باريس: «الشرق الأوسط»:أليس من حق الكريستال، بكل ما يعكسه من ألق وجاذبية، أن يقام له معرض فريد في باريس؟ فكيف إذا جمع هذا المعرض 250 قطعة هي خلاصة 250 عاما من التاريخ الشفاف ومن مهارات الحرفيين والأسطوات الذين تعاقبوا على العمل في دار «باكاراه» الفرنسية للخزف والزجاجيات؟
في صالات «القصر الصغير»، أحد أفخم قصور الملكية البائدة في باريس، يحتفل كريستال «باكاراه» ذو الشهرة العالمية بمرور قرنين ونصف القرن على تأسيس أول ورشاته في مقاطعة اللورين الفرنسية (شمال شرقي البلاد).
وهو معرض استعادي يأخذ زائره إلى البدايات، أي يوم أعطى الملك لويس الرابع عشر موافقته، عام 1764، على تأسيس مصنع للكريستال سيصبح، مع مرور السنوات، الأرقى في العالم والمصدر الذي تستورد منه العائلات النبيلة أطقم السفرة التي تتفاخر بها في ولائمها وعلى موائدها.
وما يراه الزائر في المعرض الذي فتح أبوابه للزوار منتصف الشهر الحالي ويستمر حتى أوائل العام المقبل، ليس مجرد أطباق ومزهريات وثريات تبهر النظر، بل تاريخ ممتد من الثقافة والجمال وإتقان الصنعة المتوارثة من جيل لجيل. فلكل قطعة معروضة حكاية. ولكل التماعة ذكرى. وهي حكايات وذكريات تستدعي الفضول لأنها ترتبط بأسماء ملوك وأميرات شهيرات كان الترف طبعا لديهم. وبهذا، فإن «باكاراه»، الذي أخذ اسمه من البلدة الصغيرة التي احتضنت مصنعه الأول، هو اليوم عنوان للتفوق والذوق الرفيع.
تستقبلك في مدخل المعرض مائدة منصوبة بكامل عدّتها، كأنها جاهزة لجلوس المدعوين. وتكفي رؤية المزهريات العامرة بالزنابق، والأطباق التي يستقر أصغرها في قلب أكبرها، وصفوف الأقداح الرقيقة المنقوشة حتى ليخيل إليك أنك تسمع تلك الموسيقى الناعمة لرنين الكريستال عند قرع الأنخاب، وهمسات الآكلين وضحكاتهم وهمهماتهم المعبرة عن الاستحسان والشهية لأطايب الطعام. إن القطع الموزعة بنظام دقيق على المائدة ذات المفرش الأبيض جاءت من مزادات عالمية بيعت فيها مقتنيات عائلات شهيرة؛ فالدار تعيد تجميع إرثها القديم وتحفظه من التبدد وتودعه خزائنها الحافظة للتاريخ.
يدور المعرض حول 5 موضوعات كبرى؛ الأول حول «زجاج هاركور»، وهو تلك القطع الرائعة الصنع التي تحمل الأحرف الأولى للعائلة الملكية الفرنسية. لقد صنعت بناء على طلب الملك لويس فيليب عام 1841، وفيما بعد كتب مؤرخو الصناعات الرفيعة أن «أُسطورة قد رأت النور في ذلك اليوم». وهي أُسطورة بالفعل لأن موائد في قصور عالمية عمدت إلى تبنيها، مثل مائدة نابليون الثالث، والقصر الملكي في المغرب، والبابا يوحنا بولس الثاني، وملكة سيام. وبحسب دليل المعرض فإن هذا الطراز من «خزف هاركور» ظل مطلوبا لجمالياته، وأيضا لأنه عابر للموضات وتقلبات الأذواق.
الموضوع الثاني هو القطع الملونة؛ فقد بدأ كريستال «باكاراه» باعتماد الألوان في صناعته مند عام 1839، وهي انعطافة مهمة في تاريخ الدار تجلت في سيطرة صانعيها على تقنيات الكريستال المبطن بالألوان التي صارت ميزة تتفوق بها على المصانع الأخرى. وما زالت تلك التقنية مستعملة حتى اليوم، ويجري تطبيقها على القطع البالغة التوشيح، منها ابتكارات الفنان إيتوري سوتساس التي يقدم المعرض نماذج منها. إن انعكاسات الأضواء على تلك القطع تجعلها تبرق مثل الألعاب النارية أو الانفجارات الملونة المتوالدة إلى ما لا نهاية.
موضوع باذخ آخر يدعو المعرض زواره إلى استكشافه، وهو ما يسمى «الأحمر المذهّب». وتأتي قوة هذه المادة من الجمع بين الكريستال الشفاف ومسحوق الذهب من عيار 24 قيراطا، وهي مزاوجة فريدة تنتج لونا قرمزيا متدرجا ومتوهجا حسب الرغبة. إن أقصى درجاتها تتمثل في الأحمر الياقوتي، ومنه صنعت المزهريتان الفخمتان «سيمون»، اللتان عرضتا لأول مرة في المعرض الكوني الذي أُقيم في باريس، عام 1867.
الموضوع الأخير هو موهبة المهارة؛ فالأسطوات العاملون لدى «باكاراه»، وكذلك تلاميذهم المتدربون، يشتغلون دائما للوصول إلى مشارف الكمال. ولا يكفي الذوق السليم لتحقيق ذلك، بل الأناقة في حركة الأنامل، والرهافة في الابتكار. إنها مهارات تعكس الإرث الفذ الذي وصل إليهم عبر قرون من التصميم والتجريب والإتقان؛ فالمهنة تحتاج لعدة تخصصات: فهناك من ينفخ في الزجاج، ومن يقطعه، ومن ينقش عليه، ومن يُذهّبه، ومن يصقله. وكل منهم يضع نصب عينيه أنه سليل حقب من الإبداع. «إن كل قارورة، وكل مزهرية، وكل قدح، وكل ثريا، هي وعد بالجمال الأقصى وبتجربة الحياة وبالرغبة في المشاركة»، كما جاء في دليل المعرض.
وهنا، لا بد من التذكير بأن مصنع «باكاراه» كان قد تعرض لحريق جزئي، في صيف 2010، ثم انبعثت الأسطورة من رمادها وواصلت بث الجمال على الموائد الباذخة، لمن استطاع، أو لمتعة الفرجة، على الأقل.
1094 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع