المدى/السليمانية/ يوسف المحمّداوي:السائر بشوارع السليمانية يحيله اكثر من مشهد الى حجم الرقي والترف الذي يعيشه المواطن هناك،
وبنفس الوقت يحيله الى حجم الخراب والدمار الذي تعيشه بغداد، الشوارع الواسعة الأرصفة النظيفة التي تعج باسراب الحسن، جسور المشاة بمصاعدها الكهربائية وسقوفها الجميلة التي هي الوسيلة المثلى للحفاظ على سلامة المواطن ،وما ان تعتلي فوق تلك الجسور حتى تلتفت باتجاه بغداد لترى مشهد امرأة مسنة خارجة من احدى العيادات الطبية في ساحة النصر وهي تتوسل شرطي المرور ان يساعدها في العبور الى الجانب الآخر من الشارع، صورة طالب صدمته عجلة على طريق المطار، آثار لنصف جسر مشاة على قناة الجيش وبالتحديد قبالة مدينة الألعاب، وهنا الف سؤال يطرح على طاولة المسؤولين عن خراب بغداد، أين ذهبت الموازنات الانفجارية ؟في اي معلم شاخص للعيان حتى نكمم أفواهنا ولا نتحدث عنكم إلا خيرا.
(چاي خانه شعب)
عاصمة الشعر التي خرج من رحمها كبار الأدباء والفنانين ،لابد من وجود مقاهٍ تحتضن جنون إبداعهم وجدلهم الفكري وحواراتهم التي لا تنتهي.
مقهى الشعب الواقعة في شارع كاوه الحداد قرب ساحة السراي هي المقر الرئيس لكبار شعراء وأدباء وفناني المدينة ،وحين طلبت من سائق سيارة الأجرة الشاب ايصالي الى مقهى الشعب لم يتردد لكونها أصبحت احدى معالم السليمانية التراثية المهمة ،مررنا بشارع كاوه الذي يتميز بكثرة الفنادق الشعبية التي يعمها البسطاء والعاملون القادمون من المحافظات، والشار ع سمي بذلك الاسم نسبة للثائر الكردي كاوه الحداد الذي ثار على الظلم والاستبداد وخمد أنفاس الطاغية الضحاك، ويتميز الشارع بتعدد المهن الشعبية فيه ويعود تاريخ الشارع الى الثلاثينات من القرن الماضي ،وحتى المحلات التي تحيط بالشارع هي مناطق شعبية بنيت اغلب بيوتها وفق طراز الشناشيل وهذا ما يجعل الشارع شعبيا 100% كما ذكر السائق.
وصلنا المقهى وهي عبارة عن باب صغير يؤدي الى ممر ضيق سرعان ما يتسع الى باحات تعج برواد المقهى ،المشهد لا يختلف كثيرا عن مشهد مقاهي بغداد المهمة كالزهاوي وحسن عجمي والشابندر ،لكنها اقرب في البناء والطقوس الى الشابندر لكن مقهى الشعب أوسع منها .
تاريخ التأسيس
طلبت من المشرف كاكا عمر محمد شريف على المقهى ان يحدثنا عن مرحلة التأسيس ولكنه بسبب انشغاله بخدمة الزبائن الذين يملأون المكان أحالني الى الشاعر والصحفي أمير حلبجي ،الذي اكد للمدى ان المقهى تأسس عام 1950 من قبل اسطه شريف هورماني ،وكانت في بداية التأسيس توجد مكتبة صغيرة تسمى (خاكي) لصاحبها محمود خاكي، وفي أعلاها كان يقع فندق الشعب الذي اندثر مع تقادم السنين ،وبين حلبجي ان المقهى تحول في فترة ما الى مجموعة أكشاك لمختاري محلات قضاء السليمانية يمارسون فيها أعمالهم في خدمة المواطنين، والمقهى مع ذلك بقي ملاذا للأدباء والشعراء والفنانين والإعلاميين والعديد من السياسيين ، وكان المقهى عبارة عن وكر لجميع الأحزاب السياسية ،وكان منطلقا لشباب السليمانية للشروع بالانتماء الى البيشمركة ايام النضال ضد الديكتاتورية، والمقهى في تلك الفترة موقع البريد السري وارسال المنشورات السرية بين الداخل ورجال البيشمركة، لذا تجد من رواده العديد من مناضلي البيشمركة.
ضمها للآثار كتاريخ مدينة
قبل عام 1991كان الشباب لا يرتادون المقهى الا القلة منهم خشية الاعتقال من قبل النظام السابق، لكن بعد ذلك العام وبزمن رئيس وزراء عمر فتاح في حكومة السليمانية وبإيعاز من مام جلال تم ترميم المقهى مرة ثانية لتصبح بحلتها الجديدة، وهذا ما جعلها قبلة للشباب.
الناظر الى المقهى من الداخل سيدهش بالتأكيد بجمالية البناء الفولكلوري لجدران وسقف المقهى وتزينت تلك الجدران بمكتبات معلقة في الحائط ،فضلا عن صور رائعة وقديمة تعد أرشيفا لتاريخ مدينة السليمانية، وكذلك وجود صور للشخصيات السياسية والأدبية والفنية الراحلة او الموجودة ،وهناك صورة مميزة لصاحب المقهى مع رئيس الجمهورية جلال طالباني، ويضيف حلبجي ان صاحب العقار التي تقع فيه المقهى حاول اكثر من مرة ان يهدم البناء ويحول المقهى الى عمارة، لكن الأدباء والفنانين شحذوا أقلامهم واطلقوا أصواتهم في الصحف والمجلات والفضائيات ضد الغاء المقهى، وهذا ما حدا بالسيدة هيرو خان الى التدخل المباشر ومنع هذا الأمر ومن ثم صدر قرار من مديرية قسم الآثار بضم المقهى اليه كمعلم اثري .
الكتب مجانا في المقهى
يضيف حلبجي الذي يواكب على الحضور اليومي للمقهى منذ 29عاما ان الكتب الموجودة في المكتبات المعلقة على الجدران هي من إصدارات الأدباء والشعراء ويقومون بإهدائها للمقهى ليطلع عليها زبائن المقهى مجانا، وكذلك تقوم وزارة الثقافة بإهداء ما تطبع من مؤلفات الى المقهى وكذلك بقية دور النشر والطباعة التي تقوم بإيصال الكتاب مجانا لغرض الانتفاع منه وتعميم الوعي الثقافي عند أبناء المدينة، هنا يجب ان ارتشف بحرقة الشاي المقدم لي مجانا وأقول لوزاراتنا ومثقفينا ومؤسسات الطباعة والنشر متى تقلدون الناس بالأشياء الإيجابية والنافعة للمجتمع ...متى؟.
تسهم المقهى في مد خطوط التواصل بين أدباء الخارج والداخل واطلاع الجانبين على نتاجات بعضهم كما يقول حلبجي ،مؤكدا بانها مكان التواصل ايضا بين أدباء المحافظة وفنانيها وزملائهم من جميع محافظات البلد، ومركزا للصحف الصادرة للتعرف على المشهد الثقافي والسياسي والفني وفي بداية مدخل المقهى وعلى اليمين توجد مكتبة كبيرة لبيع الكتب .
استذكار الفنان حسن زيرك
ومن رواد المقهى على مدى مسيرة (63)عاما كما يبين حلبجي الشعراء ديلان وشيركو بيكس واحمد هردي ونقاد كبار منهم إحسان فؤاد وعبد الرحمن حاج معروف والروائي إبراهيم احمد والقاص رؤوف بير كرد وعبد الله جوهر ،واغلب الفنانين من ضمنهم الفنانان رفيق جالاك ورؤوف يحيى ،ويشهد المقهى على مدار العام جلسات نقدية ويحدث جدل أدبي احيانا بين المجددين في الشعر الحديث وبين المتمسكين بالكلاسيكي والمدافعين عنه، ومنه صدرت العديد من البيانات الأدبية والفكرية والفنية، وعن آخر النشاطات التي جرت في المقهى يقول حلبجي بالتعاون مع إدارة المقهى قمت بإدارة جلسة بمناسبة ذكرى رحيل الفنان الكبير الراحل حسن زيرك ،تحدث فيها صديق المرحوم الفنان الإيراني علي سردشتي الذي واكب مسيرة ذلك الفنان الكبير وتكلم عن سيرة الفنان الراحل وغنى أمام حشد كبير من أدباء وفناني السليمانية العديد من أغاني حسن زيرك، وعملنا داخل المقهى جلسة خاصة عن الفنان الكبير كريم كابان وأيضا بحضور غفير و خلال الجلسة تم تكريم الفنان من قبل المكتب الإعلامي للمحافظة، واكد حلبجي ان العديد من الطلبة يزورون المقهى وبالتحديد من معهد الفنون الجميلة او من المتخصصين بالأدب للاستفادة من تجارب الأدباء والفنانين من خلال استفساراتهم وأسئلتهم .
رسام المقهى
حلبجي : لدينا فكرة بإقامة حلقات أدبية وفنية بمعدل جلستين في الشهر تعميقا للمسيرة الثقافية مضيفا إن إدارة المقهى بانتظار موافقة الحكومة المحلية، يقول حلبجي ان :المكان لم يكن محل اهتمام محلي فقط بل هو الآن محط اهتمام دولي والعديد من المحطات الأجنبية زارت المقهى وتحدثت مع صاحب المقهى والزبائن، موضحا إن العديد من السائحين الأجانب يزورون المقهى ويلتقطون الصور فيه كواجهة ثقافية وتاريخية للمدينة.
فاجأني احد الفنانين الكرد بانه رسم لي بورتريت شخصي بقلم الرصاص، انه الفنان الفطري محمود محمد صالح الذي لم يدخل التعليم لانشغاله بالنضال مع البيشمركة ، يقول صالح الذي يمارس الرسم داخل المقهى منذ عام 1976،وقام برسم اغلب الشعراء والفنانين والمواطنين وعن كل بورتريت شخصي يحصل صالح على مبلغ خمسة آلاف دينار ،لكن الشاب الذي يطلب منه رسم صورة حبيبته يستوفي منه مبلغ قدره(25)الف دينار، يؤكد فنان المقهى بانه قام بافتتاح العديد من المعارض الشخصية في شوارع السليمانية وعلى الهواء الطلق، وكذلك في الباركات الموجودة في المدينة ،وعن اغلى لوحة باعها هي بسعر(200)دولار واقتناها احد التجار واللوحة تمثل أحياء السليمانية القديمة، وفي النية سيقوم صالح بفتح معارض خاصة له في بغداد وفي مقهى الشابندر تحديدا،وعن تعامل صاحب المقهى معه، قال ان: اسطه عمر رجل متعاون جدا ويقدم الدعم المعنوي والمادي الى المحتاجين من الأدباء والفنانين.
حكاية مناضل من البيشمركة
لم اكن استطيع ان افر فرحا بالهدية المجانية التي أعطاها لي رسام المقهى دون اللقاء مع احد مناضلي البيشمركة، انه الكاتب أبو بكر شكر عبدالله المعروف باسم (بكر شكر الله)من مواليد 1943،يقول : نفيت من السليمانية الى مدينة الفلوجة عام 1975وبقيت فيها حتى عام 1984،وكنت اعمل طوال سنوات النفي في معمل الفلوجة للإسمنت كمراقب فني في المعمل، وللامانة انا في تلك المدينة لم اشعر باي نوع من الغربة، ولكن بين فترة واخرى يأخذونني الى الامن العام لغرض التحقيق معي لكوني اعمل في صفوف البيشمركة، وآخر مرة جرى فيها التحقيق معي واشرف على التحقيق حينها مدير الأمن العامة شخصيا كما يقول شكر وطلب مني ان اتعاون معهم في كشف بعض اسماء رفاقي في البيشمركة، ولكني رفضت قائلا (لا اعرف شيئا) فقال بعصبية(انت زمال)،فاجبته (كل شيء منك مقبول ،سجن ،تعذيب ،إعدام ،فهذه الأمور أصبحت بالنسبة لي شيئا طبيعيا)،ثم كرر كلمة (زمال يجب ان تتعاون معنا ،وسنعطيك اي منصب تريد باستثناء منصب الوزير، حينها قلت له بخوف(لنفترض انني خنت شعبي وتعاونت معكم ،كيف تثق بي الا أخونك أنت ايضا؟،من يخون شعبه مقابل ثمن ،سيخون يوما ما من دفع له الثمن حتما)،فرد علي (كرر ما قلت)،فكررت كلامي السابق، فقام مدير الأمن من كرسيه، وكنت ارتعد من الخوف لردة فعله القاسية كما توقعتها، لكنه فتح يديه وضمني الى صدره وقال لي (من الآن أنت حر)،وبين شكر الله ان ردة الفعل بصوت الحق من قبل المظلوم تكون أحيانا هي المنقذ له.
المعسل
نظرت الى داخل المقهى لأرى الصور الرائعة التي تؤرشف تاريخ المدينة وابطالها ومبدعيها، هنا صورة عبد الكريم قاسم مع مصطفى عبد الله ،صور للمام جلال في شبابه ايام النضال، صورة له مع صاحب المقهى، احجار الدومينو وبولات النرد تتراقص على موسيقى الفنانين، وتتلون بمكياج اللوحات، وتغني مع الشعراء، رائحة معسل الاركيلات سيدة المكان ينافسها عطر الشاي المهيل ونكهة الحامض من القواري التي تتباهى بقدمها امام سماورها الجميل، هناك شاعر شاب يقرأ قصيدته لصديقه، فنان مسرحي يحفظ دوره، وآخر يحفظ اغنيته ،وفنان يرسم لوحته، وشيخ يلوذ بصمته، وقلبي يلوذ بحسرته ملتفتا صوب بغداد عاصمة الفن والحضارة وهي تطرد فنانيها خارج البلاد بعد ان اؤصدت أيدي الظلام أبواب صالاتها السينمائية ومسارحها، ولاعجب ان نسمع من هنا وهناك بان الغناء حرام، لتتحول ام الفن ضد الفن، مرددين بصمت (هلبت كسرنه بخاطر الله).
823 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع