية/ فريق أول) وشارة الاركان. وجه أحد المعارف من الجالسين كلامه الى من يجلس قبالته قائلا ً (الله يرحم أخوك) لم يرد عليه من وجه له الكلام الذي كان يتناول طعام العشاء، التفـت لي المتحدث مكملا ً كلامه قائلا ً:
هل تعرف من هو أخوه، يا فلان؟..
أجبته بالنفي، كنت خلال هذه المحادثة أحاول الربط بين ظهور المراسيم في التلفزيون وطرح المتحدث لتساؤلاته بشأن الترحم على روح شقيق من يشاركنا على المائدة، ولم أجد ما كنـت أريد الوصول اليه، والذي أثار فضولي، كنت متردداً في التوسع بالحديث والتحفظ .
كانت السمة السائدة في الاحاديث كما أسلفنا خوفاً من التداعيات التي لا قبــل للجميع بها.
تركـت لصاحبي حرية الحديث من دون توجيه اي أستفسار له، وفضـلت أن أكون مستمعا فقط.
قال لي مجيبا على سؤاله الذي طرحه هو وموضحا ً له :
صاحبنا كان ضابطاً في الجيش العراقي برتبة (مقدم ركن) ومعلما ً في كلية (الاركان)، والعسكريون يعرفون ماهي المواصفات التي يفترض توفرها في الضابط ليكون (مدرساً) في كلية الاركان، يتخرج على يديه ضباط يحملون شارة (ركن)، وكان الضابط المعني قبل في كلية الاركان العراقية عام 1942وتخرج فيها بتفوق ما أهله لأن يحجز مقعداً بين زملائه للذهاب الى انكلترا للمشاركة في دورة الاركان في (كامبرلي) ويتخرج منها بتفوق،...
كان قبل حصوله على شارة الاركان أحد المرافقين للمرحوم الامير عبدالاله الوصي في حينه على عرش العراق.
الضابط المذكور كان يتسم بالجدية في واجباته مستقيماً في عمله لايخضع لأية ضغوط يشعر أنها تبعده عن مساره السليم في معاملاته وأداء وأجباته على الوجه الاكمل، هذا ما أوضحه زميلي وهو يقدم لي نبذة عن مواصفاته الشخصية والعملية، في ضوء هذه الصورة عنه كان يوصف بالتشـدد وفقدان المرونة ورفض أية مداخلة في واجباته، لهذا أخفــق أحد طلابه باجتياز الامتحان في الدورة الاولى، كان التلميذ المذكور برتبة نقيب (رئيس) قبـل في كلية الاركان وأخفق في الدورة الاولى ، ووفقاً للضوابط المعمول بها يسمح له بإعادة الكرة، وهكذا كان، وقرب انتهاء الدورة الثانية وأداء الامتحان المطلوب ، شعر الطالب أنه لن يتمكن من تحقيق مراده في الحصول على شارة (الاركان) وستكون النتيجة هي نفسها التي انتهى اليها في الدورة الاولى، وهي الاخفاق أيضاً ومغادرته كلية الاركان نهائيا ً دون الحصول على مبتغاه. بدأ بمراجعة الاساتذة الاخرين من زملاء استاذه في الكلية ليتوسطوا له لدى (أستاذه)، منهم من استجاب على مضض بسبب الحاح الطالب مع قناعتهم بعدم النجاح في مهمتهم لمعرفتهم بزميلهم وتصلبه في مواقفه، والبعض الاخر اعتذر مباشرة للطالب بعدم الفائدة من تحقيق نتائج ايجابية بهذا المجال.
بعد أن أخفـق الطالب بالحصول على أمنياته داخل الكلية، خرج الى أجواء أخرى خارجها، إذ أخذ يراجع من عمل مع أستاذه من الضباط والامرين يتوسطهم في مساعدته بالضـغط عليه، لكـن النتائج كانت سلبية أيضا، راجع رئيس أركان الجيش و وزير الدفاع ثم رئيس الوزراء من دون تحقيق نتيجة تذكر، لم يبق أمامه غير الامير عبدالاله، فهو رئيس الدولة، وأستاذه كان مرافقا له، وليس من المعقول أن يرفض له طلبا، كما أنه ملاذه الاخير، وهكذا كان، راجع البلاط الملكي وطلب مقابلة الامير عبدالاله، سمح له بذلك، عرض عليه مشكلته مفصلا، وطلب مساعدته، رفع المرحوم عبدالاله سماعة الهاتف مكلما أستاذ الطالب، بعد المجاملات المعتادة، استفسر عن موضوع تلميذه الذي أخفق في الدورة الاولى طالباً منه مساعدته وهو على أعتاب انتهاء الدورة الثانية التي من خلالها أما أن ينال شارة (الركن) أو يضيع حلمه في الحصول عليها نهائيا.
بعد أن استمع المقدم الركن الى توجيهات المرحوم عبدالاله، ماذا أجابه ؟!
سيدي : أنت تستطيع ان تستدعي أي كناس من الشارع وتجعل منه وزيرا، ولكنك لن تستطيع أن تجعل من أي ضابط غير مؤهل أن يحمل شارة (ركن) وهو لا يستحقها، أنني آسف لعدم الاستجابة لرجائك، سيدي.
أسودت الدنيا في عيني الضابط التلميذ وهو يفقـد آخـر أمـل كان يمني نفسه به لتحقيق أمانيه من خلاله، ماذا فعل؟ حزّم جسمه (بقنبلة) تحت ملابسه، واتجه الى غرفة أستاذه، وهجم عليه محتضننا له، وكانت النتيجة استشهاد استاذه ومقتله بعد أن تفجرت بهما القنبلة التي تحزم بها.... وهكذا ذهب الاثنان ضحايا لقناعتيهما، الاستاذ الذي كان يشعر بمسؤولياته تجاه ضميره وواجباته وجيشه الذي سيكون (الضابط الركن) أحد قادته ومسؤولا عن حياة أفراد وسلامة القوة العسكرية التي ستأتمر بأوامره مستقبلا، ومدى قدرته وامكانياته في تقدير الموقف خلال الحركات العسكرية التي ستحصل مستقبلاً، وعدم قناعته بتوفرها في قدرات الطالب ما دعاه الى الاحجام عن الاستجابة للضغوط التي مورست عليه التي وصلت الى أعلى المواقع في الدولة، والطالب الذي لم يتحمل الاخفـاق في تحقيق أمنيات راودته وحلم بها وسعى لتحقيقها، ولكـن قدراته الشخصية عاكسته في الوصول الى مبتغاه وذهب الاثنان ضحايا معتقداتهما، كل ينظر إليها من زاويته.
وعندها عرفـت لماذا ترحّم صاحبي على روح شقيق صاحبه والمغزى منها إذ قارن بين موقفـه المبدأي (يوم كان للمبادئ قيم) وتصلبه في واجبه، وبين ما يشاهده من (توزيع) رئيس الجمهورية (شـارة) الاركان بالمجان ولجهات لا علاقة لها بالجيش لا من قريب ولا من بعيد.
والان عزيزي القارئ، أنت متلهف لمعرفة بطلي القصة ؟ .... أنهما:
1 - الشهيد المقدم الركن محمد السبتي : المعلم في كلية الاركان العراقية.
2 - المرحوم النقيب (الرئيس) جلال عبدالرزاق الطالب في كلية الاركان.
3 - تاريخ الحادثة : السبت 28/نيسان/ 1951.
رحمهم الله الجميع وغفر لهم خطاياهم....
القصة حقيقية سبق ان رواها لي والدي رحمه الله
وحكى انه دخل الى بهو الضباط وطلب من الجميع مغادرة القاعة عدا المعلم المقصود
608 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع