" جميل صدقي الزهاوي الشاعر الفيلسوف، الداعية الاجتماعية، ونصير المرأة وحريتها"
الشعر لغة مثله مثل اللحن الموسيقي الجميل، فالكلمات سواء كانت مغناة او إلقاء فهي تلامس الروح البشرية، هذه الكلمات ايا كانت لغتها ولهجتها ان كانت غزلية وصفية تحريضية حربية في كل فنون الشعر الجزل، تظل لغة روحية مشتركة بين البشر كافة بكل لغاتهم وثقافاتهم.
ارتبط الشعر بالحياة، وتغير الشعر بطبيعة الحال تبعا للتغير الذي طرأ على الحياة، وبمرور الزمان والحقب اتسقت آفاق الشعراء ونضج خيالهم وتوسعت موضوعاتهم وفنونهم الشعرية ايضا فظهرت اغراض شعرية جديدة، وتصرف الشعراء بالمعاني والاساليب، واكثروا من الابداع والتشبيهات الادبية والالفاظ الرقيقة، فقد قال الشعراء المحدثون فی کل الأغراض المعروفة، وإن أکثروا في بعضها وأقلوا في البعض الآخر، ونظموا کثیراً في الوطنیة والقومیة، وأرخوا الأحداث السیاسیة التی مرت بها الأمة العربیة، ولکن المیدان الاجتماعی کان لهم أرحب، ذلك أن الشعر انما یجود حین یحس الشاعر بالحریة، وقد فقد الشعراء هذه الحریة فی کثیر من العهود، ونحن نجلس في المقهى تنتابنا حالة متناغمة من المشاعر والألفة، لا تدري لم تشعر، كأن الزمان الماضي مازال بذكرياته المتنوعة راسخا في الذاكرة، و تتلهف المشاعر بين الحب، والحزن، والبهجة، واليأس والأمل!، ربما لسبب واحد نعرفه في الغالب نحن العراقيون هو الغربة، جزء كبير من المحاورة يتجه في استرجاع ذكريات الماضي والحنين الذي يأخذنا إلى بغداد برموزها الخالدة في شتى المجالات السياسية والعلمية والفنية والاقتصادية والادبية وغيرها، لم اكن اتصور أن ما كتبته عن الشاعر الرصافي وشعره ومواقفه الوطنية لازالت شعاعاً ونبراساً ونبعاً خالداً في نفوس العراقيين الاصلاء، في جلستنا اقترح ان نكمل مشوارنا الكتابي عن احد عمالقة الشعر في العراق وهو الخالد في ضمير ووجدان العراقيين الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي، وبفرح وغبطة بدأ القلم يأخذ خطاه.
جميل صدقي بن محمد فيضي بن الملا أحمد بابان الزهاوي ،هو جميل صدقي بن محمد فيضي بن الملا أحمد بابان الزهاوي، ينتسب إلى قبيلة (بابان) الكردية، أمراء السليمانية، ولهذه القبيلة شأن كبير في التاريخ الكردي الحديث،
إذ قاد أمراؤها أكثر من ثورة كردية ضد الحكم العثماني في بدايات القرن التاسع عشر، ولعل أقدمها هي ثورة قادها عبد الرحمن باشا الباباني بين سنتي 1804– 1813 م، وهي القبيلة التي انجبت الوزراء ورجال العلم والثقافة والطب والقانون ذو المكانة المرموقة لدى المجتمع العراقي.
اشتهرت أسرة جميل بـ ( بالزَّهاوي ) نسبة إلى مدينة زَهاو التي كانت امارة مستقلة قريبة من خانقين، وكانت الأسر الكردية الشهيرة تقود الثورات ضد الصفويين تارة، وضد العثمانيين تارة أخرى، ويضطر بعض أبنائها، نتيجة فشل ثوراتهم، للانتقال من المنطقة الواقعة ضمن النفوذ الصفوي إلى المنطقة الواقعة ضمن النفوذ العثماني، وكان الانتقال بعض الأحيان لأسباب اجتماعية كما هو الأمر بشأن جد جميل، أما والده فهو العلامة محمد فيضي مفتي العراق، وبيته بيت علم ووجاهة في العراق، واسم أمه (فِيرُوز)، وكان جده لأبيه قد هاجر إلى مدينة (زهاو) وتزوج بسيدة زهاوية، ولدت محمد فيضي والد جميل، لذا اشتهر الوالد بلقب (الزهاوي).
ولد الزهاوي في بغداد في اليوم التاسع والعشرين من شهر ذي الحجة سنة 1279هـ يوم الأربعاء الموافق 18 حزيران 1863م، وتلقى العلم بداية في الكتاتيب، ثم قرأ على والده مبادئ الصرف والنحو والمنطق والبلاغة، إضافة على ديوان المتنبي، وتفسير البيضاوي، وشرح (المواقف) للنِّفَّري)،
كما أن والده كان يتقن الفارسية، ويحب شعر عمر الخيّام والفِرْدَوسي، فأتقن الزهاوي إلى جانب لغته الكردية الأم، اللغة العربية والتركية والفارسية قراءة وكتابة، وحاول في كبره أن يتعلم الإنكليزية لكن مشاغله الثقافية حالت دون ذلك، واخذ الزهاوي العلوم العقلية والنقلية على يد علماء بغداد،
استكمل الزهاوي دراسته في مدارس بغداد وتركيا، ولا سيما العلوم العصرية، وأعجب بالروايات المترجمة إلى العربية والتركية، وتوسع في دراسة الفلسفة، وخاصة حينما كان يعلّمها في الآستانة (إستانبول) ، ونبغ في مختلف المجالات العلمية والفلسفية، وكان نبوغه باللغة العربية والشعر العربي، متفوقاً على بقية تحصيلاته العلمية، كما أنه توسع في دراسة القانون، عين مدرسا في مدرسة السليمانية ببغداد عام 1885 وهو شاب ثم عين عضوا في مجلس المعارف عام 1887 ثم مديرا لمطبعة الولاية ومحررا لجريدة الزوراء عام 1890، عندما عين عضوا في محكمة استئناف بغداد عام 1892، وفيها قال"ولم أَمِل في حياتي كلها إلا إلى الأدب والفلسفة"، سافر إلى إستانبول عام 1896، فأعجب برجالها ومفكريها وتأثر بالأفكار الغربية، وبعد الدستور عام 1908 عين استاذا للفلسفة الإسلامية في دار الفنون بإستانبول ثم عاد لبغداد، وعين استاذا في مدرسة الحقوق، وفيها قال "لو لم أكن شاعراً أو فيلسوفاً لاخترت أن أكون محامياً"، فرئيساً للجنة تعريب القوانين في بغداد، إنضم الى الأحزاب السياسية في ذلك الوقت ومنها حزب الإتحاديين، كما عين او انتخب عضواً في مجلس المبعوثان العثماني لمرتين وكذلك عند تأسيس الحكومة العراقية الحديثة انضم كعضو في مجلس الأعيان، نظم الشعر بالعربية والفارسية منذ نعومة أضفاره فأجاد واشتهر به.
زوّجه أهله، وهو في الخامسة والعشرين، من فتاة اسمها (زكية هانم)، وكانت تركية الأصل فاضلة، فأضفت السعادة على حياته، بما تميّزت به من جمال، ورجاحة عقل، وحسن خلق، ولم يرزق ولداً.
الزهاوي قمة من القمم الشوامخ في تاريخ الأدب في العصر الحاضر، علم عملاق من اعلام شعراء النهضة الشعرية والأدبية في منتصف القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، إعتبره النقاد واحداً من مؤسسي النهضة الأدبية والشعرية في العالم العربي، فهو من شعراء الطليعة، تأثر كثيراً في الأشعار التي نظمها بالعلوم التي درسها وبالأفكار الغربية التي تأثر بها من خلال سفره الى تركيا وأستنبول وعمله فيها كأستاذ للفلسفة الاسلامية فهو كان يجمع بين الثقافة التراثية والتقليدية وبين العلوم الجديدة، امتاز بروعة بيانه وقوة عارضته واتساع أفق خياله وغزارة مادته، نظم الشعر بالعربية والفارسية منذ نعومة أضفاره، آياته الشعرية من جزالة وسهولة، ذو النزعة الفلسفية والاجتماعية والسياسية والدينية، عرف بنزعته المتمردة والرافضة في المجالات التي تطرق اليها في شعره، ومنها التي طغت على شعره النزعة السياسية وذلك واضح من خلال النشاطات السياسية التي مارسها خلال حياته.
كتب عن نفسه: كنت في صباي أسمى "المجنون" لحركاتي غير المألوفة، وفي شبابي "الطائش" لنزعتي إلى الطرب، وفي كهولي "الجرىء" لمقاومتي الاستبداد، وفي شيخوختي "الزنديق" لمجاهرتي بآرائي الفلسفية.
كان الزهـاوي مولعاً بالتدخين الذي كان يسرف فيه بقدر زهده في الطعام، والقراءة والكتابة شعراً ونثرا.
توفي الزهاوي في شهر ذي القعدة عام 1354 هـ، 1936م، ودفن بمشهد حافل في مقبرة الخيزران في الأعظمية، وبنيت على قبره حجرة ودفن على مقربة منه علامة العراق الشيخ أمجد الزهاوي ابن أخيه، لكنه لم يكن له يوماً اي ود، ولم يشارك في تشييعه عندما وافاه الاجل، ولم نستطع معرفة سبب الجفاء هل هو الوازع الديني!؟.
له مقالات كثيرة نشرتها كبريات المجلات العربية في حينه، وله مؤلفات علمية وادبية منها:
له في الفلسفة "الكائنات"، وفي الافلاك وسبرها "اجمل مارأيت" وفي النثر "الجاذبية وتعليلها"، "الخيل وسباتها"، "اشراك الداما" ، "الفجر الصادق"، "المجمل مما أرى"، و"رباعيات الخيام" ترجمها شعراً ونثراً عن الفارسية، وشعره كثير يناهز عشرة آلاف بيت، منه "ديوان الزهاوي"، و"الكلم المنظوم"، و"الشذرات"، ورباعيات الزهاوي"، و"اللباب" و"أوشال" و"الثمالة"، سمير وليلى "رواية".
ملحمته الشعرية الخالدة "ثورة جهنمية -نزغات الشيطان-منكر ونكير"، ويطلق عليها "ثورة في الجحيم"، ملهاة حوارية شعرية خيالية فلسفية واجتماعية ألفها الزهاوي وهو في بداية عقده السابع عام (1929) ليقاوم بعنفوانه ملامح الشيخوخة التي داهمته والمرض وتباشير العجز، بالمزيد من المرح وروح الفكاهة والمجون، تتميّز بالجرأة، يعرض فيهـا رؤاه وفلسفتـه ونظرته للحيـاة وأدبهـا والنـاس ومعتقداتهم من خـلال سجـل زيـارته للجحيــم والنعيــم، وهي ملحمة فيها من نسق "رسالة الغفران" للمعرّي و"الكوميديا الإلهيّة" لدانتي واستعارات من القرآن الكريم حول النعيم والجحيم، فكـانت الملحمة َ الشعرية الفلسفية الوحيدة باللغة العربية استناداً إلى أدب العرب ومعتقداتهم بعد رسـالة المعري، الملحمة تهكم على العقل الدیني الخرافي، الأمر الذي جعل أئمة المساجد یطالبون بقتله باعتباره كافراً، فلما استدعاه ملك العراق لیستكشف حقیقة الأمر، قال الزھاوي: أردت أن أقیم ثورة على الارض فعجزت فأقمتها في السماء ، وكان من المفروض ترجمتها لتكون عالمية وتضاهي الكوميدبا الآلهية لدانتي، انصح بقرائتها لانها تمثل النزعة الثورية للأدب العربي في الربع الاول من القرن العشرين.
الزهاوي والعثمانيين:
رغم أنه كان مؤيداً للحكم العثماني في كثير من أشعاره إلا أنه إختلف معهم عندما رأى الحكومة العثمانية تتبع أسلوب القمع والإرهاب بحق بعض الأحرار الذين طالبوا بالإستقلال. ومن ضمن الأشعار التي قالها في هذا المجال القصيدة، وهي من نوع الشعر الوطني الحماسي، وفيها يحاول إستنهاض الهمم وشحذ العزائم بأسلوب حماسي عبر رثاء مجموعة من الشهداء الذي راحوا بسبب رفضهم للظلم وثباتهم على المبادئ، ضحية الظلم والإرهاب والتعسف. والقصيدة هذه تكتسب أهميتها من أسلوبها الحماسي والوصف الرائع الذي يتخللها ونفسها الملحمي الذي يلهب الهمم والعزائم ويجعل المتلقي يشارك الشاعر في تجربته الوجدانية الذي يستهل به الشاعر قصيدته هذه، بقراءة بعض الأبيات منها بشأن الإعدامات التي جرت في سوريا عام 1916 في رثاء الشهداء:
على كل عود صاحب وخليل**** وفي كل بيت رنة وعويل
وفي كل عين عبرة مهراقة**** وفي كل قلب حسرة وغليل
كأن الجدوع القائمات منابر**** علت خطباء عودهن نقول
الزهاوي وتحريض العرب على العثمانيين:
له بعض الأشعار السياسية التي دعا فيها العرب رغم ولاءه للأتراك دعا فيها العرب الى نبذ طاعة الأتراك، يقول فيها:
تبصر أيها العربي وأترك**** ولاء الترك من قوم لئام
الزهاوي والملك فيصل الاول:
كانت بين الملك وازهاوي مودة واحترام متبادل، عرض الملك عليه ان يكون شاعر البلاط بعد اعلان الحكم الملكي سنة1921م، الا ان الزهاوي رفض طلب الملك.
كانت آراؤه المتطرفة في الدين والاجتماع تغضب الشريف علي، وكان شديد التدين، فأثر في أخيه الملك فيصل فلم يعد انتخاب الزهاوي لعضوية مجلس الأعيان، وكان ذلك قبل عامين من وفاة الملك الراحل، ومنذ ذلك اليوم حنق الزهاوي على الحكومة والسياسة.
الزهاوي ورفع العلم:
يعتبر العلم الوطني للدولة اعظم شكل من اشكال الرموز الوطنية للدول وشعوبها وكما يمثل وحدتها، ويرفع في كافة المحافل الدولية، لهذا فان كافة دول العالم اجمعت واقرت ان العلم الوطني هو رمز من رموز الامة يمثل وحدتها واجماعها الوطني ويلتف حوله الجميع ويعتبر علامة من علامات النصر،ويستشهدون لرفعه بصرف النظر عن الدين والعرق في المجتمعات المتعددة، وكان اسمه يردد صباح كل خميس في جميع مدارس العراق حيث يرفع العلم العراقي في الاصطفاف المدرسي الصباحي وبعده يتقدم احد التلاميذ ليحي العلم بقصيدة الزهاوي:
عش هكذا في علو أيها العلم*** فإننا بك بعد الله نعتصم
عش خافقا في الاعالي للبقاء و ثق*** بان تؤيدك الاحزاب كلهم
جاءت تحييك، من قرب مبينة***افراحها بك فانظر هذه الامم
ان العيون قريرلت بما شهدت ***والقلب يفرح و الامال تبتسم
ان احتقرت، فان الشعب محتقر***او احترمت، فان الشعب محترم
الشعب انت، و انت الشعب منتصبا ***و انت انت جلال الشعب و العظم
فان تعش سالما عاشت سعادته*** و ان تمت ماتت الامال و الهمم.
الزهاوي والعلم والمعرفة ومحاربة الجهل:
العــــلم نور بين أيـدى المرء فى كل المطالب
والجـــهل أشبه بالظلام يحفه من كــــل جـــانب
العلم يعفى المرء فى الأعمال مـــن ثقل المتاعب
فى العلم تخفيف لمـا يعرو الحياة من النوائب
فى العلم توسيع لأبـواب التجارة والمكاسب
فى العلم إصلاح المفاسد والـعقائـد والمذاهب
ويقول ايضاً
موت الفَتى خير له من معيشة**** يَكون بها عبئاً ثَقيلا عَلى الناس
وأنكد من قد صاحب الناس عالم**** يرى جاهلاً في العز وهو حقير
يَعيشُ رخيَّ العيش عِشرٌ من الوَرى**** وَتسعة أَعشار الأنام مناكيد
أَما في بَني الأرض العَريضة قادر**** يخفف وَيلات الحَياة قَليلا
إذا ما رجال الشرق لم ينهضوا معا**** فأضيع شيء في الرجال حقوقها
الزهاوي والرصافي:
كما هو معروف لدى المجتمع العرافي في الربع الاول من القرن الماضي بالخلافات بين عمالقة الشعر في العراق الزهاوي والرصافي بينا في مقالتنا التي نشرتها الكاردينيا" محطات من مواقف وطنية للشاعر الكبير معروف الرصافي"، ذكرنا الكثير منها ونضيف هنا واقعة اخرى وهي:
في عام 1925 أقيم أول احتفال ملكي على شرف الملك فيصل الأول ملك العراق في الساحة المقابلة لقصر الزهور في بغداد وكان الغرض من هذا الاحتفال التاريخي رفع العلم العراقي لأول مرة فحضر الحفل كبار الشخصيات والمسؤولين إضافة للشعراء والأدباء والوجهاء وكانت المادة الأولى في البرنامج إن يفتتح الحفل الشاعر جميل صدقي الزهاوي وهو داخلاً من البوابة الكبرى ممتطياً صهوة جواد عربي أصيل ورافعاً بيده سارية العلم وهو يلقي قصيدة وطنية لم يذكر المصدر عنوانها ولعلها قصيدة "عش هكذا في علو أيها العلم"، ولم تفلح معه كل المحاولات في إن يوافق على ركوب الحصان المعد للمناسبة، وبعد محاولات أقناع عديدة وافق الزهاوي على امتطاء حمار يسميه البغداديون ابو ركبة، وحين دخل الزهاوي من الباب الرئيسي المؤدي إلى مكان الاحتفال علا صراخ الجماهير ترحيباً بالزهاوي واستغراباً لامتطاء الحمار فذعر الحمــار ( وعنفص ) رافساً الهواء برجليه الخلفيتين فسقط العلم وراكبه من على ظهر الحمار وساد الهرج والمرج وكان الرصافي احد المدعوين فشمت بالزهاوي واستخف، بكلمات تشف بالزهاوي حين سقط من على ظهر الحمار، وكان الزهاوي قد سمع ما قاله الرصافي فاقسم إن يرد الاهانه عليه وقبل نهاية الاحتفال طلب الزهاوي من احد الحاضرين إن يربط حذاء الرصافي بحبل عقد طرفه الثاني بذيل الحمار وهنا عمد الزهاوي إلى رفس الحمار فنهق ورفس برجليه الخلفيتين ساحباً الرصافي خلفه وصار الزهاوي يردد عالياً ( هاي بذيج ) ( إي دكه بدكه ) من باب المقابلة بالمثل.
مجالس الزهاوي:
شلت ساقه اليسرى وهو في الخامسة والخمسين من عمره، وكان يتنقل من مكان إلى آخر راكباً حماره، حتى إذا أصلحت شوارع بغداد كان يتنقل في عربات الأجرة يرافقه خادمه الأمين محمود، فإذا نزل من العربة توكأ عليه حتى يصل إلى مجلسه، وكان مجلسه يحفل بأهل العلم والأدب، وأحد مجالسه في مقهى الشط وله مجلس آخر يقيمه عصر كل يوم في قهوة رشيد حميد في الباب الشرقي من بغداد، في اوائل الثلاثينات دعاه يوماً رئيس الوزراء، نوري السعيد، للالتقاء به، فسأله: أين؟ أجابه: في مقهى أمين، التقيا هناك.
لم يكن في المقهى من متاع الدنيا غير بضعة تخوت وكراسي قديمة وفونوغراف قديم، كان المقهى يحتل موقعا استراتيجيا فهو يقع قرب سراي الحكومة وكانت المنطقة تضم بيوت الشخصيات المتنفذة في ادارة العراق.. بينها بيت السعيد، اعجب (الزهاوي) بالمقهى، واكتشف انه لا يبعد كثيرا عن داره.. فاتخذه مقرا، فنسي الناس اسم صاحبه واضحى منذ ذلك يحمل اسم الزهاوي، يجتمع تحت سقفه الأدباء والمثقفين كواحةالحب الكبير للثقافة التي مكانها الوسط الجماهيري الشعبي، ولقد كان مولعا بلعبة الدومنة وله فيها تفنن غريب، وكان من المترددين على مجالسه الشاعر معروف الرصافي، والأستاذ إبراهيم صالح شكر، والشاعر عبد الرحمن البناء، وكانت مجالسه لا تخلو من أدب ومساجلة ونكات ومداعبات شعرية، وكانت له كلمة الفصل عند كل مناقشة ومناظرة.
الزهاوي وام كلثوم:
أشهر الشعراء والأدباء الذين مدحوا ام كلثوم اثناء زيارتها الى بغداد: محمد رضا الشبيبى وجميل صدقي الزهاوي ومعروف الرصافي ومحمد بهجة الأثري وإبراهيم أدهم وغيرهم..
حياها الزهاوي بقصيدة على مسرح الهلال يوم 15 نوفمبر 1932 بقوله:
لفن روض أنيق غير مسؤوم وأنت بلبله يا أم كلثوم.
إنا أمة رزحت *** تحت المصائب أجيالاً فسليناً يا أم كلثوم
حملتُ مايعجز الفتيان محمله*** وما ابن عشرين صنو لإبن سبــــــعينا
اني دخلت جحيمي قبل آخرتي*** وذقت في العيش زقوما فغسلينا
بلى جننا بلحن قد شدوت به*** وقبل ذلك ما كنا مجانيــــــــــــنا
ماذا عليّ إذا آليت في كبري*** ألا أغازل إلاَّ الربـــرب الـــــــعينا
وكان المكان غاصاً بالنساء والرجال من أهالي بغداد فلما وصل الزهاوي قوله:
أُم كلثــوم حييـــنا مغردة*** حييّ الملائك منا والشياطينا
اشار عند كلمة الملائك إلى مقاصير النساء ( مقصورة)، واشار عند كلمة الشياطينا الى مقصورة الصحفيين، وبخاصة الى صديفه نوري ثابت "حبزبوز"، وعندما انتهى من القاء قصيدته توجه الى مقصورة الصحفيين الى جانب حبزبوز، فابتدره هذا بالسؤال؟
أنا الشـــــيطان يا أســــتاذ ؟
فضحك شيخنا الزهاوي وأجابه بما عرف عنه من سرعة خاطر:لا،ولكني لو تركت صوت ام كلثوم للملائكة لحرمت نفسي!! من هذه النعمة.
الزهاوي وحقوق المرأة:
تعد المرأة ومشکلة السفور والحجاب من أهم المیادین التی دار النزاع فیها وذلك لسعة الخلاف بین رجال الدين وبین المجددين فیما یتصل بها من عادات ومن تقالید، کانت دعوة السفور دعوة جدیدة هاجمت معاییر المجتمع لذلك کان الزهاوي بين فلاسفة وسياسيي العراق ومصر وبـلاد الشام بموقفه المتميز والصريـح تجـاه مسائل المرأة والدفاع عن حقوقهـا وقد قيل عنه الكثير، فقد
دافع الزهاوي عن حقوق المرأة وطالبها بترك الحجاب، وكانت اخته (اسماء) أول سافرة في بغداد، وأسرف في ذلك، من خلال
تمرده على صعيد المجتمع، ودعوته المبالغ فيها الى تحرير المرأة الى حد دعوته الى السفور ونبذ الحجاب في قوله
إسفري فالحجاب يابنة فهر**** هو داء في الاجتماع وخيم
وله قول أخر:
مزقي يابنة العراق الحجابا**** أسفري فالحياة تبغي إنقلابا
مزقيه وإحرقيه بلاريث**** فقد كان حارساً كذابا
ويقول ايضاً
في الغرب حيث كلا الجنسين يشتغل**** لا يفـْضل المرأة َ المقدامةَ َ الرجــلُ
كلا القرينيــن معتـز بصـــــــــــاحبه**** عليه إن نـال منـه العجزُ يتــــــــكل
ان الزهــاوي نصيراً عنيداً للمرأة وكتب في حريتها ومساواتها بالرجل الكثير من النثر والشعر، إحدى مقالاته في الدفاع عن المرأة نشرت في عام 1910 سببت له المتاعب وانتهت بتسريحه من وظيفته في إحدى مدارس بغداد وشن حملات كبيرة من قبل الكتاب المتشددين الذين وصفوه بالمارق، قيل أنها عرضت حياته للخطر وأدت الى هجوم الناس على بيته، قصـائده في تحـرر المرأة كـانت أشد وقعـاً على الرجعيين والمتخلفين.
الزهاوي وشاعر الهند طاغور:
كانت زيارة طاغور من اعراس بغداد، فلقد سبقته شهرته، كونه اول شرقي ينال جائزة نوبل 1913 وكجزء من تكريمه اختير الزهاوي لرئاسة الاستقبال والتكريم وعندما تعانق الشاعران العملاقان في مدينة خانقين الواقعة قرب الحدود العراقية الايرانية، رحب احدهما بالآخر، وقال الزهاوي: اهلا بشاعر الهند الملهم وحكيمها العظيم طاغور، فأجابه: واهلاً بشاعر العرب الغريد وفيلسوفهم الحكيم.
الزهاوي والجواهري:
يذكر الجواهري انه قضى سبعة اعوام لايكاد يفترق خلالها عن الزهاوي الذي كان يجلس في المقهى الذي يحمل اسمه وهو في شوق شديد لقدوم الجواهري حتى انه اذا كان يتاخر قليلا كان الزهاوي يمد يده مشيرا الى ساعته ليقول (شوف افندم ! خمس دقائق متأخر)!، ويذكر الجواهري يضاً ان الزهاوي التفت الي ذات يوم ليقول لي بلهجة التحدي افندم تتراهن؟ علي ان اقطع نفسي،وتقطع نفسك والساعة حكم بيننا
الشيخ الزهاوي على وقاره ومكانته، والجواهري الشاب وفي مقهى حافل، وعلى منضدة تتوسطهما، وقد وضعت ساعة في وسطها، وكلاهما يبدأ باشارة ليقطع نفسه، وتطلعت العيون اليهما، وحبست الانفاس وانتفخت الاوداج والعروق واحمرت الوجنات وجحظت العيون، وابتدأت ثواني الساعة تمر بطيئة متكاسلة، واخيرا يستسلم الشاب ابن السابعة والعشرين بكل حيويته وقوة قلبه ويأخذ النفس،
وهو يثب على كرسيه ويقول يا استاذ كفاية، لقد كسب الزهاوي ابن السبعين استأذن الزهاوي في الانصراف، ونادى على النادل”يا ولد تعال خذ فلوسك". واسرع النادل وكان الحساب بالانات الهندية، فعد الجالسين واحدا واحدا ليدفع عنهم انة، مستثنياً من يكرههم اومن يكرهوه.
ومن قصائده الجميلة وهو قد تجاوز السبعبن من عمره وهي خلاصة لما شاهده في خخلجان حياته ناذكر منها:
إليك يا نفس عني لا تلوميني فإن**** لومك لي يا نفس يؤذيني
راجحتُ أعلامهم في كل ما وضعوا**** من العلوم فما خفت موازيني
رَدّوا بسبي على رأي جهرت به**** كأنما السب من بعض البراهين
إن الأكف التي قد كنت آملها للذود**** صارت مع الأيام ترميني
أمست رماح بني عمي وقد حنقوا**** تنوش جسمي وكان شرعا دوني
للجهل حق رعاة الجهل تضمنه له **** وللعلم حق غير مضمون
وقف معروف الرصافي على حافة قبره والقى بقصيدة رثاء ممقا فسماً منها:
ايها الفيلسوف قد عشت مضنى***مثل ميت وصرت بالموت حيا
سوف يبقى بين الورى لك ذكر***ناطق بالبقاء لم تخش شيا
انت في الفضل عشت حيا وميتا***حزت في الحالتبن ذكرا عليا
سوف ابكي عليك شجوا واني***كنت ابكيك في الحياة شجيا
القى الجواهري هذه القصيدة في رثائه وهو يقف على قبره مع جموع المشيعين وقد نشرتها جريدة البلاد في عددها (798)
قد سمى الجواهري صاحبه الشاعر الراحل (ابا الشعر) ليقول (شوف افندم ! خمس دقائق متأخر)! حيث كان الزهاوي يسمى (الشاعر الفيلسوف) لما كان يتضمنه شعره من اراء فلسفية وما كان يكتب فيه ويناقش من الاراء حول فلسفة الكون والوجود والموت والحياة والى هذا اشار الجواهري اذ يقول :
وفلسفة اطلعت في الشعر نورها****هي اليوم ثكلى عن (جميل) تناشد
وكان نقيا فكرة وعقيدة ****عزيزا عليه ان تسف العقائد !
يؤكد ان الدين حب ورحمة****وعدل وان الله لاشك واحد !
وان الذي قد سخر الدين طائعا****يتاجر باسم الدين لله جاحد
ويختم الجواهري قصيدته الشيقة في رثاء الزهاوي بهذا المقطع الجميل :
ابا الشعر والفكر المنبه امة****عزيز علينا انك اليوم راقد
وان الذي هز القلوب هوامدا****وحركها في الترب ثاو فهامد
اضاعوك حيا وابتغوك جنازة****وهذا الذي تأباه صيدا اماجد
وكتب طه حسين عندما علم بوفاته
لم يكن الزهــاوي شاعر العربية فحسب ولا شاعر العراق بل شاعر مصر وغيرها من الأقطار .. لقد كان شاعر العقل .. وكان معري هذا العصر .. ولكنه المعري الذي اتصل بأوروبا وتسلح بالعلم.
رثاه إبراهيم المازني قائلاً: (والحق إن الزهاوي كان أعجوبة، وطراز وحده، وحسبك من أعاجيبه أن ذهنه رياضي أو علمي بفطرته، ولكنه اشتهر بالشعر أكثر مما اشتهر بسواه).
قال فيه الشيخ إبراهيم أفندي الراوي وفي قرينه الرصافي:
مقال صحيح إن في الشعر حكمة وما كل شعر في الحقيقة محكم
وأشعر أهل الأرض عندي بلا مرا جميل الزهاوي والرصافي المقدم
وقال( طه الراوي ) يصف شخصية الزهاوي: كان- رحمه الله – عصبي المزاج، سريع الغضب، سريع الرضا، بعيداً عن الحقد والضغينة، ولوعاً بلفت الأنظار إليه... كثير التطلع إلى معرفة آراء الناس فيه... وكان شغوفاً بالحرية إلى حد بعيد، ويطالب بإطلاقها إلى الحد الأقصى: حرية التفكير، وحرية الاعتقاد،و حرية القول، وحرية النشر.
وكتب فيه الشاعر العراقي فالح الحجية في كتابه الموجزفي الشعر العربي ومما قال فيه: (شعر الزهاوي يمتاز بسهولة الألفاظ واضح المعاني ثر الإنتاج وكذلك يتسم بالتأثر بالعلوم التي درسها واشتهر بالشعر الوطني والاجتماعي والفلسفة والوصف وأنشد في أغلب الفنون الشعرية).
في العهد الملكي ادرج شارع سمي باسمه يقع في الأعظمية قرب البلاط الملكي وهذا الشارع يربط بين الطريق إلى جامع الإمام الأعظم ومنطقة الوزيرية ويظم بيوتات جميلة وسكنته عائلات معروفة في بغداد.
كان الزهاوي شاعراً، وكان عالماً وفيلسوفاً، يقرأ ويحفظ كل ما تناولته يده أو من اساتذته من كتب العلم ويدونها، نصير المرأة والداعية الاجتماعية، ورجل السياسة، كان جيلنا يردد تحية العلم بشعره، وبعض من اشعاره عن الحرية والعدالة الاجتماعية، وهناك عرب قد قدموا ما كتب من شعر ونثر في طروحاتهم لنيل الشهادات العليا، انه جميل صدقي الزهاوي، لن يوجد مثله اليوم في العراق وفي الدول العربية، بشعره وفلسفة ما كتبه، ومنها معلقته الملحمية" ثورة في الجحيم" التي يتذكرها المثقفين والشعراء الى اليوم، الا يستحق ان يخلد بتمثال يليق بمكانته الخالدة، ومن الله التوفيق
سرور ميرزا محمود
468 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع