نصير شمه:ذات يوم صحوت فجأة على حلم كنتُ رأيت فيه الموسيقى، أعني أنني لم أكن أسمعها، بل أراها بعينين مفتوحتين وهي تتراقص أمامي بأجنحة بيضاء أخاذة في جمالها، نهضت من سريري، وأنا أفكر بالطريقة التي أستطيع من خلالها أن أرى الموسيقى، أنني أسمعها لكنني أريد أن ألامسها وأراها، أمسكت العود بين يديّ،
وأغمضت عينيّ، كانت الأنغام تتراكض بين أصابعي وتؤلف صورة واسعة لفرس يركض في أرض لانهائية من دون أن يتوقف أبدا يركض ويركض وهو يصنع من وقع حوافره موسيقى تدب في أذني فتعيد أصابعي صياغتها، أنهيت اللحن الذي خرج مرة واحدة وبدفقة لا تتوقف لأجد نفسي أرى الموسيقى، منذ ذلك اليوم صرت أريد من الموسيقى أن تصبح صورة تُرى بالعينين كما تُسمع بالأذنين، صرت أبحث عن موسيقى الصورة التي صارت هاجسي في كل ما ألفت من أعمال موسيقية.
انتهى ذلك العام بمأساة طبعت حياتي بالألم والحزن والسواد، فقدت حريتي فجأة، في ذلك الوقت أصبحت سجيناً خلف القضبان، كنتُ قد بدأت بحصد نجاحات متتالية وجوائز عديدة، وفجأة أعادني كابوس إلى النقيض. عدتُ عنوة إلى العراق وانقلبت حياتي رأسا على عقب، وبعد فترة زمنية كانت دهورا عددها مئة وسبعون دخلت خدمة العلم الالزامية وخلال أدائي لهذه الخدمة حصل المحظور ودخل العراق إلى الجارة الكويت، وبدأت الأحداث تتوإلى وتتطور بسرعة مذهلة، دمر بعدها بلدي وتمزقت روابط الكرخ والرصافة، تمزقت ضفتا بغداد الجميلتان وكأننا صحونا على زلزال دمر كل جميل فينا وعلى أرضنا.
رحلت هنا والدتي التي كانت هي المعادل عندي للوطن، صرت فجأة يتيما وأنا استعيد دعوتها لي في كل صباح قبل أن أغادر المنزل (إن شاء الله يتحول التراب بيدك إلى ذهب)، وهذه أجمل دعوة سمعتها في كل ما تبع من سنوات.
كانت مواليد عام 1963، هي أول مجموعة تسرح من الجيش بعد وقف إطلاق النار، هنا بدأت أفكر ما هو العمل الذي يطبب جروح أرض الرافدين، فقررت أن أقدم أول حفل وفي المتحف العراقي (القاعة الآشورية تحديدا) التي تحتوي جدرانها على قطع أثرية تعود إلى خمسة آلاف عام، أردت أن أقول من تلك القاعة أن هذا هو العمق الحقيقي لنا، لا ما تهدم من مبانٍ وجسور. كانت الدماء ما تزال ندية حينما أعلن عن موعد الحفل ببطاقات دعوة طبعت باليد، كما أراد لنا بوش بأن يعيدنا إلى عصر ما قبل التكنولوجيا، لكنه ومن دون أن يشاء أعادنا إلى جذر ربما قد نسيناه بمجيء التكنولوجيا، وكان لهذه الحفلة فعل السحر، حضورا وعزفا وتأثيرا كأنما طائر العنقاء قد بدأ ينفض التراب عن نفسه ليحلق مجدداً.
حملت عودي وجرح العراق وطفت العالم من دون دعم أي جهة لا داخل ولا خارج العراق، كنت مسلحا بإيماني وموهبتي وما تعلمت وعودي، كانت الأنغام قادرة على أن تجمع كميات كبيرة من علب الدواء لأطفال وشيوخ شعبي، وامتدت ساقاي إلى أرجاء الوطن العربي والعالم، وكان يقيني يزداد كل يوم بأن الموهبة مسؤولية كبيرة لم تمنح للانسان تكريما له ليؤدي واجبا مقدسا من خلالها.
في أكتوبر/تشرين الأول 1993 دعيت إلى تونس لأكون أستاذ العود في المعهد العالي للموسيقى، وأقمت في المعهد خمس سنوات كانت غزيرة بالفن وبالانفتاح أكثر على أوروبا، فقد ظهرت لي الأسطوانة الأولى «قصة حرب شرقية» من باريس معهد العالم العربي عام 1994 وتلتها الأسطوانة الثانية «إشراق» من روما عام 1996، وبدأت أجوب العالم وأنا أحمل عودي وأحقق بعض أحلامي التي مازالت لم تتحقق كلها حتى اليوم. بعد ذلك أصدرت أسطوانتي الثالثة «رحيل القمر».
لم يكن مشواري مع العود سهلا، كان طريقا طويلا ما زال أمامي الكثير لأبلغ نهايته، بل أنني لن ابلغها أبدا، غير أنني عرفت أن من يريد أن يحفر اسمه هو من يضيف، لا من يسير على منوال السابقين، فاهتممت بالثقافة والشعر والأدب، وكان زادي من الفنون التشكيلية كبيرا، فأنا تقريبا لدي مجموعة من الأصدقاء التشكيليين أكثر بكثير من الموسيقيين، كما أن جل أصدقائي من الشعراء والكتاب عموما، فالموسيقي بلا ثقافة سيظل مجرد عازف يحرك الاوتار بطريقة ميكانيكية ومن دون أدنى شعور بالرغبة في التغيير أو النظر صوب المستقبل. ومن خلال بحثي المتواصل توصلت إلى مخطوطة للمعلم الفارابي موجودة في إحدى مكتبات ايرلندا، وفيها يشرح المعلم عن العود ذي الثمانية أوتار، فقمت بتحقيق هذه المخطوطة عام 1986، وقدمت العود بمناظرة مفتوحة أمام الجمهور كان الفارابي والعود المثمن نجمين سطعا في ذلك الحفل.
بعد تونس دعيت إلى القاهرة لتحقيق الحلم الذي راودني وخططت له طويلا، وهو إقامة بيت للعود، وهكذا كان بيت العود العربي في دار الأوبرا المصرية (أكتوبر 1998)، ومن هنا انطلقت رحلة جديدة مع جمهور جديد وعريق بدأت أشعر معه بلذة النجاح الذي يقترن بالجدية والجهد والرصانة، ولا أنسى دور رتيبة الحفني التي غيرت وجهتي من لندن إلى القاهرة، وأشعر هنا بأن هذه الخطوة كانت صائبة جدا فقد أعطيت الكثير خلال هذه السنوات، وكذلك نلت الكثير من الاحترام والتقدير. وربما يصبح الحديث عن تجربة مصر بعد سنوات أجدى.
بعد ذلك انتقلت ببيت العود العربي من دار الأوبرا المصرية إلى بيت الهراوي في الحسين، وذلك بسبب ضيق المكان في الأوبرا الذي لم يعد يستوعب الكمية الكبيرة من الطلبة الذين توافدوا من أماكن مختلفة من مصر وخارجها من الدول العربية والأجنبية. أثناء إقامتي في مصر أصدرت أسطوانتي الرابعة «مقامات زرياب» وصدر في مدريد عاصمة إسبانيا، وفيه وضعت عصارة تجربتي.
في مقطوعاتي الموسيقية كنت أحاول طوال الوقت أن أوفق بين حبي للفن التشكيلي وعشقي للسينما، وحاولت أن أكون شاعرا بالألحان، كنت أريد طوال الوقت أن أرى الموسيقى، أن أجسدها أمامي وأراها تتراقص من دون جسد، كنت أرى ألوانها وحياتها، أراها ككائن آخر يجالسني دائما ويمنحني الطاقة على العيش ومغالبة الصعاب.
لحظة الموسيقى هي أجمل اللحظات التي تطالنا، هي خلاصة وعينا الروحي والفكري معاً، فالخبرة الموسيقية تحتاج إلى وعي أقصى، تحتاج إلى كلنا مجتمعين، وأعني بكلنا هو نحن بما جبلنا فيه من وعي تراثي وحضاري وإنساني وتاريخي وحياتي، وفي المحصلة وعي تجربتنا بالكامل. فنحن نتلقى الموسيقى ونتذوقها تبعاً لملكاتنا الفكرية الأعمق، وإذا امتلأنا بالموسيقى نصبح قادرين على الطيران بعيداً في أرض هي الأجمل، أرض أحلامنا التي تنمو في دواخلنا وتسطع كشمس نلمح بريقها في عيوننا.
كنت أعايش من خلال الموسيقى والعزف لحظات مختلفة من الألم والحنين والحب والموت، أرى صورا متعددة، وأشتاق وأحن إلى أرض أجمل، أنحني وأمشي ممشوق القامة، أقف وأميل.
منذ أول مقطوعة ألفتها، كنتُ أرى الموسيقى، لهذا عندما قرأت ذات مرة قصيدة لشيمبورسكا تقول فيها: كي يرى الموسيقى/ صنع لنفسه كماناً من زجاج. لفتتني العبارة، ولا أعرف لماذا شعرت بأن هذه الكلمة تقصدني أنا تحديدا، فقد صنعت لنفسي عودا من روح، وصار عودي شفيفا، وصرت أرى من خلاله وكنت بلا زجاج أرى الموسيقى تخرج متقطرة من كل شيء، ومنذ تلك اللحظة أيضا عرفتُ أنني أريد أن يرى الناس معي الموسيقى ولا يكتفون بسماعها، أريدهم أن يعيشوا معي لحظة بلحظة، يعايشون لحظتي ولحظتهم في آن، يرتفعون عندما أرتفع وينخفضون عندما أنخفض، يتأملون، يدمعون، يبسمون، كنتُ أريد أن يأخذ مستمعي مني أقصى حالاته، أن يرى الصورة أمامه كما لو أنه أمام شاشة عرض كبيرة ونقية.
عملتُ على موسيقى الصورة، كنتُ أرى وأحاول أن أجسد ما أرى، بينما تجري أصابعي بسرعة وبخفة أحيانا، وببطء أحياناً أخرى. كنتُ أرى الصور كلها. رحلة طويلة وجميلة، هي رحلة حياة، جبت خلالها أرجاء كثيرة من هذا العالم حاملا عودي، ومؤمنا أن الفن يحمل رسالة حضارية إلى الأمم، ويجعل وجودنا أقل قسوة في عالم متناحر.
مع الموسيقى كان طريقي جميلا وصعبا، اكتسبت خبرات كثيرة، وتعلمت أن الحزن الذي يقهرنا به الزمن يجعلنا أقوى وأكثر قدرة على العطاء، وها أنني اليوم أنظر إلى الموسيقى التي أعطيتها الكثير فمنحتني الكثير، سلم موسيقي بسبع درجات منحني طاقة كبيرة وبأجنحة لا متناهية، ومنحته طيراني في كل مرة أمسك بها عودي.
المصدر: القدس العربي
712 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع