"لمحات وعبر عن برلمانات العراق منذ العهد السومري حتى نهاية عهد الملك فيصل الأول"
كلما ندخل الى مقهى الأونديجي في الشارقة على ضفاف بحيرة خالد، كأننا ندخل الى منتدى ثقافي بأضائته الخافتة بألوانه الربيعية فتتهادى لك الموسيقى الهادئة، فتنسرب إلى اعماق الروح، محدثة اهتزازا في النفس، وفيها ترى مجموعة من المثقفين يتناقشون فيما بينهم عن مجريات الساحة الثقافية، وفي المقابل تنطلق الطروحات والأفكار التي تحيط ما يحدث في الساحة العربية، وبدورنا كعراقيين نجلس نتحاور في اوضاع بلدنا، محبة به وبتراثه..، و هناك من يتطلع الى غد افضل ليعود بلدنا منعم بثرواته واناسه وان يأخذ مكانته المنشودة كباقي الأمم التي اسعدت وطورت بلدانها وجعلتهم في سكة الأمن والأستقرار والعيش الكريم، هذا الجو الهادئ احيانا والمحتد احياناً اخرى لا يعطره الا العطر والتذوق المليء برائحة قهوة "الكباتشينو والقهوة التركية والشاي بأنواعه، والعصائر والمعجنات بأشكالهما الجميلة"، في المقهى ندرك انها المتنفس الجميل للمثقف والأديب لتميزها بالعفوية والحميمية، ألم يؤلف الفيلسوف الفرنسي الشهير سارتر روائع كتبه،
الم يؤلف العبقري نجيب محفوظ و احسان عبد القدوس مؤلفاتهم القصصية، ألم يؤلف شعراؤنا وادباؤنا أجمل اشعارهم وكتاباتهم، في هذا الصباح الجميل وعطر الربيع يفوح في اجوائه، اقترح احد الاصدقاء ان نكتب في موضوع تاريخ الحياة البرلمانية في العراق وتطورها او اي صيغه نراها مناسبة لاستعراض الموضوع من زاويته التاريخية وبها نبتدأ ونكمل ان دعت الضرورة وهذا نابع عن ما يريده القراء، وبها بدأنا مشوارنا للبحث الى موضوع الحياة البرلمانية، ابتداءً النظر اليها من جذور نشأتها، ولهدا ستكون مقالتنا منذ العهد القديم وحتى عام 1933 وهو النهاية المحزنة لموت الملك فيصل الأول، على ان نستكملها ان كانت هناك رغبة بذلك.
يرجع تاريخ إنشاء البرلمانات في العالم للعصور القديمة من خلال المجتمعات القبلية التي كان يتزعمها رؤساء القبيلة، وقال بعض المؤرخين إن بلاد ما بين النهرين، كانت بها أول حكومة ديمقراطية بدائية، اساسها هو تقييم الملوك بالمجلس،
فالبلاد قامت فيه أول برلمان في العالم عام 3000 ق.م.، ففي كتاب العلامة بالسومريات، صموئيل كريمر "التاريخ يبدأ في سومر"، والكتاب المعنون "من ألواح سومر" ترجمة العلامة المرحوم طه باقر" نجد تحت عنوان "أول برلمان ذي مجلسين" ما يلي: أصبح بوسعنا الآن أن نقرأ سجل مجلس سياسي انعقد قبل نحو خمسة آلاف عام، أجل أن أول "برلمان" سياسي معروف في تاريخ الإنسان المدوّن قد التأم في جلسة خطيرة في حدود 3000 ق.م، كان البرلمان مؤلفاً من مجلسين، من مجلس الشيوخ، ومن مجلس العموم المؤلف من المواطنين الذكور القادرين على حمل السلاح، وكان "برلمان حرب" دعي للانعقاد ليتخذ قراراً في أمر خطير يخص الحرب والسلم، لقد كان عليه أن يختار بين "السلم بأي ثمن كان، وبين الحرب مع الاستقلال" فأما مجلس الأعيان الذي كان مؤلفاً من الشيوخ المحافظين فانه أعلن قراره أنه بجانب السلم مهما كان الثمن. ولكن الملك اعترض على القرار، ثم عرض الأمر بعد ذلك على مجلس العموم فأعلن هذا المجلس الحرب من أجل الحرية، وصادق الملك على قراره، يقول كريمر ما يلي: لا تعتقدوا أننا في عصر الجمهورية الرومانية، كلا نحن في الشرق الأدنى قبل ألفيّ عام من ولادة الديمقراطية الإغريقية… هذه الممارسة الديمقراطية التي جرت عام 3000 قبل الميلاد تمثل عطاءً مهماً من عطاءات السومريين للحضارة، وحدث الشيء نفسه في الهند القديمة.
عرف الاسلام الشورى من اول يوم للرسالة، جاءت بامر من الله للحكم بين الناس اساسها القران ولا تكون الا لرجال صالحين معقلين من اهل الحل والعقل، وان الرسول الكريم المؤيد بالوحي كان يقول أشيروا علي ايها الناس في قضايا تتصل بالسلم والحرب وانه دعى الى اول انتخابات في بيعة العقبة الاولى والثانية وقال للأنصار انتخبوا من بينكم اثنا عشر نقيبا، وعلى سنته سار خلفاؤه الراشدون المهديون من بعده، ذلك فصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنهم العشرة المبشرين بالجنة شكلوا اهل الحل والعقد الاولى التي شهدت حكم الخلفاء الراشدون
اذا الشورى في الإسلام لأهل العقد والحل، وفي جميع الأحوال فإن أهل العقد والحل لا يشبه البرلمانات الحديثة ولكن يتماشى مع الرسالة والتشريع الأسلامي في حينه ولم يعترض احد على ما كان يقرره كبار الصحابة والمبشرين بالجنة، ومع اتساع البلاد وكثرة الناس، بات لزاما على إدخال هذا التنظيم الحديث وهو انتخاب "أهل العقد والحل" أو البرلمان بصيغته الحديثة بالنظر إلى أن كل منطقة تحتاج من يتحدث باسمها في دوائر الحكم، قد طبق الخلفاء الراشدون هذا المنهج بحذافيره.
فالنموذج الراشدي ظل هو المعيار طوال عصور الخلافة الإسلامية، في العصر الاموي تحول أسلوب الحكم، من خلافة تقوم على الشورى، كمبدأ أساسي، إلى حكم ملكي، يقوم على التوريث، واول من اتبعها هو معاوية مقلدا بذلك النظم الفارسية والبيزنطية، واصبحت الخلافة اقرب الى السياسة منها الى الدين، مثلما لهم سلبيات كثيرة، لهم إيجابيات، فاللامركزية في الحكم والإدارة هي الأغلب، ومشاركة الرجال من أهل الرأي والخبرة في حمل المسؤولية والقيام بأعباء الدولة في السلم والحرب وفي المركز والولايات، ووجود الإسلام في حياة الفرد والمجتمع والدولة سلوكاً ونظام حكم منذ عصر الرسول الكريم والخلفاء الراشدين قلل نوعا ما من مظهر القيادة الفردية ومساوئها، وعزز مظهر الشورى، وغلبة الاتجاه العام الثابت في السياسة، والقيادة، والإدارة، وتصريف الأمور، الفتوحات الإسلامية العظمى التي حدثت في عهدها شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، وصهر الشعوب في البوتقة العربية الإسلامية، اتبع العباسيون نفس الاسلوب في التوريث، بل والتوريث لاكثر من واحد، وهكذا انقسم رجال الدولة بين ولاة العهد كل يناصر صاحبه، واخذت العناصر الاجنبية تلعب دورا في تشكيل الحكم وهذا التدخل مع ازدياد نفوذ الموالي في شؤون الدولة العباسية قد جعل من العرب عنصرا جانبيا ضعيفا فقد قدرته على ادارة الحكم والسلطة، مع ذلك جرى تأكيد قوة الخلافة العباسية، والقضاء على كل المحاولات التى كان هدفها النيل من تلك الخلافة وسلطانها، و اقامة
حكم إسلامى تحققت فيه المساواة بين جميع الشعوب الإسلامية، فهم الذين أتاحوا لها الازدهار والانتشار وفيها بغداد كانت تشع بقيمها وتنوع معالمها العلمية والفكرية والانسانية، كذلك الجزء الكبير للعصر العثماني، ولم يستطع أحد أن يتجاوزه كأنموذج للحكم الإسلامي، ولهذا تكرر في كثير من العصور، كما في عهد عمر بن عبد العزيز، وعهد المعتضد العباسي ، وعهد المستضيء العباسي وابنه الناصر،
وكان صلاح الدين الأيوبي هو السلطان في عصرهما، وكما في عهد نور الدين زنكي، وكما في عهد يوسف بن تاشفين المرابطي، ومحمد الفاتح العثماني، وغيرهم من الخلفاء والأمراء، ممن حاولوا الاقتداء بالخلفاء الراشدين وسننهم في سياسة الأمة، واشتهروا بالعدل والشورى، بينما لم تعرف أوربا في تاريخها منذ سقوط أثينا، وقيام الإمبراطورية الرومانية إلا الطغيان السياسي مدة ألفي عام تقريبا، كما إن الانحراف السياسي في عصور الخلافة الإسلامية العامة، لم يتجاوز كل الأصول القطعية للخطاب الراشدي، وإن تراجع عن بعضها كالشورى ورقابة الأمة على الأموال، إذ ظل عامة الخلفاء والأمراء يلتزمون بالمرجعية القضائية والتشريعية للنظام السياسي الإسلامي، وهو أحد أسباب شيوع العدل في عامة العصور، حيث حد القضاء من طغيان السلطة، التي كانت تحرص على شرعيتها من خلال احترام القضاء، كما لم يفرط الخلفاء في سيادة الأمة واستقلالها وحماية اراضيها ووحدتها حتى في ضعف قوتهم.
في اوربا أنشئ أول برلمان منتخب من السكان رسميا في المملكة، «ليون» في إسبانيا في 1188، أي قبل 828 عام من الآن، في حين مصطلح “البرلمان” أطلق للمرة الأولى في المملكة المتحدة في 1236، أي النقاش والحوار
وتعود جذور البرلمان البريطاني إلى فترة ما بين القرنين الثامن والحادي عشر الميلاديين، بدأ استخدام كلمة "برلمان" رسميا لتسمية المجلس الكبير "الذي يضم المستشارين والنبلاء وبارونات ورجال الدين" جاء لأول مرة في عام 1236 لوصف الاجتماع الاستشاري للملك، وهو لفظ مشتق من الكلمة الفرنسية المجلس
وشكل عام 1258 نقلة في مفهوم البرلمان بعدما اصطدم حينها الملك هنري الثالث مع النبلاء، وأقر البرلمان المنعقد في حينها في أكسفورد اتفاقية تتضمن مقترحات بانعقاد البرلمان لاجتماعات منتظمة ثلاث مرات في العام وإدخال 12 ممثلا للمقاطعات من غير النبلاء
وطور الملك إدوارد الأول الذي تولى الحكم في عام 1272 البرلمان إلى مؤسسة وأصبح انعقاده بشكل منتظم في العشرين عاما الأولى من عهده بمعدل مرتين في السنة
وفي عام 1295 دعا الملك إدوارد البرلمان إلى الانعقاد بحضور ممثلَيْن عن كل مقاطعة وبلدة لأول مرة، ولذلك وصف حينها البرلمان بأنه مثالي
ومنذ 1329 وحتى عام 1341 كان ممثلوا الشعب والنبلاء والملك يجلسون سوية في قاعة واحدة بما يسمى مجلس العموم، لكن ممثلي الشعب في مجلس العموم انفصلوا بعد ذلك عن النبلاء الذين أصبح لهم مجلس آخر بالبرلمان يسمى مجلس اللوردات
وهكذا فالبرلمان أو مجلس النواب أو مجلس الشعب عبارة عن هيئة تشريعية تمثل السلطة التشريعية في الدول الدستورية، حيث يكون مختصا بحسب الأصل بجميع ممارسات السلطة التشريعية وفقا لمبدأ الفصل بين السلطات
ويتكون من مجموعة من الأفراد يطلق عليهم اسم النواب أو الممثلين ويكون التحاقهم بالبرلمان عن طريق الانتخاب والاقتراع العام باستخدام الأساليب الديمقراطية ويتم اختيارهم
بواسطة المواطنين في الشعب المسجلين على اللوائح الانتخابية في عملية انتخاب أو اقتراع عام سري ومباشر.
ويكون للبرلمان السلطة الكاملة فيما يتعلق باصدار التشريعات والقوانين او الغائها والتصديق على الأتفاقيات الدولية الخارجية التي يبرمها ممثلوا السلطة التنفيذية والرقابة على أعمال الحكومة وتمثيل الشعب أمام الحكومة
خضع العراق للسيطرة العثمانية في النصف الأول من القرن السادس عشر الميلادي، وذلك من خلال احتلال بغداد عام 1534، وكانت الدولة العثمانية تدير شؤون البلاد الخاضعة لها عن طريق تقسيمها إلى ولايات وكان العراق إحدى هذه البلدان حيث كانت مقسمة إلى ولايات الموصل وبغداد والبصرة !؟، وكانت هذه الولايات مرتبطة بالعاصمة اسطنبول وخاضعة للإدارة المركزية.
البرلمان التركي:
المجلس العمومي العثماني: يعتبر اول محاولة للديمقراطية الممثلة على مستوى الامبراطورية، وكان يتكون من غرفتين، الغرفة العليا " مجلس الاعيان " والغرفة السفلى " مجلس المبعوثان، "إفتح المجلس العمومي بغرفتيه في 19 مارس 1877 باحتفال أُقيم في قصر دولمة بقجة في اسطنبول،
أعلن السلطان عبد الحميد الثاني (1876-1909) مع بداية تسلمه مهام السلطنة في الدولة العثمانية عن أول دستور للدولة، وقد أكد الدستور في بعض مواده على تأسيس مجلس يتشكل من عدد من النواب عن طريق الانتخابات يمثلون الولايات العثمانية كافة حسب الحجم السكاني لكل ولاية، وقد تم الإيعاز إلى الولايات كافة بوجوب انتخاب ممثلين عنها ليكونوا أعضاءً في المجلس الذي عرف بـ مجلس المبعوثان
عقد مجلس المبعوثان العثماني أول اجتماع له في آذار سنة 1877، وبدأ المجلس أعماله في الأيام اللاحقة ، وكانت من أعماله إصدار قانون الانتخابات لمجلس المبعوثان في 13 كانون الأول 1877، اجريت أول انتخابات برلمانية في تاريخ الدولة العثمانية، كانت واحدة من المحاولات الإصلاحية التي تمت في عهد السلطان العثماني عبد الحميد الأول، ولما كان العراق جزءا من الدولة العثمانية فقد سرى العهد الدستوري اليه مثل باقي ارجاء هذه الدولة ، انتخابات المجلس أسفرت عن تمثيل المسلمين بـ71 مقعدًا، والمسيحيين بـ44 مقعدًا، و4 مقاعد لليهود، في حين بلغ عدد النواب العرب 16 نائباً، منهم خمسة من ولاية سوريا، ونائبان عن الحجاز واربعة نواب من حلب، وثلاثة نواب من ولاية بغداد، واثنان من طرابلس الغرب، بينما بلغ عدد النواب للدولة العثمانية 115، وانتخبت عن ولاية بغداد ثلاثة نواب، وعن البصرة نائبان وعن الموصل نائب واحد، ومثل العراق في حينه مناحيم دانيال افندي واخرين لم تتوفر لدينا اسمائهم، ما أن توفرت الفرصة المناسبة للسلطان عبدالحميد الثاني حتى بادر إلى حله في نهاية سنة 1877 وعلق الدستور الذي قبله على مضض مع بداية توليه السلطنة ، بحجة اندلاع الحرب الروسية العثمانية في السنة نفسها مدعياً بان الحرب تحتاج إلى قرارات سريعة وجريئة ، والمجلس والدستور يشكلان تهديداً كبيراً للدولة في مثل تلك الحالات الاستثنائية
في العام 1908 قاد الإصلاحيون بزعامة جمعية الاتحاد والترقي انقلابا أجبر السلطان على إطلاق المعتقلين السياسيين ورفع القيود عن المنفيين وإعادة الحياة النيابية. وقد جرت الانتخابات وقتها على أساس أن يكون هناك نائب لكل خمسين ألف شخص،
وكانت تركيبة النواب من الطبقة المقتدرة، فقانون الترشيح اشترط مؤهلات مالية للمرشح، جعلت من يخوضون الانتخابات من علية القوم، مثل العراق بولاياته بغداد والموصل والبصرة كل من:
ساسون حسقيل وطالب النقيب وجميل صدقي الزهاوي ومعروف الرصافي وابراهيم فوزي وحكمت بابان وعبد الله صافي وصالح السعدي ومحمد علي فاضل وداود يوسفاني وناظم نفطجي ومحمد علي قيردار والحاج ملا سعيد وفؤاد الدفتري ومراد سليمان، ومن الحجاز فيصل بن الحسين "فيصل الاول" حيث اشترك في مجلس المبعوثان حنى عام 1914 والذي اصبح ملك العراق عام 1921، والأميرين محمد وشكيب أرسلان في لبنان، وشفيق وبديع المؤيد في دمشق وخليل غانم وسليمان البستاني ورفيق العظم وغيرهم.
ان مشاركة النواب العراقيين في مجلس المبعوثان منذ عام 1908 حتى عام 1914 كان يهدف الى محاولات اصلاح الوضع في ولايات بغداد والموصل والبصرة والتي كانت مزرية ومتدهورة اجتماعياً واقتصادياً وتعليمياً وصحياً ناهيك عن التخلف في المدينة والريف وبالتالي محاولة التخلص من التبعية العثمانية لاحقاً، كان اكثر النواب منتميا الى جمعية الاتحاد والترقي ما عدا السيد طالب النقيب وعبد الله الزهير المنتمين الى جمعية الحرية والعدالة.
لقـد أخذت أنبـاء الحرب العالمية الأولـى تطغى على أخبار مجلس المبعوثان ، فأصدر السلطان محمد الخامس إرادة سلطانية في آب 1914 تقضي بتعطيل المجلس نظراً لظروف الحرب.
ان ما انجز في سياق التنظيمات العثمانية في غضون القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين بما فيها الدستور الذي جرب في عام 1876 وفي عام 1908 لا بد من اعتباره في مسار التأريخ العربي والاسلامي انجازا مهما بل هو انجاز تأسيسي لفكر دستوري حديث، ولأنشاء دولة مؤوسسات وبرلمانات، فان التعبير الفكري عن فلسفة التنظيمات وروح الدستور ومعانيه في بناء الدولة الحديثة المرجوة، وعلى ارساء مفاهيم جديدة في الثقافة السياسية العربية: مفاهيم الدولة- الأمة، المواطن، التمثيل، الاقتراع، الانتخاب، فضلا عن الحريات المدنية وفصل السلطات والرقابة، ساعدها كذلك بروز مدارس اجتهادية حاولت تأصيل مفاهيم الحداثة السياسية بجرأة من امثال مقالات علي عبد الرازق الأسلام واصول الحكم وقراءات السنهوري لمسألة الخلافة.
وعلى الرغم من ما كان يعيشه العراق من تبعية للدولة العثمانية وبدأ الحرب العالمية الأولى فأن استمرارية ما في الثقافة الدستورية والعمل السياسي الدستوري ظلت لدى النخبه المتعلمة والمثقفة والدارسة في اسطنبول والدول الاوربية التي ورثتها من حالات تطبيق الدستور العثماني وجعلتها عناصر تفكير وانماط في العمل السياسي وبرز ذلك جليا في انجازات ما يمكن تسميته دستور العشرينات التي انبثقت من معطيين تأريخيين لا يجوز تغييبهما وهما الذاكرة التأريخية العربية ولا في البحث العربي التأريخي، المعطى التحديثي التركي الذي ساهمت فيه النخب العربية أو عاصرته و تفاعلت معه، بل شاركت بعضها في النضال الدستوري العثماني امثال خليل غانم، وسليمان البستاني، وساطع الحصري، ورفيق العظم، ورشيد رضا، وغيرهم، والمعطى التحديثي الغربي( الاستعماري).
احتلت بريطانيا البصرة عند اندلاع الحرب العالمية الأولى في تشرين الثاني سنة 1914، ومدينة العمارة في حزيران 1915، ومدينة الناصرية في تموز 1915، وهزم الجيش البريطاني بالقرب من بغداد سنة 1916، وأعادوا الهجوم على بغداد في أوائل سنة 1917 ودخلوها في 11 آذار 1917، وسقطت الموصل بالشمال العراقي بأيدي الإنجليز في تشرين الثاني 1918 ليدخل بذلك كامل العراق الانتداب البريطاني.
حكم الانكليز البلاد حكماً مباشراً ، وكان العراقيين يتطلعون للتخلص من التبعية العثمانية واذا بهم يعيشوا تحت مقدرات سياسة وجبروت الاحتلال فزاد الظلم ظلما وحرموا من العيش الكريم بل زادت القسوة والبطش عليهم و هتكت مقدساتهم، كانت رغبة بريطانيا بعد إعلان احتلال العراق في نهاية الحرب العالمية الأولى وانهيار الدولة العثمانية أن يبقى العراق تحت الهيمنة والسيادة البريطانية وأن يقاد من قبل حاكم بريطاني، كما كان عليه الحال في الهند، وقد ادت هذه السياسة إلى صدام مباشر بين الشعب وحكامه الجدد فقامت ثورة شعبية عارمة في 20 حزيران1920 " ثورة العشرين " شملت جميع انحاء العراق تطالب "بالاستقلال التام وجلاء القوات البريطانية"، لقد كان لثورة العشرين أهمية كبرى في بداية تحقيق تماسك المجتمع السياسي للعراق، وحل لنزاع تاريخي كان كامناً في أساس الكثير من الانقسامات المثيرة للاضطرابات في المجتمع العراقي، الا وهو النزاع المزدوج بين العشائر والمدن النهرية من جهة، وفي ما بين العشائر نفسها من جهة ثانية، حول الأراضي السهلية المنتجة للغذاء على ضفتي دجلة والفرات، وعلى الرغم من التضحيات التي قدمها الثوار إلا أنها لم تحقق أهدافها "في الحرية والاستقلال" لان قوة الثوار لم تكن متكافئة مع القوات البريطانية من حيث العدة والعدد فاستطاعت بريطانيا ان تخمدها بقوة السلاح، وبالرغم مما حصل فقد فرضت الثورة على بريطانيا ان تغير سياستها تجاه العراق والعراقيين، وإن عليهم احترام إرادة الشعب وإقامة الدولة العراقية، اقتنعت بريطانيا في الوقت نفسه ان العراق لا يمكن حكمه حكماً مباشراً، فبدأت تفكر بحكم العراق حكماً غير مباشراً من خلال تكوين حكومة وطنية عربية تسيطر بريطانيا عليها، وبهذا تكون قد حققت الهيمنة البريطانية على العراق ومقدراته، والتخلص من العبء المالي الذي يتوجب عليها القيام به بسبب الاحتلال.
بدأت بريطانيا في تنفيذ خطواتها نحو تشكيل (الحكومة الوطنية) فارسلت السير برسي كوكس كمندوب سام، فبادر إلى تشكيل اول مجلس للوزراء واسند رئاسته إلى عبد الرحمن النقيب ثم اختير أعضاؤها وكانوا ثمانية واثنا عشرة وزيراً بلا وزارة، والوزراء هم: طالب النقيب وزيراً للداخلية، وساسون حسقيل وزيراً للمالية وجعفر العسكري وزيراً للدفاع، ومصطفى الألوسي وزيراً للعدلية وعزت الكوكوكلي وزيراً للاشغال والسيد محمد الطبطبائي وزيراً للمعارف والصحة وعبد اللطيف المنديل وزيراً للتجارة ومحمد علي فاضل وزيراً للأوقاف، وعين إلى جانب كل وزير مستشاراً بريطانياً يشير عليه ماذا يفعل، وفي الحقيقة كان المستشار هو الحاكم الفعلي في كل وزارة ولم يكن للوزير حق التدخل إلا في نطاق محدود، وقد اخذ بعض الوزراء يتذمرون من ذلك بينما سكت الآخرون واطاعوا، وادرك الاهالي حقيقة النظام الجديد وأوضاع الوزراء فصاروا يفضلون ان يراجعوا في معاملاتهم المستشار بدلاً من الوزير.
وبعد تشكيل الحكومة المؤقتة وجد المندوب السام ان ينتقل إلى الخطوة الثانية، وهي ايجاد حاكم عربي مقبول من قبل العراقيين لتهدئة الغضب التي تأجج بفعل ثورة العشرين وحتى يستتب الأمن ويسود النظام في العراق ويعقد مع الحكومة البريطانية في الوقت نفسه معاهدة تحل محل مسودة صك الانتداب الذي رفضه العراقيون جملة وتفصيلاً، و يحظى بثقة الحكومة البريطانية ويقبل بشروطها، وقد رشح عدد من الشخصيات السياسية انفسهم لاعتلاء عرش العراق وهم :
الامير فيصل بن الحسين، طالب النقيب، الشيخ خزعل امير المحمرة، هادي العمري من الموصل، الامير برهان الدين احد ابناء سلاطين آل عثمان، السيد عبد الرحمن النقيب رئيس الوزارة العراقية.
اما الحركة الوطنية في العراق فقد طالبت باحد انجال الشريف حسين الذي قاد الثورة العربية الكبرى عام 1916 ليكون ملكاً على العراق مقيداً بدستور وبمجلس نيابي منتخب، الا ان الأنكليز كان لهم رأي لم ينضج بعد، عقد مؤتمر القاهرة في 11 آذار 1921 الذي كان بمثابة الرأي النهائي لمن يحكم العراق،
وحضره ونستون تشرشل وزير المستعمرات ولورنس وحضره من العراق السير بيرسي كوكس والجنرال هايدن والمس كيرترود بيل وجعفر العسكري وساسون حسقيل وثلاثة من المستشارين البريطانيين هم: سليتر وايدي واتكنسن وفيه تقرر أن يكون الأمير فيصل بن الحسين، الذي كان قد أطيح به في سوريا وأبعد عنها، أن يكون ملكاً على العراق بدلاً من سوريا، وفي عام 1921 انتخب فيصل الأول في استفتاء عام ملكاً على العراق، وفي يوم 17/6/1920 استجابت بريطانية لدعوة تشكيل مجلس عام منتخب ليضع قانوناً اساسياً للعراق
وجه كتاب من الحاكم العسكري والسياسي ببغداد الى النواب السابقين الذين كانوا يمثلون الولايات في مجلس المبعوثان العثماني في دورته لعام 1914 لأعداد الترتيبات اللازمة لانتخابات المجلس التأسيسي كخطوة أولية لتشكيل مجلس نيابي عراقي، ولاسيما بعد أن تم الاتفاق على أن يكون نظام الحكم في العراق نظاماً ملكياً نيابياً، وعقدت لجنة الانتخابات العراقية جلستها الاولى في 6 آب 1920 انتخب المبعوثون فيما بينهم أشخاصا كي يقوموا مقام الغائبين والمتوفين، وكان عددهم ثمانية عشرة شخصاً
الا ان انتخاب المجلس التأسيسي الذي قررته لجنة الانتخابات أجل من قبل الحكومة البريطانية لحين تنصيب الامير فيصل ملكا على العراق.
جرى تتويج فيصل الاول ملكا في2/8/1921، صدرت الادارة الملكية في يوم 24/10/1922 باجراء الانتخابات للمجلس التأسيسي ليقرر القانون الاساسي للمملكة العراقية وقانون انتخاب مجلس النواب والمعاهدة العراقية البريطانية الا ان الشعب قاطع هذه الانتخابات كما ان العلماء ورجال الدين اصدروا الفتاوي الداعية لذلك، وطالبوا بالمقاطعة ما لم تنفذ الحكومة الشروط الاتية: الغاء الادارة العرفية، اطلاق حرية المطبوعات والاجتماعات، اعادة المنفيين السياسيين الى وطنهم، السماح بتاليف الجمعيات، واتجاه هذا الموقف اضطرت الحكومة الى تأجيل الانتخابات ريثما تتخذ ما تراه بحق المعارضين وبذلك لم تتم الانتخابات وبقيت معطلة حتى سنة 1924، بسبب الظروف التي مرت بها البلاد، إذ شهدت الساحة العراقية انتفاضات في مناطق مختلفة، فضلاً عن إن منطقة السليمانية كانت خارج دائرة السلطة المركزية، وفي نفس العام في عهد وزارة عبد المحسن السعدون تمت الانتخابات، وافتتح المجلس التأسيسي في 27/3/1924 وألقى الملك فيصل خطبة الافتتاح.
هذا وقد عقد المجلس التأسيسي (49) جلسة صادق خلالها على المعاهدة العراقية البريطانية في 10 حزيران 1924، دستور القانون الاساسي العراقي في 10 تموز 1924الذي تضمن بنوداً مستمدة من دساتير ممالك اوربا الحديثة شارك في اعداده رجال قانونين عراقيين واجانب، اصدر الملك فيصل أمراً ملكياً بحل المجلس التأسيسي في 3 آب 1924 .
دعا الملك إلى العمل من اجل وضع الترتيبات اللازمة لانتخابات مجلس النواب لتمثيل الشعب العراقي بالاستناد إلى ما جاء في بنود أول دستور دائم للعراق وهو الذي يعرف تاريخياً بدستور سنة 1925، بات القانون الاساس ساري المفعول في اليوم الذي اعقب توقيع الملك عليه وقد اوجد هذا القانون ملكية دستورية مع شكل برلماني للحكومة الوطنية وكانت الهيأة التشريعية الوطنية ذات مجلسين تشريعيين الاعيان يعينهم الملك في حين قرر القانون انتخاب اعضاء مجلس النواب لاربعة اعوام واعطى حق التصويت للرجال فقط، إذ رسم الدستور نظام الحكم في البلاد فقد أكدت المادة الأولى منه على إن"العراق دولة ذات سيادة وهي حرة مستقلة وملكها لا يجزأ ولا يتنازل عن شيء منه وحكومتها ملكية وراثية وشكلها نيابي"، أما مجلس الأعيان لا يتجاوز عددهم عن عشرين شخصاً يعينهم الملك ومدة العضوية فيه ثماني سنوات في حين أن مجلس النواب يتألف بالانتخاب بنسبة نائب عن كل عشرين ألف نسمة من الذكور فقط ، ودورة المجلس أربعة سنوات، ويجتمع المجلس ستة أشهر من كل سنة اعتباراً من 1 كانون الأول، وللملك الحق في دعوة المجلس لاجتماعات غير اعتيادية في حالة وجود ضرورة لذلك، ويعد النائب ممثلاً لكل العراق في حال فوزه بالانتخابات وليس عن منطقته الانتخابية فقط، وقد وضح قانون الانتخابات الشروط الواجب توفرها في المرشح والناخب ، كما بيَّن القانون نفسه الدوائر الانتخابية وعدد المقاعد لكل لواء وتمثيل الأقليات الدينية، فضلاً عن الأمور المتعلقة بالدعاية الانتخابية وطريقة الانتخابات.
أسفرت الانتخابات عن انتخاب (88) نائباً يمثلون (14) لواءً.
وجد الملك فيصل الوضع الداخلي في البلاد فيها ثلاث قوى تسيطر عليه وتتصارع فيما بينها وهي:
-الانكليز متمثلة بالسير برسي كوكس وأعوانه من الحكام العسكريين الموزعين على مدن العراق يحكمونه بشكل كيفي.
-رجال الدين يقودها الشيخ محمد الخالصي وأعوانه.
-القوى الوطنية المتمثلة في أعضاء جمعية حرس الاستقلال، وجمعية العهد العراقية، يلتف حولها عدد كبير من الضباط العراقيين الذين اشتركوا بالثورة العربية الكبرى في الحجاز وعادوا إلى العراق. ومجموعة أخرى من الضباط العراقيين الذين انسلخوا عن الجيش العثماني
اما الوضع الخارجي فكان:
-تركيا تطالب بولاية الموصل.
-ايران تطالب بجزء من شط العرب.
-السعودية واغارتها على العراق بين حين وآخر.
وفي ظل هذه الأوضاع المتشابكة والمعقدة بدأ الملك فيصل يعمل على إنشاء دولة مدنية حديثة تتناسب وتتماشى مع متطلبات العصر وان تسير باتجاه الدول الاوربية، ويعتبر واحداً من الزعماء البارزين في عصره لما كان يتمتع به من إمكانات سياسية عالية وفطنة وذكاء ودهاء دبلوماسي أهلته لتكوين الدولة، ورغم الظروف الصعبة التي أحاطت بالمملكة وتعنت المستعمر البريطاني ونكوثه بالوعود باستمرار بطرقه الملتوية، فقد حقق الملك فيصل الأول الكثير من المنجزات التي كانت مفخرة لحكمه، فتمكن من إرساء النظام البرلماني ووضع دستور للبلاد، على تأسيس جيش محترف للحفاظ على أمن العراق الداخلي والحفاظ على حدود العراق وتأمين المصالح البريطانية وأرسائها على اساس مضمون، وإصدار قانون التجنيد الإلزامي وحل مشاكل الحدود المستديمة بين العراق وتركيا وأهمها أعادة ولاية الموصل إلى العراق والتي كانت تطالب بها تركيا.
في ظل تراجع الحركة القومية العربية عن تحقيق أهدافها وبخاصة هدف الوحدة العربية، حين رضيت بالكيانات القطرية المشرقية (العراق، سوريا، لبنان، الأردن، فلسطين)، التي تأسست على قاعدة اتفاقات سايكس بيكو الانكلو - فرنسية، لم تحقق كل الأهداف الفعلية للمسألة الوطنية العراقية حتى بطابعها القطري، فما كان على الملك فيصل الا ان يرضي الانكليز من جهة، وان يرضي زعماء الحركة الوطنية من جهة اخرى ويحافظ على هالته الوطنية في الوقت نفسه، ولهذا استعان، ببعض القوى الداخلية في هذا الأرضاء
ممثلة برجال المعارضة الوطنية من البرلمانيين والوزراء والضباط، ياسين الهاشمي وجعفر العسكري ونوري السعيد وجعفر ابو التمن والضباط الذين كانوا مع والده الشريف حسين الذين اشتركوا معه في الثورة العربية، صحف المعارضة، مثل جريدة (الرافدان) لصاحبها سامي خوندة ويديرها المسؤول قاسم العلوي وغيرها، رؤساء العشائر.
تم تأسيس نواة لجيش عراقي وطني سنة 1921، بمسمى «فوج الإمام موسى الكاظم» في بغداد، هذا الجيش دخل في تجاذبات الملك فيصل الأول والطبقة السياسية المحيطة به، مع سلطات الاستعمار البريطاني، وهو ما جعله يتأرجح ضعفاً وقوة، بحسب الرغبات السياسية وتناقضاتها،
كانت هناك عوامل عدة لعبت دوراً أساسياً في بناء الجيش العراقي آنذاك، كانت هذه رغبة الملك فيصل الأول و القوميون العرب "العراقيون والسوريون" المحيطون بالملك فيصل الأول، يضغطون باتجاه تقوية الجيش العراقي، ليكون الدافع القوي للتخلص من الانتداب البريطاني وتحقيق الاستقلال والسيادة الوطنية العراقية، وفي عام 1924 تم توقيع الاتفاقية العسكرية والتي نصت على انه بعد 4 سنوات سيتحمل الجيش العراقي مسؤولية الحفاظ على الأمن الداخلي والدفاع عن أمن العراق من الاعتداءات الخارجية مع احتفاظ بريطانيا بحق التفتيش على الجيش ووجوب استشارة المندوب السامي في توزيع وتحركات الجيش.
كانت احدى الأزمات الكبيرة بين الملك فيصل الأول وبريطانيا هي رفضه توقيع المعاهدة العراقية البريطانية التي اقترحتها بريطانيا، لأنها تضمنت بنود نظام الانتداب الذي يرفضه الشعب العراقي وقواه الوطنية وينظر اليه على انه الاستعمار او الحماية، كما عبرت عن هذا المعنى بعض الصحف العراقية كصحيفة الاستقلال والرافدان وغيرها من الصحف الوطنية ، ولان الملك فيصل أراد هو والقوى الوطنية والبرلمان ان تكون المعاهدة بديلاً من الانتداب لتنظيم علاقات العراق ببريطانيا على أساس الاستقلال التام للعراق، في حين أرادت بريطانيا ان يستمر الانتداب بصيغة المعاهدة، فخلالها اثيرت مسالة اقتطاع الموصل ومطالبة ضمها الى تركيا حتى استدعت تدخلا دوليا ...وخلالها اثار البريطانيون مطالبتهم باحقيتهم في استثمار حقول النفط العراقية وهي في طور اكتشافها الاول، ادرك الملك وباستشارته للبعض من اعضاء البرلمان ومساعديه وبعض من الوزراء، ان معاهدة للنفط مع الانكليز يمكن ان تعدل او تتبدل مع مرور الزمن والوقت...لكن خسارة جزء من خارطة الوطن واقتطاعه من الخارطة من الصعب استرداده، فلم يفرط بخسارة الموصل وكسب الجولة باعتبارها جزءا لايتجزأ من الخارطة العراقية وفق معاهدة دولية معتبرة، قرر مجلس الوزراء في جلسته الخاصة بتاريخ 5/3/1925 الموافقة على ابرام اتفاقية النفط مع شركة النفط التركية بالشروط التي يريدها المساهمون بدعم من بريطانيا كما قرر المجلس تخويل وزير المواصلات السيد مزاحم الباججي توقيع الاتفاقية نيابة عن الحكومة حيث كانت شؤون النفط في ذلك الحين تدار من قبل وزارة المواصلات وقام الباججي بتوقيع الاتفاقية بتاريخ 14 /3/ 1925 بعد ان كان الباججي من المعارضين لتلك المعاهدة النفطية، واخذت مسودة المعاهدة منذ ذلك الحين تنتقل مرة بعد مرة بين دار الاعتماد البريطاني ومجلس الوزراء والبلاط بين اقتراح المعاهدة والمفاوضات الثنائية للاتفاق على خطوطها الاولى، وبين تصديقها كان اكثر من عشرة اشهر كاملة خطط لها الانكليز بدراية وصنعوا خلالها احداثا جعلت الملك في زاوية حرجة من امره ليصادق مرغما على المسودة النهائية لمعاهدة الانتداب طويلة الامد رغم حدة المعارضة العراقية ضدها ورغم وضع الملك نفسه في زاوية حرجة امام فصائل الشعب المتطلعة للاستقلال على يديه وخلال حكم عرشه.
بمرور الوقت اثبتت الوقائع نجاح سياسة الملك وطريقة تعامله في معالجة امور المملكة وادارة دفة التفاهمات مع البريطانيين من جهة واطراف المعارضة المشتتة من جهة اخرى فبينما اعتمد على الضباط الشريفيين السابقين الذين اصبحوا الان العمود الفقري للجيش العراقي الجديد حافظ على الاتصال مع كل القوى القائمة في البرلمان وكل اتجاهات الاراء ووضع نفسه علنا فوق الخصومات بين الاحزاب او الطوائف والتركيبات العشائرية، وفيها استطاع الملك فيصل نيل استقلال العراق وانضمامه الى عصبة الامم المتحدة وحصوله على كرسي الاستقلال صبيحة اليوم الثالث من شهر تشرين الثاني 1932 ليكون اول دولة عربية تنال استقلالها بعد نقاشات مستفيضة وصعبة وحادة مع المندوب السامي هنري دوبس وصلت في بعض الاحيان الى تأزم العلاقة بين الجانبين ولكن بعد الاطلاع على الاوضاع المستجدة في العراق وتعالي صيحات الوطنين داخل البرلمان وخارجه، وبعد الاستماع الى اراء الملك فيصل اقتنع دوبس بفكرة استقلال العراق وتمكن من اقناع وزارة الخارجية البريطانية بدخول العراق عصبة الامم استنادا على معاهدة 1926 مخافة ان تتدهور الامور في العراق وتفقد انكلترا مصداقيتها وتتعرض مصالحها للخطر في ذلك البلد ذي الاهمية الاستراتيجية والاقتصادية التي تتنافس عليه القوى العظمى.
تشكلت الأحزاب البرلمانية في عهد الملك فيصل الاول، وهي أحزاب كثيرة انتظمت حول سياسيين نافذين بهدف تشكيل كتل برلمانية وانتخابية، وتعتمد كلياً على قوة الزعيم، وموقعه في الدولة، مثل"حزب الإخاء" و"حزب العهد" و "حزب التقدم" و "حزب الشعب" و" حركة الاهالي"، وغيرهما، من أحزاب "الصالونات: وهي احزاب لا تملك ايدلوجيات محددة، ماعدا حركة الاهالي التي انشأت في بداية الثلاثينات كانت يسارية التوجه، ولم تكن الأحزاب السياسية، تلعب دوراً أساسياً في تنظيم الشعب وإعداده لممارسة الديمقراطية، ، بل أن هذه الاحزاب كانت أحزاب نخبة منبثقة من تلك الفئات الاجتماعية الآنفة الذكر، وتمثل مصالحها الطبقية، ولم تكن ركناً أساسياً من أركان الديمقراطية، تحول الطاقة المشتتة للشعب إلى طاقة سياسية فاعلة في عمل المؤسسات الدستورية والحكومية، وبخاصة على صعيد البرلمان،
رؤوساء الوزارات خلال عهد الملك فيصل الاول
عبد الرحمن الكيلاني تشرين الثاني 1920- تشرين الثاني 1922
عبد المحسن السعدون تشرين الثاني 1922- تشرين الثاني 1923
جعفر العسكري تشرين الثاني 1923- اب 1924
ياسين الهاشمي اب 1924- حزيران 1925
عبد المحسن السعدون تموز 1925- كانون الثاني 1928
عبد المحسن السعدون حزيران 1925- تشرين الثاني 1926
جعفر العسكري تشرين الثاني 1926- كانون الثاني 1928
عبد المحسن السعدون كانون الثاني 1928- نيسان 1929
توفيق السويدي نيسان 1929- ايلول 1929
عبد المحسن السعدون ايلول 1929- تشرين الثاني 1929
ناجي السويدي تشرين الثاني 1929- اذار 1930
نوري السعيد تشرين الثاني 1930- تشرين الثاني 1932
ناجي شوكت تشرين الثاني 1932- اذار 1933
رشيد عالي الكيلاني اذار- 1933 تشرين الثاني 1933
في المجلسين الأول والثاني، فقد كانا يسيران على وفق نظام حزبي منظّم، فضلاً عن تنظيم المعارضة نفسها، فالحكومة برئاسة عبد المحسن السعدون كانت تستند إلى حزب برلماني هو (حزب التقدم)، أما المعارضة فكانت بزعامة ياسين الهاشمي المستندة إلى حزب الشعب
وفي المجلس الثالث كان حزب العهد بزعامة نوري السعيد هو المسيطر على المجلس، في الوقت الذي كانت فيه المعارضة غائبة (غير موجودة) بسبب استقالة أقطابه.
ارتبط تاليف نوري السعيد لوزارته الاولى في الثالث والعشرين من اذار 1930 بابرام المعاهدة العراقية-البريطانية الجديدة بصورة مباشرة، فلم يمر سوى اشهر ثلاثة واسبوع واحد على عمر الوزارة السعيدية الاولى حتى تم التوقيع في الثلاثين من حزيران من السنة نفسها على المعاهدة، أي في اليوم الذي يحيي فيه العراقيون ذكرى ثورة العشرين التي اندلعت ضد الاحتلال البريطاني.
موقف النواب الكورد من معاهدة العام 1930
كانت مصادقة مجلس النواب والاعيان على نص المعاهدة شرطا دستوريا مطلوبا، ولما كان مجلس النواب في دورته الثانية غير مضمون من حيث ولاؤه للوزارة القائمة بحكم ارتباط اغلبية اعضائها بـ "حزب التقدم" لذا ارتأى نوري السعيد اجراء انتخابات جديدة، او كما جاء في نص منهاج وزارته "اجراء استفتاء عام، بطريقة الانتخابات، للبت في المعاهدة". ان اول رد فعل مهم للبرلمانيين الكورد على المعاهدة تزامن مع بداية عهد نوري السعيد، ففي اذار 1930 وجه ستة نواب كورد مذكرة تفصيلية إلى رئيس الوزراء مع صورة منها إلى "فخامة المندوب السامي" مما يعد تحولا يعبر عما انتاب الكورد من ياس من موقف البريطانيين تجاه مسالة شعبهم، وكان النواب الستة بالتسلسل، كما ورد في ذيل المذكرة، كل من نائب الموصل حازم شمدين اغا ونائب اربيل جمال بابان ونائب السليمانية محمد صالح ونائب اربيل اسماعيل رواندوزي ونائب السليمانية سيف الله خندان ونائب كركوك محمد جاف، تالفت مذكرة النواب الكورد من مقدمة وست نقاط اهم نقطة فيها جاءت في مقدمة المذكرة هو التأكيد على ان لجنة عصبة الامم "عند قيامها بحل قضية الموصل اوصت في تقريرها بلزوم اعطاء بعض الامتيازات الادارية للشعب الكوردي، ومنحه حرية كاملة في إدارة شؤونهم ومصالحه ، منها تشكيل لواء دهوك وأدارة كردية للألوية وتشكيل مديريات للمعارف واع فاء تسجيل الأراضي من الطابو، واسترحمو بان تؤخذ مطالبهم بعين الاعتبار، لم تجد مذكرة النواب الكورد لمن يستجيب لمطالبهم لدى المسؤولين بالرغم من اعتدال لهجتهم، وحسن نيتهم.
بين عامي 1925 و1932، تمّ تعيين ناحيم دانيال ممثّلاً عن الطائفة اليهوديّة في مجلس الأعيان العراقي، المكوّن من عشرين (20) عضواً، ثمّ ولده، عزرا مناحيم دانيال الذي حل محل والده كعين في مجلس الأعيان عام 1932
طيلة فترة عهد الملك فيصل الاول كان فوز مرشحي الحكومة في البرلمان مؤكد، كون الأكثرية الساحقة كانت طوع أمر الموظفين الإداريين ولم يأت ذلك بالإكراه أو بالشدة، بل بحكم طبيعة الانقياد، وأما سكان المدن، المطلعون في معرفة أمور الانتخابات وطرقها فيشكلون أقلية ضئيلة، بسبب أن من يتحدى الحكومة (ومرشحيها) في الانتخابات لابد وأن يحصد الخذلان والفشل.
ادت في فترة من الفترات فكرة إقناع الصحافيين بالعملية النيابية فتسابقوا إلى ترشيح أنفسهم ، أو ترشيح الآخرين لهم حيث تسابقت الوزارات إلى كسب ودّ أصحاب الصحف الكبيرة والمهمة وسحبهم إلى جهة النيابة فقد قام الأستاذ سليم حسون صاحب جريدة العالم العربي والأستاذ روفائيل بطي صاحب جريدة البلاد والاستاذ توفيق السمعاني صاحب جريدة الزمان والاستاذ يونان فرنكول والاستاذ عبد الغفور البدري بالترشيح تحت قائمة مرشحي الحكومة.
بقدر ما كانت الدولة العراقية المتمثلة بالملك فيصل الأول جادة لنيل الاستقلال وتكوين دولة مدنية وعصرية وأسعاد شعبها وتلبية حاجاته لينهض من جديد بعد عصور الظلام والجهل، وبالرغم من ذلك طفح شعور الشاعر الكبير معروف الرصافي عضو مجلس المبعوثان وعضو مجلس النواب انتقد الممارسات بأسلوبه الشعري الرزين والساخر حيث شبه الدولة العراقية" كالنعامة لا طير ولا جمل"، وانتقد ايضاً الوضع السياسي وقصور في الاداء الحكومي على تسيير امور المملكة وسياسة الانتداب وتكوين مجلس النواب ودستور البلد وصدحت حنجرته بالقصيدة المشهورة "
انا بالسياسة والحكومة اعرف..أألام في تفنيدها وأعنف
علم ودستور ومجلس أمة.. كل عن المعنى الصحيح محرف"
لقد شارك ايضاً الشاعر الكبير جميل صدقي الزهاوي عضو مجلس المبعوثان وعضو البرلمان في الدولة الملكية بانتقاده لأداء الدولة وحرية المرأة.
كتب الملك فيصل الاول في آذار 1932 قبل عام ونصف من وفاته، مذكرة أوجز فيها رؤيته للوضع العراقي وواقعهم واقتراحاته لطرق التصرف سياسياً وعملياً حيالهم، ووزعها بشكل شخصي على عدد من الساسة العراقيين من الحكومة والمعارضة للاستئناس برأيهم والتعليق على ما كتب سلبا أو إيجابا
فمثلا يصف فيصل الاول المجتمع العراقي وصفا موضوعيا عندما يقول، << إن البلاد العراقية من جملة البلدان التي ينقصها اهم عنصر من عناصر الحيـــــاة الاجتماعية ذلك هو الوحدة الفكرية والملية والدينية، فهي والحالة هذه مبعثرة القوى، منقسمة على بعضها، يحتاج ساستها أن يكونوا حكماء مدبرين، وفي عين الوقت اقوياء مادة ومعنى، غير مجلوبين لحسيات أو اغراض شخصية، او طائفية، او متطرفة، يداومون على سياسة العدل والموازنة، والقوة معاً، عـــــــــلى جانب كبير من الاحترام لتقاليد الاهالي، لا ينقادون إلى تأثرات رجعية، او إلى افكار متطرفة تستوجب رد الفعــــــل>>
كما يذكر <<الحكومة اضعف من الشعب ولو كانت البلاد خالية من السلاح لهان الامر لكنه يوجد في المملكة 15 الف بندقية حكومية ولايوجد لدى الحكومة نصف هذا العدد من البنادق في اي بلد من بلاد الله يمكن ان تكون حالة حكومة وشعب كهذه>>
وأخطر ما ذكره كوصف للمرحلة<<لا يوجد في العراق شعب عراقي بعد بل توجد تكتلات بشرية خيالية خالية من اية فكرة وطنية متشعبة بتقاليد واباطيل دينية لاتجمع بينهم جامعة سماعون السوء ميالون للفوضى مستعدون دائما للانقضاض على اية حكومة كانت
علينا ان لاندع مجالا للاحزاب المصطنعة والصحف والاشخاص ليقوموا بانتقادات غير معقولة وتضليل الشعب وعلينا ان نعطيهم مجالا للنقد النزيه المعقول ضمن الادب>>
ما أنه اشار إلى نقطة مهمة متعلقة بالجيش العراقي وبنائه والدور المناط به، حيث يقول << بدأت بالجيش، لانني اراه العمود الفقري لتكوين الامة، ولانني اراه في الوقت الحاضر اضعف بكثير لعدده وعدته، من أن يقوم بالمهمة الملقاة على عاتقه، وهي حفظ الامن والاطمئنان إلى امكانية كفاءته، نظراً إلى ما تتطلبه المملكة، ونظراً إلى العوامل المختلفة الموجودة، التي يجب أن تجعلنا دائماً متيقظين لوقوع حوادث عصيان مسلح في كل وقت. انني لا أطلب من الجيش أن يقوم بحفظ الامن الخارجي في الوقت الحاضر، الذي سوف نتطلبه بعد اعلان الخدمة العامة، اما ما سأطلبه منه الان، فهو أن يكون مستعداً لاخماد ثورتين تقعان (لاسمح الله) في آن واحد، في منطقتـــين بعيدتين عن بعضهما
انني غير مطمئن إلى اننا بعد ستة اشهر، وبعد أن تتخلى انكلترا عن مسؤوليتها في هذه البلاد، نتمكن من الوقوف لوحدنا، مادامت القوة الحامية هي غير كافية، ولا يمكنني أن اوافق على تطبيق الخدمة العامة او القيام بأي اجراءات اخرى مهمة، او محركة، او مهيجة، ما لم اكن واثقاً من أن الجيش يتمكن من حماية تنفيذ هذا القانون، او أي اجراءات اخرى، وعليه ارى من الضروري ابلاغه لحد يتمكن معه من اجابة رغبتي المار ذكرها وذلك بشكله الحاضر>> كما يشير في المذكرة إلى نقطة في غاية الاهمية في مسألة ادارة البلاد وهي لامركزية الحكم ومنح سلطات واسعة للحكومات المحلية، حيث يشير إلى «اقول بتحفظ: أنه إذا أمكن اعطاء صلاحيات للألوية، شبيهة بمجالس الولايات في العهد العثماني، فسيكون ذلك من جملة اسباب تشويق سكان الالوية للاشتراك في الحكم
وفي تصوره للحالة الأقتصادية وتنفيذ المشاريع فأنه يقول"انه لمن المحزن والمضحك المبكي معا ان نقوم بتشييد ابنية ضخمة بمصاريف باهظة وطرق معبدة بملايين الروبيات ولاننسى الاختلاسات وتصرف اموال هذه الامة المسكينة التي لم تشاهد معملا يصنع لها شيئا من حاجتها واني احب ان ارى معملا لنسج القطن بدلا من دار حكومة وان ارى معملا للزجاج بدلا من قصر ملكي"
لو تفحصنا هذه المذكرة جيدا لاكتشفنا بانها وثيقة سياسية واجتماعية لملك عربي يتمتع ببصيرة ودراية وحسن تصرف لواقع العراق وما لاحضه ومارسه وعايشه لجميع المجتمع العراقي بكل فئاته واطيافه ومكوناته طيلة حكمه للفترة 1921- 1933، ووضع لها الحلول والممكنات المطلوبة وهنا تكمن قيمة هذه المذكرة ، التي مع الأسف لم تلقى العناية بعد موت هذا الرجل النبيل في حكمته والنبيل في أدارته والنبيل في دبلوماسيته والنبيل الذي وضع الاسس الاولى للدولة الحديثة وانقاذها في لحظات حرجة تاريخية وحاسمة من التشرذم الى سلم الاتحاد ومن المذهبية العشائرية الى احزاب تنضج مستقبلا بطابعها الوطني ومؤسسات مدنية ومن تكتلات متناحرة متفرقة الى كيان موحد اسمه المملكة العراقية، وبموته فقد العراق من كان يريد خلاصه من تبعيات ما حل به، يعجز حجم القلم وحامله من وصف شخصية ومكانة الملك فيصل الأول رحمه الله في قلوب كل من فرأ وفتش في بطون التقارير والكتب التي نشرت عنه وكيف وصفته لأدارة بلد مثل العراق، وقد وصفه الكولونيل لورانس في كتابه الشهير (أعمدة الحكمة السبعة) بأنه أمين كضوء الشمس.
لعب البرلمان العراقي على مر التاريخ دوراً مهما فى الحياة السياسية أكسبه قيمة تاريخية كبيرة بوصفه شاهداً على العديد من العصور السياسية التى مر بها العراق، وفي العصر الحديث ائناء تولي الملك فيصل الأول حتى مماته!؟ كما يؤشر ان العملية الديمقراطية في العراق كانت تجرى لأول مرة بشكل ملحوظ ويسر على الرغم من المؤثرات التي مارسها وحاك دسائسها الأنكليز على الحكم انذاك، ومن الله التوفيق
سرور ميرزا محمود
4751 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع