قضية حيدر حنون تظهر صعوبة محاربة الفساد في العراق بسبب ضلوع جهات وازنة في ممارسته تتجاوز سلطاتهم سلطات رئيس الوزراء نفسه.
العرب:بغداد- أعلن في العراق عن إزاحة القاضي حيدر حنون من منصبه رئيسا لهيئة النزاهة المكلفة بمحاربة الفساد، الأمر الذي مثّل خلطا لأوراق الجهود المبذولة لمكافحة الظاهرة التي استشرت وتغوّلت في البلاد وتحولّت إلى عملية نهب واسع النطاق للموارد الكبيرة المتأتية للدولة من قطاع النفط ومختلف القطاعات الأخرى، وأصبحت عائقا أمام الاستثمار والتنمية وتحسين الأوضاع الاجتماعية والخدمية للسكّان.
وأُرجعت إزاحة حنون من رئاسة الهيئة إلى طلبه الاستقالة من المنصب، لكنّ جهات عراقية مطّلعة على الملف قالت إنّ ذلك جاء بمثابة نهاية طبيعية لمسار من الضغوط الشديدة التي تعرّض لها خلال الفترة الأخيرة ضمن تطورات ما يعرف بقضية سرقة القرن والتي شهدت منعطفات صادمة.
وتتعلقّ القضية باختلاس ما يصل إلى 2.5 مليار دولار من أموال الأمانات الضريبية وكان قد قبض على المتهم الرئيسي فيها نور زهير ثم أطلق سراحه وسمح له بالسفر خارج البلاد، ما جعل الاتهامات في القضية تتوسّع لتشمل سياسيين يبدو أنّهم عملوا على عرقلة البت في القضية عبر خلط أوراقها.
ثم ما لبثت القضية أن تحوّلت إلى فضيحة للقضاء العراقي نفسه والمؤتمن على محاربة الفساد ومعاقبة الضالعين فيه، وذلك عندما ظهر حنون متهما جهات في السلطة القضائية بالضغط لعرقلة ملاحقة زهير ومعاقبته واسترداد الأموال التي يُتّهم بنهبها.
وقالت وسائل إعلام عراقية إنّ رئيس الوزراء محمد شياع السوداني وافق على إعفاء حنون من رئاسة هيئة النزاهة بناء على طلبه.
ويمثّل تعثّر محاربة الفساد إساءة لصورة رئيس الوزراء نفسه الذي سعى لأن يكون عهده على رأس الحكومة مختلفا عن عهود الذين سبقوه منذ نحو عقدين واستشرى الفساد بشكل كبير خلال فترات حكمهم.
وتظهر قضية حنون صعوبة محاربة الفساد في العراق بسبب ضلوع جهات وازنة في ممارسته من رؤساء أحزاب وقادة ميليشيات نافذين في الدولة العراقية وتتجاوز سلطاتهم سلطات رئيس الوزراء نفسه.
ونقلت وكالة شفق نيوز عن مصدر قوله إنّ قبول استقالة حنون جاء خلال جلسة مجلس الوزراء المنعقدة مساء الثلاثاء، حيث صوّت المجلس على تعيين حنون مستشارا في وزارة العدل.
وكان قد أعلن قبل أيام عن صدور مذكرة قبض ثانية بحق رئيس هيئة النزاهة الاتحادية بالوكالة بعد تأكيد تطابق صوته مع تسريبات تتعلق بتقاضيه رشوة.
وقبل ذلك أصدر القضاء العراقي أمر قبض بحق حنون لعدم حضوره لجلسات المحكمة المتعلقة بالتسجيلات الصوتية، رغم تلقيه بلاغات متعددة.
وبدأت متاعب القاضي مع تصريحات أدلى بها خلال مؤتمر صحفي عقده في أربيل مركز إقليم كردستان العراق واتّهم فيها زميله القاضي ضياء جعفر بالتلاعب في قضية سرقة القرن التي قال إنّ نطاقها يتجاوز بكثير الأمانات الضريبية وإنّ حجم الأموال المسروقة يفوق بكثير المبلغ المعلن عنه، ملمّحا إلى محاولات للتستّر على الجوانب الأخطر في القضية وعلى المتورّطين الحقيقيين فيها والذين قد لا يكون رجل الأعمال سوى مجرّد “عربة” لنقل الأموال التي استولوا عليها.
وينتمي حنون نفسه لسلك القضاء حيث عمل قبل أن يرأس هيئة النزاهة المستقلة إداريا وماليا والخاضعة لرقابة البرلمان رئيسا لمحكمة الاستئناف بمحافظة ميسان جنوبي العراق، كما حظي بعضوية مجلس القضاء الأعلى.
ولم تكن ردود فعل السياسيين على تصريحات رئيس الهيئة، بدورها، بعيدة عند التداخل بين القضاء والسياسة في العراق حيث سارع عدد من الوجوه السياسية إلى التموقع إلى جانب حنون أو ضدّه بحسب توجهاتهم ومصالحهم.
ولم يتأخر رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي عن الإدلاء بدلوه في القضية من موقع المدافع عن القضاء وسمعته، وهو المعروف أصلا بعلاقاته القوية بكبار رموز المؤسسة القضائية والتي يقول مطلّعون على الشأن العراقي إن تلك العلاقات تمثّل إحدى نقاط قوّته التي مكنته من الاحتفاظ بمكانته في المشهد السياسي وبنفوذه داخل أجهزة الدولة.
وحذّر المالكي الذي يتزعم ائتلاف دولة القانون “من أن التجاوز على القضاء سيكون له تداعيات أخطر من الإرهاب على النظام السياسي”.
ولم يكن علي الفتلاوي القيادي في تحالف الفتح الممثل السياسي لميلشيات الحشد الشعبي أقل وضوحا في التمترس ضدّ رئيس هيئة النزاهة موجها نقده للطريقة التي ظهر بها في مؤتمره الصحفي بأربيل بغض النظر عن مدى صحة الاتهامات التي وجهها خلاله.
وقال الفتلاوي لوسائل إعلام محلية إنّ “ضرب هرمين أساسيين في الدولة؛ هيئة النزاهة والقضاء يجب أن يكون بموقف حقيقي وبأدلة رسمية دون اللجوؤ إلى وسائل الإعلام “، داعيا “الحكومة والبرلمان إلى اتخاذ موقف جدي وإجراءات حقيقية تجاه أي مسمى”.
وقال حنون في المؤتمر المذكور إنّ زهير المتهم الرئيسي بسرقة أموال الأمانات الضريبية قام بتزوير 114 صكا ماليا، وعليه أن يعاقب بـ114 حكما، مؤكّدا أن جريمته تشمل أيضا الاستيلاء على أرض تابعة للدولة في شط العرب جنوبي العراق.
ووجه رئيس هيئة النزاهة اتّهاما مباشرا للقاضي ضياء جعفر الذي يتولى محاكمة زهير، قائلا إنّ جعفر “يلاحقني وأصدر أمر إلقاء قبض بحقي، مع العلم بأن القضية كانت في البصرة، ونقلت إلى بغداد لدى القاضي جعفر، لكن الملفات اختفت عنده”.
كما أكّد استناده إلى “معلومات موثقة بالأدلة، واصفا نور زهير بأنّه “عبارة عن العربة التي حُملت فيها الأموال”.
ولم تخل تلك التصريحات من سند واقعي أقلّه أن زهير على الرغم من خطورة القضية المتعلقة به وحجم الأموال المتهم باختلاسها أطلق سراحه وسمح له بالمغادرة إلى خارج البلاد قبل أن تُحسم القضية وتُسترد الأموال ويعاقب الجناة. وكان من أصدر قرار الإفراج عنه بكفالة هو القاضي جعفر.
ونفى رئيس الهيئة التهم الموجّهة إليه بالحصول على أراض دون وجه قانوني مبينا أنّ “القضاة والوزراء تسلموا قطع أرض بمساحات 600 متر مربع من الحكومة السابقة (برئاسة مصطفى الكاظمي) لضمان الولاء”.
وكان حنون على درجة عالية من التشنج عندما قال إنّ “شخصا بغيضا وبائسا سرق فيديو من هاتف أحد القضاة وأراد ابتزازي به”، في إشارة إلى تسريب صوتي تداولته منصات رقمية قالت إنه لحنون وهو يتهم قضاة بالتستر على سرقة القرن.
وبنفس الدرجة من التوتر قال حنون إنّه يفضّل أن “يودع السجن بشرف ولا يتستر على المتهمين في سرقة القرن”، واصفا الهيئة التي يرأسها بالمستضعفة، ومضيفا “لا يجوز للقاضي ضياء جعفر استخدام سلطته ضدنا”.
وبدا الرجل واثقا من صحة موقفه قائلا إنّ “التقصير في قضية نور زهير أمر بيني وبين القاضي جعفر، وأطالب مجلس النواب باستجواب كلينا في جلسة علنية”.
كما طالب نواب المجلس بسؤاله “لماذا فُتحت قضية واحدة فقط بحق زهير رغم وجود جرائم أخرى”.
ومثلت تلك التصريحات بداية فورة جدل سياسي وإعلامي حادّ في العراق قاد إلى مزيد تسليط الضوء على قضية السرقة الضخمة، دون أن يعني ذلك بالضرورة حسمها بالطريقة الملائمة وإنصاف الدولة من المعتدين على أموالها، إذ أنّ للقائمين على النظام الحالي في العراق تجارب كبيرة سابقة في لملمة القضايا على نحو يبقيها بعيدا عن ساحتهم، وإن تطلب الأمر التضحية برؤوس صغيرة وتقديمها أكباش فداء لحيتان الفساد الأكبر والأوسع نفوذا.
908 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع