سنوات صدام مذكرات بقلم المترجم الخاص سامان عبدالمجيد ـ الحلقة التاسعة

 

      سنوات صدام ـ الحلقة التاسعة...

  

  

عندما تحدث ضيف صدام عن «الكوبرا»، صدام يعطي عنان محاضرة عن قانون حمورابي

كنت أنتظر كوفي عنان في القصر الجمهوري، كان هذا اللقاء أصعب لقاء في حياتي المهنية. صحيح أن الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة كان «زبونا» كأي مبعوث عادي كما تعلمنا ذلك في معهد «ايزيت» لكن الظرف كان حاسما، فأي فشل في مهمته كان سيؤدي إلى عواقب مأساوية، فقد كان الأميركيون يهددون العراق، وكانت الصحافة الدولية قد بدأت تتهاطل على بغداد، فقد كانت الأزمة الجديدة مع الولايات المتحدة تقطع أنفاس العالم منذ أسابيع عديدة.

  

في الثامن والعشرين من فبراير 1998 قام عنان بزيارة لصدام من أجل إقناعه بتغيير مواقفه، فقد صمم بعض مفتشي نزع السلاح في الأمم المتحدة، الواثقين بأن صدام كان يخفي أسلحة للدمار الشامل في قصوره، على أن يفتشوا هذه القصور، لكن صدام ظل يرفض ما كان يعتبره تدخلا عن غير حق.

كانت عمليات التفتيش الأولى في العراق قد بدأت في 1991. وكان خبراء الأمم المتحدة قد دمروا كميات هائلة من المكونات التي يمكن أن تدخل في صناعة الأسلحة المحظورة، لكنهم في النهاية لم يكتشفوا الكثير مما كانوا يبحثون عنه، وبالتحديد «الجوهرة النادرة» في الترسالة العراقية، التي كانوا يثيرون حولها ضجيجا كثيرا، لكن الأميركيين ما فتئوا يلحون على مواصلة «حرث» البلاد حرثا.

 

ولم تغير موقف الأميركيين هذا استقالة رئيس بعثة مفتشي نزع السلاح، السويدي رالف إيكيوس الذي اعترف قبل ذلك بعام واحد، أي العام 1997 بأن خمسة وتسعين بالمائة من مهمته التفتيشية في العراق قد انتهت نهائيا، فقد اعتدنا في النهاية على هذه اللعبة التافهة.

لكن هل كانت الخمسة بالمائة المتبقية من التفتيش تشكل حقا تهديدا للمنطقة، ومن باب أولى على الولايات المتحدة تحديدا؟ بالطبع لا! فاليوم نسمع مفتشين سابقين يقرون بتلك الحقيقة، لذلك كان على أميركا أن تجد ذريعة أخرى حتى تثقل الملف العراقي، فقد صار الأميركيون يقولون إن الحصار لن يرفع عن العراق إلا حين يغادر صدام السلطة، فقد كانت الإطاحة به في الواقع هي هدفهم السياسي الوحيد، وكانوا في حاجة إلى معلومات حديثة حول جهازه الوقائي.

  

وكان بيل كلينتون يزيد الطين بلة بما كان يشيعه من تصورات حول اتساع قصور صدام، فقد ادعى أن بعض الأجنحة قد حولت إلى ورشات لصناعة الجمرة الخبيثة، فقد كان كلينتون المتورط في علاقته الجنسية مع مونيكا لوينسكي، في حاجة إلى استعادة الرأي العام لصالحه، ولم يكن رئيس البيت الأبيض يجهل أنه بطلبه الدخول إلى القصور الرئاسية، سيلمس نقطة حساسة عند الرئيس. ألم يوضح صدام قبل ذلك ببضعة أشهر «الحصار سوف يرفع، أيا كان الثمن، وسواء أعجب ذلك الولايات المتحدة أو لم يعجبها!»؟! فقد كانت المواجهة تبدو محتومة لا محالة، وكان العراق على ما يبدو هو المحرض على الأزمة.

في أكتوبر 1997 كنا قد اشترطنا رحيل المفتشين الأميركيين، فقد كان بعضهم جواسيس لحساب وكالة الاستخبارات الأميركية أو في خدمة استخبارات البنتاغون. فقد اعترف رسميون أميركيون بتلك الحقيقة بعد ذلك ببضعة أشهر، لذلك فقد كان المخرج الوحيد من المأزق الذي طوقنا به المنطق الأميركي - أي الرفض الكامل لرفع الحصار - هو أن يتبنى العراق موقف التحدي والاستفزاز.

فقد راح العراق يصعد الضغط حتى يضع أقدامه على أرضية سياسية، لكن منظمة الأمم المتحدة، وبسبب سوء نية أعضاء مجلس الأمن، ما فتئت ترفض الالتزام بهذا المسلك، فلم ترغب منظمة الأمم المتحدة يوما، تحت ضغوط الأميركيين والبريطانيين على الخصوص، أن ترد على السؤال الأساسي، وهو: هل كان العراق يشكل في نهاية التسعينيات خطرا على أمن المنطقة واستقرارها؟ لأن المنظمة لو كانت ردت على السؤال لكانت الإجابة: لا... حتما!

ساعتها قلت لنفسي: «مسكينة منظمة الأمم المتحدة هذه التي يتملقها الأميركيون اليوم حتى يتخلصوا من مصاعبهم في العراق، بعد أن استغلوها أسوأ استغلال ثم أهملوها بكامل الغطرسة والكبرياء»، ففي تلك الأثناء كان غياب جرد كامل لترسانة العراق يفسح المجال لكل التجاوزات والمناورات. وقد أدركنا ذلك بالفعل العام 2002 عندما أثبت الأميركيون وأصدقاؤهم البريطانيون عدم قدرتهم على إسناد ملف اتهام صدام بصلاته مع شبكة القاعدة.

ومما لا شك فيه أن كوفي عنان لم يكن يجهل أي شيء من كل ذلك، عندما وصل إلى بغداد، فقد أخرجت له وكالات منظمة الأمم المتحدة العديدة في العراق كميات هائلة من المعلومات.

وقد كان يعرف أيضا التدهور البطيء والمنتظم للوضعية الإنسانية في البلاد ولبنياتها التحتية، على الرغم من القرار المسمى بـ «النفط مقابل الغذاء»، ولم يكن يجهل أيضا الكوابح والعوائق التي كانت الولايات المتحدة وبريطانيا تفرضانها على لجنة العقوبات في الأمم المتحدة في نيويورك في مسألة توزيع العقود على الشركات الأجنبية الراغبة في المتاجرة قانونا مع بغداد.

كلام عن الكوبرا

لقد كان صدام يصر دائما على أن تترجم أقواله من قبل عراقيين، رافضا رفضا قاطعا المترجمين المرافقين لضيوفه الأجانب. فقد كانت أسباب الأمن والفعالية هي المحرك لهذا المبدأ الصارم، ولم يكن مستبعدا بالفعل أن يدلي بعض محدثيه بأقوال معادية للعراق قد لا يجرؤ المترجم الأجنبي على ترجمتها ترجمة وافية، فقد كنا نحن العراقيين نعلم أن صدام كان يحب سماع كل شيء.

في العادة كنا مترجمين اثنين، وفي تلك المرة كنت وحدي، فقد تعرض زميلي إبراهيم جلال لحادث سير على طريق القصر. وكان مدير التشريفات قد سألني إن كان غيابه لا يعوق عملي، فأجبته بأنني سأتدبر أمري، وبشكل عام كنت أعد ترجماتي بالبحث في ماضي ضيف صدام والبلد الذي يمثله، فقد كان هذا البحث يوفر علي الوقوع في أخطاء خرقاء، لا سيما إذا كان هؤلاء الضيوف قادمين من الدول الصغيرة التي لا نعرف عنها الشيء الكثير.

    

أذكر مثلا أنني قبل زيارة الرئيس عبدالله رئيس جزر القمر الأولى لبغداد، كنت قد تصفحت إحدى الموسوعات واكتشفت أن (جزر القمر) تشتهر بفاكهة تسمى «كوبرا» باسم الحية الشهيرة، وفي اليوم التالي حين سأله صدام عما جاء به من اقتراحات في إطار المبادلات الثنائية، تحدث ضيفه عن «الكوبرا»، فحمدت الله أنني كنت أعرف أنه لم يكن يتحدث عن الحيات.

أما مع كوفي عنان فلم يكن الإعداد في حالته يجدي نفعا، فقد كنت أعرف الموضوع جيدا، ففي كل يوم تقريبا كنت أعد للرئيس تقارير حول مواقف منظمة الأمم المتحدة في الشأن العراقي، وقد اكتفيت بـ «مراجعة» القرارات المتخذة منذ العام 1990 تفاديا للوقوع في خطأ الترقيم.

كنت قبل بداية اللقاء أسأل كوفي عنان إن كان يرغب في التحدث بالإنجليزية أم بالفرنسية، ولما كان أعضاء وفده يجيدون لغة شكسبير بشكل أفضل، فقد أجابني بأنه سيتحدث بالإنجليزية. في بداية الحديث وتلطيف للجو راح صدام وكوفي عنان يتبادلان بعض المزاح. وفي هذا السياق هنأ الأمين العام للأمم المتحدة الرئيس على ربطة العنق ذات الألوان الزاهية. وقد كنت قلقا وفخورا وأنا أعيش هذه اللحظات المهمة.

             

كان كوفي عنان محاطا بالعديد من المستشارين، وكان صدام حسين محاطا بطارق عزيز، المحرك الرئيسي للصلات مع منظمة الأمم المتحدة، وعبد حمود سكرتيره الشخصي. في بدايات الحوار ركز كوفي عنان على العواقب الإنسانية المترتبة على استمرار الحصار المفروض على العراق، واستحضر تاريخ بلاد ما بين النهرين، وأزاح الجوانب السياسية للأزمة إلى المحل الثاني من الحديث. وقد تحدث عن «الدم العراقي الذي كان ينبغي ألا يسيل من جديد».

وقد تأثر صدام لأقوال محدثه أيما تأثر، وأدرك أن وراء الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة كان يخاطب رجلا حريصا على إنسانية الشعب العراقي ورفاهه. فقد كان ضيفه يتحدث بصوت ناعم لا غلو فيه ولا تهديد، وهكذا سرعان ما سرى تيار الانسجام ما بين الرجلين.

وقد بدأ صدام، الحريص دوما على أن يعي كل ضيف من ضيوفه أنه يقف على بلد ليس كأي بلد إفريقي أو في الشرق الأوسط، بدأ حديثه كعادته بمقدمة طويلة عن تاريخ العراق العريق. فهنا في العراق حرر الإنسان أول قانون مدني، قانون حمورابي، الذي أسس المساواة ما بين الرجال والنساء، ثم دخل في تفاصيل بيانه حول صلب الملف العراقي قائلا:

ـ ليس من المنطق أن يخفي بلد، أي بلد، أسلحة للدمار الشامل في قصوره، فالأميركيون يعرفون هذا، أنظروا كم هم يبالغون، ولو من حيث المساحة، ففي رأيهم أن القصور تغطي ثمانين كيلو مترا مربعا بينما المساحة الحقيقية لا تتعدى واحدا وثلاثين كيلومترا مربعا. إن هدفهم هو التجسس على العراق وانتزاع معلومات لا يسعهم الحصول عليها إلا عن طريق هذا الأسلوب، إنها مجرد مناورة تجسسية لا بد من أن نتصدى لها.

كان صدام يكثر من استعمال كلمة «كرامة»، فقد أطال الحديث عن السيادة الوطنية. وقال:

ـ إذا أصر الأجانب على الدخول إلى القصور الرئاسية التي هي في الواقع ملكا للشعب، فإنهم بذلك سيسيئون إلى كرامة العراقيين كافة، ونحن على اقتناع بأنه حتى وإن رضخنا واستسلمنا، فسوف يتذرع الأميركيون بمبررات أخرى حتى لا يرفع الحصار عنا، إذن ما الذي يجبرنا على القبول؟

وكان طارق عزيز لا يرى إلا ما يراه القائد، وقد رد عليه كوفي عنان قائلا:

ـ إننا نعلم أنكم لا يمكن أن تخفوا أسلحة محظورة في هذه القصور، لكن علينا أن نثبت أنكم لا تملكون أي سلاح محظور، إنها مسألة شكلية.

وقد كان كوفي عنان يقر، من دون الاعتراف بذلك صراحة، أن ثمة مناورة أميركية، وتابع حديثه يقول:

ـ كلانا يتحدث عن حسن نية، إن القرارات التي سنتخذها اليوم سوف يكون لها أثر حاسم على مستقبل شعبكم، لكن إذا كان البعض يبدون سوء النية فلا يجوز أن ندعهم يجرون العالم نحو كارثة، علينا أن نبذل جهدا وأن نشعل نارا مضادة.

وقد حرص على ألا يذكر الأميركيين بالاسم، لكن التلميح كان واضحا شفافا، وقد أضاف قائلا:

ـ ثم أنت محام، وتعرف أن الدخول إلى القصور قد صار من الناحية القانونية مدرجا ضمن قرارات الأمم المتحدة، فلا خيار أمامك سوى القبول حتى وإن كنت غير راض عن القرار.

وقد ردد كوفي عنان هذه الجملة مرات عديدة، حتى أغاظ ذلك صدام.

ـ سمان، قل له إنه حتى وإن كنت أحمل شهادة في القانون، فلم أكن يوما محاميا.

كان صدام ينظر إلى نفسه كرجل دولة، وليس كرجل قانون غامض. كانت تلك لحظة غضبه الوحيدة، لكن الحوار، على الرغم من لهجته الهادئة، فقد ظل متعثرا، وما فتئ الرئيس يردد بلا كلل:

ـ أنت على حق، ولكننا بلد ذو سيادة، فلو رضخنا اليوم فسوف يطلب منا الأميركيون غدا تنازلات جديدة، ولن يكتفوا بذلك، إذن لماذا التنازل مرة أخرى؟

وقد أضاف صدام إلى هذه الأقوال جملة ما فتئت تلازم أحاديثه على مدى سنوات حكمه الاثنتين والعشرين:

ـ نحن رجال مبادئ، ولا نقبل بأي أمر يفرض علينا بالقوة.

غياب المرونة

كان انعدام المرونة سمة رئيسية في طبعه، فحتى آخر لحظة، وإلى أيام قليلة قبل بداية الحرب، لم يقدم أي تنازل، ضاربا عرض الحائط بالهجرة التي اقترحت عليه لتجنب الصراع مع الولايات المتحدة.

بعد ساعة ونصف الساعة من الحوار، بحضور الوفدين، التفت كوفي عنان نحوي وهو يقول:

ـ اسأل صدام حسين إن كنا نستطيع مواصلة الحديث في جلسة مغلقة.

ما لبث صدام أن أعطى موافقته، وأمر بأن ينسحب الوفدان من المكان، وأصر كوفي عنان على أن يهنئني أمام صدام قائلا:

ـ أنت محظوظ بمثل هذا المترجم الجيد.

ومن باب التواضع ليس إلا اكتفيت بشكره، وقد حدق فيّ كوفي عنان قبل أن يضيف إن كلامه غير موجه لي بل للرئيس، ولم أجد بدا من ترجمة هذه الكلمات، وقد رد عليه صدام قائلا:

ـ قل له إننا نعرف ذلك.

وظل كوفي عنان وصدام وأنا واقفين بعض اللحظات. وهما يسيران تبادلا بعض أحاديث الظرف، فقد انشغل صدام كثيرا براحة إقامة ضيفه وبمدة إقامته الدقيقة. وبعد أن عرض عليه سيجارا تواصل الحوار. كنت أتوقع أن يقدم كوفي عنان اقتراحا للخروج من الطريق المسدود، لكنه استمر في التركيز على الجانب الإنساني للأزمة.

ـ لندع جانبا وظيفتي باعتباري الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة، ولنتحدث رجلا لرجل، لنفكر في مصلحة شعبك، ونتساءل كيف نستطيع أن نحبط ما تسمونه ب«المكائد الأميركية»، ونخدم قضية السلام التي نتمسك بها نحن الاثنان؟ إن هدف الأميركيين هو أن يجعلوكم ترفضون كل اتفاق على الدخول إلى القصور، إن رفضكم يمنحهم الذريعة لضربكم.

 

وقد علمنا فيما بعد أن مادلين أولبرايت، وزيرة خارجية بيل كلينتون، قد اتصلت به هاتفيا مرات عديدة أثناء إقامته في بغداد، فقد كانت توجه له أوامر بعدم توقيع أي شيء مع العراق، وكان ذلك دليلا جديدا على رغبة الأميركيين بتخريب مهمة آخر فرصة لتفادي الأزمة.

وحتى يبرر رفضه للاستسلام، راح صدام يركز على سلوك مفتشي الأمم المتحدة لنزع الأسلحة.

 

ـ هؤلاء لا هم لهم سوى إيجاد المزيد من المشكلات مع العراقيين، فهم يطلبون منا أشياء غير مقبولة، وهم يعلمون جيدا أننا سنرفضها، إنهم يريدون الأزمة.

أحد هؤلاء المفتشين وهو سكوت ريتر، رئيس البعثة «الردع» كثيرا ما كان موضع انتقاد بسبب سلوكات رعاة البقر التي كان يسلكها، فقد توجه مع فريقه من دون إعداد سابق إلى أحد معسكرات الحرس الجمهوري في عز الليل، وطلب منهم أن يفتحوا له باب مدخل المعسكر، وقد انتظر المفتشون نصف ساعة كاملة قبل أن يحصلوا على إذن بالدخول، وهو ما جعل ريتر يردد بأن العراقيين قد استغلوا هذا الانتظار حتى ينقلوا سرا الأسلحة المحظورة.

ومع ذلك فقد كان قد أبرم بروتوكول بين الأمم المتحدة وبغداد مفاده أن العراقيين ينبغي أن يخطروا مسبقا بزيارات مفتشي نزع الأسلحة.

  

وقد فوجئنا بعد مرور سنتين، العام 2000، أن ريتر قد غير مبادئه وعاد إلى العراق ليدافع عن قضيتنا، ويقول بصوت عال بأن عملية نزع السلاح كانت شبه كاملة، لكننا لم نأمن جانبه، فهل صار الجاسوس القديم الناطق باسمنا؟ لقد تصورناه يلعب هذه المسرحية حتى يتاح له المزيد من التجسس علينا.

وقد لمح صدام إلى هذا النوع من الانزلاق من دون أن يذكر سكوت ريتر بالاسم، فلم يكن يحب الدخول في تفاصيل الأسماء مع محدثيه، فقد كان دوما يضع نفسه على مستوى المبادئ.

ـ أتريدون، مع هذا النوع من السلوك، أن أدع المفتشين يدخلون إلى القصور؟ تصوروا قليلا ما الذي يمكن أن يفعلوه في داخل هذه القصور.

وقد رد عليه كوفي عنان قائلا:

ـ إنهم أشخاص قد يرتكبون أخطاء، وإطار مهمتهم إطار واضح ومحدد، لكن الأفراد أحيانا يتصرفون بكيفية غير محسوبة، وتأكدوا أن منظمة الأمم المتحدة لا تكفل هذا النوع من السلوك.

بكثير من الحذق راح الأمين العام للأمم المتحدة يبرئ منظمته، بإلقائه مسؤولية الإنحرافات على الأفراد، وقد أعطى الضمان بأن أي تفتيشات محتملة سوف تجرى بلا أية سلوكات استفزازية.

ـ علينا أن نأخذ بالاعتبار أن الأمر يتعلق بمواقع حساسة، وبأماكن تتميز بقيمة رمزية عالية، فلا يمكن أن نزورها كما نزور وزارة من الوزارات، وينبغي أن يتلقى مفتشونا تعليمات في هذا الاتجاه.

الحفرة تتعمق

على الرغم من استمرار الحديث ثلاث ساعات كاملة ما بين الرجلين، فلم يظهر أي بصيص من النور في نهاية النفق. في نفسي كنت أفكر بأن الحفرة ما فتئت تتعمق وتتعمق، فالجلسة السرية ما بين الرجلين لم تضع على السطح أية أفكار جديدة قادرة على فك عقدة الأزمة، فقد ظل صدام يرفض التنازل عن مواقفه، لذلك فقد دهشت أيما اندهاش وقد رأيته يعلن التنازل فجأة. فقال:

ـ بعد أن عرضتم علي القضية على هذا النحو، وبدا لي منكم أنكم قد فكرتم في كامل الاحتمالات، فإنني أثق في منظمة الأمم المتحدة الثقة التي تجعلنا نحترم الاتفاق المبرم بيننا احتراما صارما، لكن يجب أن تعلموا أنني أفعل ذلك على مضض، وإني لعلى يقين أن الأميركيين سوف يختلقون ذرائع جديدة، فلديهم الإرادة في ضربنا، وهذا الاتفاق لن ينهي خلافنا. ولكن وكما طلبتم مني، فلن أمنحهم المبرر الذي يبحثون عنه من أجل ضرب العراق.

وحتى نثبت مرة أخرى حسن نوايانا سنقبل باقتراحكم، وإنها لمجاملة منا تجاهكم طالما أنكم كلفتم نفسكم مشقة الرحلة حتى بغداد.

ورأيت طلعة كوفي عنان وقد علاه الابتهاج، فقد صار يشع بالفرحة. وقد راودني الإحساس بأنه قد يرتمي في حضن صدام ويقبله، فقد أوشك أن يفقد كل أمل في جعله يتراجع عن مواقفه.

في الواقع كان صدام قد أعد ضربته، ففي مجرد استقباله للأمين العام اشارة لنواياه. لقد كان تسلسل هذا الحديث المطول ينطبق على سيكولوجية الرئيس، فقد كان فكره معقدا وملتبسا، وكان، بالالتفاف حول الموضوع من دون الدخول في صميم الأشياء، يفضل أن يعطي الانطباع أو يوحي بأنه يقدم حلا وسطا بدلا من أن يوافق مباشرة على المقترحات المقدمة إليه.

  

خلال ذلك اللقاء اقترح صدام أن يرافق المفتشين دبلوماسيون محنكون لتفادي أي انزلاق. كانت الفكرة مطروحة، وكان العراقيون قد أكدوا النقاط التي يمكن أن يتفقوا عليها مع منظمة الأمم المتحدة، ومنها الفكرة التي اقترحها صدام.

في هذا الشأن تم إعداد مسودة اتفاق قبل اللقاء. وقد صدق الرجلان على مبدأ أن لا يقوم المفتشون بأي زيارات مفاجئة، وبأن كل تفتيش يجب أن يعلن عنه مسبقا وبشكل دقيق. وقد قبل صدام أيضا بتشكيل فرق الدبلوماسيين حتى تدخل الاتفاقات الموقع عليها حيز التطبيق بلا تأخير.  

في الجلسة المغلقة نفسها تصافح الرجلان بحرارة، فقد أعطى صدام فرصة للسلام أعلن من خلالها أنه لم يخف شيئا، وقد كان كوفي عنان الرابح الأكبر من الأزمة. ورد فعل الإدارة الأميركية المحرجة كاف للتدليل على ذلك.

ترى لماذا قبل صدام في النهاية أن يلين موقفه؟ فضلا عن احترامه للأصول، فقد وجد صدام نفسه أمام متحدث قد فهم الحقيقة بينما لم يكن قد التقى به من قبل قط، فقد تمكن كوفي عنان من أن يفرض مناخا وديا. لم يأت إلى بغداد لكي يعطي دروسا، ولم يسع إلى اللعب بالمشاعر، وقد خاطب في صدام حسين نواياه، وبذلك أثبت أنه دبلوماسي غير عادي.

ولا شك أن في هذا الحديث عبرة، فاختيار الجلسة المغلقة كان تركيزا على البعد الشخصي للقاء، بينما في الأساس لم يغير هذا اللقاء شيئا، فقد عرف كوفي عنان كيف يمدح ويطري ذاتية صدام، مقدما بذلك الدليل على أن هذا الأخير لم يضع، تعسفا، أي عائق في طريق أي حل معقول.

ومزيد من الحوار معه أمر ممكن جدا شريطة ألا يحكم عليه مسبقا. الشيء نفسه كان يمكن أن يحدث ثانية العام 2003، لكن هذه المرة كان الأميركيون ناقمين على كوفي عنان، وكانوا يسعون إلى الحرب بأي ثمن بعد أن لم يبق عندهم شيء يتفاوضون حوله.

على إثر هذا الحوار كنت منهكا. عند خروجنا أمسك صدام حسين يدي وقال لي:

ـ سمان! لقد أديت عملا جيدا. فلا شك أنك متعب.

لا قواعد مع صدام

أما طارق عزيز، الذي ما لبث أن التحق بنا، فقد مدحني هو الآخر ببضع كلمات ودية، ثم طلب الرئيس من مصوره الشخصي أن يأخذ لنا صورا معا. واعتقدت أنني سأقبض مكافأة مجزية، فقد كنت أنوي تغيير السيارة. ففي العادة كان عبد حمود، كلما كانت ثمة رغبة في مكافأتي، يسلمني رسالة لكي أسلمها بدوري إلى المحاسب، غير أنني لم أستلم شيئا مما توقعته، إلى أن جاء اليوم التالي، فمنحت ما يعادل ثمانين دولارا، وهو مبلغ زهيد مقابل مهمة غاية في الأهمية، وكانت الحجة أن لا قواعد مع صدام.

                              

بعد مضى بضعة أسابيع كلفت بمرافقة عبد حمود والمفتشين بصفة مترجم رسمي. وقد كانت الرئاسة تحمل القضية على محمل من الجد. لم يكن صدام يريد الاكتفاء بتقرير الوزراء الموجودين أثناء عمليات التفتيش، من أمثال عامر رشيد الذي وضع على رأس إدارة البترول. وقد قمنا بزيارة كل القصور، قصور العاصمة وقصور المحافظات على السواء، وكان طارق عزيز وأحمد حسين رئيس الديوان يلتحقان بنا من حين لآخر.

ولن أخفي أن مهمة التفتيش قد جرت في جو كامل من المزاح. فقد كان السفراء المكلفون بمراقبة المفتشين، الموزعين على مختلف المواقع، يتبادلون النكات. في المقابل كان مفتشو نزع السلاح يؤدون عملهم بعناية. فقد انشغلوا في الواقع بإعداد مخططات الإقامات الرئاسية أكثر مما انشغلوا بتفتيش تلك المقار. ومن تصرفاتهم اقتنعنا بأن هذه الزيارات لم تكن سوى ذريعة لتصعيد الخلاف ما بين الأميركيين والعراقيين.

وحين تعرضت هذه القصور الخالية بعد ثمانية شهور للقصف المكثف، أدركنا الهدف الحقيقي من تلك المناورة، ألا وهو التعرف بشكل أفضل على مخططات القصور حتى يتسنى ضرب أهم رموز السلطة من دون أي مجازفة.

للراغبين الأطلاع على الحلقة الثامنة:

http://www.algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/fereboaliraq/10434-2014-05-16-09-06-49.html

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

528 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع