
رووداو ديجيتال:لم يكن من باب المصادفة ان التقي في بغداد بطلاب في الجامعات العراقية يعملون كسائقي أجرة بسياراتهم الخاصة وباعة متجولين فوق احدى ارصفة منطقة الحارثية بجانب الكرخ من بغداد، بينما يواصلون دراستهم على حسابهم الخاص.
مهنة الصحافة علمتني ومنذ سنوات طويلة ان اتحدث مع سائقي سيارات الأجرة لمعرفة نبض المدينة والحياة التي يعيشون فيها كونهم يلتقون يومياً باصناف وفئات مختلفة من الناس، هذا لا يحدث في العراق فقط بل في غالبية مدن العالم.
لكن سائق سيارة الاجرة في العراق ينفجر في الحديث منذ اول سؤال وهو يشكو ويوضح معاناته ومعاناة الآخرين، والملاحظ في بغداد اليوم ازدياد عدد السواق الذين يعملون كسائقي سيارات إجرة دون تحويل سياراتهم الى سيارة تكسي، وبعض هؤلاء الذين تحدثت رووداو معهم، كانوا من طلبة الجامعات الاهلية الذين لا يرون بصيص امل في المستقبل القريب لاوضاعهم الحياتية.
مصطفى القيسي، طالب في السنة الثالثة في جامعة التراث الاهلية، يعمل سائق اجرة بسيارة والده الخاصة "لأن راتب والدي التقاعدي لا يكفينا على الاطلاق، انا اوفق بين دوامي في الجامعة، ادرس ادارة الاعمال، واخي الاصغر مني طالب في السنة الاولى بذات الجامعة ويعمل في مطعم بمنطقة المنصور"، حسبما اوضح، مضيفاً: "نحاول ان نسدد تكاليف دراستنا ونساهم في نفقات البيت، حتى والدي رغم كبر سنه الا انه يعمل في مكتب للعقارات بمنطقة سكننا بالعامرية".
نسأله عن مدى قانونية العمل بسيارة خاصة كسيارة اجرة؟ يبتسم بسخرية ويجيب: "اين هو القانون في هذا البلد واين هي الامور القانونية في بلد غني يسرق المسؤولين فيه كل يوم اموال جيلنا والاجيال القادمة. احيانا كثيرة اتساءل ما الفائدة من اكمال دراستي الجامعية واي مستقبل ينتظرنا في ظل حكومات لم تترك لنا اية فرصة مستقبلا، لكن والدي يصر على ان ننهي دراستنا الجامعية اسوة به وبجيله".
ويضيف: "غالبية الشباب والموظفين اليوم يعملون بسياراتهم الشخصية كتكسي لان رواتبهم لا تكفي لسد احتياجاتهم اليومية، والناس يفضلوننا على سيارات التكسي كوننا لا نبالغ في الاجور وسياراتنا نظيفة".
الشاب سجاد محسن، هو الآخر سائق اجرة بسيارته الشخصية، اقلني من منطقة الكرادة داخل، بجانب الرصافة، التي تبقى مزدحمة حتى ساعات متاخرة من الليل. عندما سألته عن الاجرة لايصالي الى منطقة المنصور، بجانب الكرخ، قال (بكيفك) كما تريد، استفسرت منه ان كانت سياقة سيارة الاجرة مهنته الاصلية ام انه يعمل بمهنة اخرى، فاجاب بانه طالب في السنة الاخيرة بهندسة البرامجيات بجامعة آشور الاهلية.
ويضيف أن "اقساط الجامعة عالية جداً وانا اساعد والدي لتسديدها من خلال العمل بسيارتي هذه، حيث اعمل يومياً ساعتين في الصباح لنقل الموظفات الى عملهن ومن ثم اعادتهن بعد ذلك الى بيوتهن وهي متقاربة، وفي المساء اعمل ما بين 3 الى 4 ساعات."
قلت له: "لكن السياقة تأخذ الكثير من جهدك ووقتك، كيف توفق بينها وبين الدراسة؟". رد قائلاً: "انا في السنة الاخيرة والبرامجيات اختصاصي اصلا والدراسة ليست صعبة، واجتهد كي اوفق بين سياقة السيارة والدراسة".
وعن طموحاته بعد الحصول على شهادته الجامعية، قال: "أنا ابعدت عن تفكيري اي امل او طموح بالعمل الوظيفي الحكومي لاننا نرى يومياً جيوشاً من الخريجين في مختلف الاختصاصات بلا عمل، فالوظائف مخصصة لابناء واقارب المسؤولين السياسيين ومن ينتمي للاحزاب السياسية، لهذا انا وثلاثة من اصدقائي خططنا ان نؤسس بعد تخرجنا مكتباً وورشة للبرامجيات وتصليح اجهزة الكمبيوتر وانشاء مواقع الكترونية للشركات، ونأمل بالحصول على قروض من بعض البنوك لهذا الغرض".
على رصيف في شارع الكندي بمنطقة الحارثية، بجانب الكرخ، يفترش شاب في بداية العشرينيات من عمره، ضياء أحمد، (بسطية)، يعرض فيها بعض العطور النسائية والرجالية، اخذني الفضول الصحفي اليه لاسأله اولاً عن اسعار العطور، ثم سألته عن تحصيله العلمي، اجاب: "درست الجغرافية في جامعة بغداد لسنتين ثم أجلت هذا العام لاعاود دراستي السنة القادمة بسبب مرض والدي لاعيل عائلتي".
ويضيف: "منذ ان كنت في المدرسة الثانوية وانا ابيع العطور على الرصيف، كنت في منطقة البياع، بجانب الكرخ، حيث نقيم، وحتى في الجامعة كنت ابيع العطور النسائية للطالبات باسعار مناسبة، والآن انتقلت الى الحارثية لكثرة المراجعين القادمين من مناطق مختلفة من بغداد وبقية المحافظات على العيادات الطبية، ووجدت اقبالاً افضل على شراء العطور".
يأمل ضياء انهاء دراسته ليجد فرصة عمل كمدرس، لكنه غير متفائل بهذا الامل، موضحاً أن "غالبية من خريجي الجامعات الحكومية والاهلية بلا عمل وانا أمني نفسي بأن الاوضاع قد تتغير عندما انهي دراستي الجامعية بعد عامين. مجرد امنية".
يتطلع الى شارع الكندي في هذه المنطقة التي ازدحمت بعد 2003 بسكن غالبية من المسؤولين السياسيين الذين وجدوها مناسبة لاقامتهم، وقال: "هؤلاء المسؤولين يمرون من هذا الشارع كل يوم وهم يشاهدون الناس الفقراء الذين يأتون طلباً للعلاج ولا يتوقفون للسؤال عن احوالهم، بينما اولادهم يقودون افخم السيارات الغالية، هؤلاء هم من يتحكم بمصيري ومصير بقية العراقيين فكيف لي ان اؤمن بمستقبل مستقر لي ولبقية أبناء جيلي؟".

1065 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع