
قلم باندان
حين يُدار الوعي بالنيابة: المسايرة تتحوّل إلى هيمنة رمزية
الوعي بمسار الرموز والخطابات هو الأساس لفهم الفرق بين الاحترام والتماهي، وبين العقيدة والتوظيف السياسي. وحين يغيب هذا الإدراك، تتحوّل المسايرة إلى ممارسة تكرس الهيمنة الرمزية دون شعور، وتتسع مساحة الخطأ، وتزداد قدرة هذه الهيمنة على التسلل.
ان أخطر ما قد يحدث للمجتمعات أن تُمارَس عليها الهيمنة باسم رموز لا تفهمها، أو أن تُساق خارج سياقاتها، بل والأدهى أن يحدث كل ذلك في ظل قناعة عامة بأن ما يجري «طبيعي» أو «واجب» أو «احترام للآخر». حين يُعطّل السؤال ويُستبدل الفهم بالمجاملة، يصبح الوعي نفسه مجالًا للإدارة، وتتبدّل محاور النقاش؛ فلا يعود الأمر نقاشًا حول الطائفية أو الهوية، بل حول قدرة العقل الجمعي على الإدراك، والتمييز، ورفض أن يُفكّر عنه بالنيابة.
ومع ذلك، ليست الطائفية أخطر ما يواجه المجتمعات المتعدّدة، بل غياب الوعي حين تتحوّل الطائفية إلى خطاب مستبطَن يُمارَس بلا إدراك، ويُعاد إنتاجه تحت لافتات دينية أو مدنية، فيما هو في جوهره فعلُ هيمنة رمزية لا أكثر. فالوعي ليس موقفًا عاطفيًا، ولا إعلان نوايا حسنة، بل قدرة على تمييز السياق من الرمز، والعقيدة من التوظيف، والدين من تديينه سياسيًا. وحين يغيب هذا التمييز، تتحوّل المسايرة إلى تواطؤ غير معلن، ويتحوّل الصمت إلى مشاركة فعلية في ترسيخ خطاب لا يُفهم ولا يُراجَع.
كثيرون اليوم من يسايرون المدّ الطائفي ليس إيمانًا بمقولاته أو اقتناعًا بأسسه، بل لأنهم لم يُدرّبوا على مساءلة المعنى أو تفكيك الخطاب، فصاروا أدوات لنقل رموز لا يدركون أبعادها ولا تناقضاتها مع منظوماتهم العقدية والتاريخية. وهنا تتبدّى المفارقة الأخطر: أن يُسوَّق خطاب طائفي لشرائح لا تنتمي إليه عقديًا، ويجري قبوله لا بوصفه «آخرًا» يجب فهمه، بل بوصفه «ذاتًا» يُفترض الانتماء إليها. وهكذا، لا يُمحى التنوّع بالقسر، بل يُذوَّب بالالتباس.
وتجسّد هذه الممارسات في الواقع الملموس، كما يظهر في أبرز تمثّلات الخلل الطقسي، مثل تعاطي بعض الحكومات المحلية في مناطق الوسط العراقي مع مناسبات ذات حمولة طائفية صريحة، أُلبست ثوبًا دينيًا عامًا، حتى غدا الإعلان عن العُطل الرسمية في «ذكرى استشهاد الإمام فلان» فعلًا إداريًا اعتياديًا، لا يُطرح بشأنه أي سؤال معرفي أو عقدي.
غير أن السؤال الغائب — عمدًا أو جهلًا — هو: هل يُدرك من يتبنّى هذا الخطاب أن مصطلح الاستشهاد، في السياق العقدي الذي ينتمي إليه شخصيًا، ليس توصيفًا بريئًا؟ وهل ثمة وعي بأن المفهوم ذاته يحمل إشكالًا عقائديا، بل يُعدّ — في بعض القراءات — قدحًا في مقامات لها منزلة دينية لا يُفترض المساس بها؟
ما يحدث هنا في مناطق الوسط ليس احترامًا لمشاعر الآخرين، كما يُروَّج، بل تخلٍّ عن المعنى، واستبدال الفهم بالمجاملة، والوعي بالإذعان. فالاحترام الحقيقي لا يكون بتبنّي خطاب الآخر بلا إدراك، بل بفهمه ضمن حدوده، من دون تحويله إلى مرجعية جامعة قسرًا.
أخطر ما في هذه الممارسات أنها تُنتج وعيًا زائفًا؛ وعيًا يظن نفسه متسامحًا، فيما هو في الواقع مُفرِّط بحدوده الرمزية ومتخلٍّ عن أدواته النقدية. وبهذا المعنى، لا تُختَرق العقائد بالقوة، بل تُفرَّغ من الداخل حين يتنازل أصحابها عن حقهم في السؤال والفهم.
السلطة التي تُعلن العُطل باسم رموز لا تنتمي إلى بنيتها العقدية لا تفعل ذلك بدافع الإيمان، بل بدافع الاستيعاب السياسي للرمز وتحويله إلى أداة إدارة اجتماعية. وحين تُساير النخب هذه الممارسات بلا مساءلة، فإنها لا تحمي السلم الأهلي، بل تُسهم في تطبيع الهيمنة الرمزية، وتكريس الخلط بين الديني والسياسي، وبين الاحترام والتماهي.
ان الوعي، في جوهره، فعل مقاومة معرفية؛ مقاومة للالتباس، وللشعارات الجاهزة، وللرموز حين تُنزَع من سياقاتها وتُزرَع في تربة لا تنتمي إليها. وما لم يُستعاد هذا الوعي، سيظل المجتمع يكرّر طقوسًا لا يفهم انها تسيء اليه باساءتها لرمزياته، ويُقدّس مفاهيم لا يملك أدوات تفسيرها، ويُدافع عن خطابات تناقض نظامه الفكري والعقدي.
وفي النهاية، لا تُقاس المجتمعات بما تسايره، بل بما تفهمه، ولا يُقاس التسامح بكمّ التنازلات الرمزية، بل بقدرة الوعي على حفظ الفوارق والخصوصيات من دون ذوبان أو عداء.

1063 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع