الجواهري يتوسط سميح القاسم ومحمود درويش
عبدالجبار العتابي/بغداد: رحل قبل ايام الشاعر الفلسطيني الكبير سميح القاسم الذي ترك ارثا شعريا مجيدا يجعل القلوب تتطلع اليه بفخر واعتزاز، لكن هناك ذكريات تظل ترفرف راياتها فوق مدارات الازمنة ومنها ما للشاعر سميح مع شاعر العرب الاكبر محمد مهدي الجواهري.
للصورة مبتدأ يمتد الى سنوات بعيدة في مكان بعيد، لكنها ظلت معلقة في افق ذاكرة الادب والثقافة، تحمل تفاصيلها والمحبة التي كبرت و ازدهرت وتحولت الى غيوم تمطر اشواقا وحنينا لاسيما اذا كانت الذكريات بين شاعرين كبيرين لهما مكانة مميزة في عالم الادب والثقافة العربية.
فمن ينظر الى الصورة التي تجمع الشعراء الجواهري وسميح القاسم ومحمود درويش لابد ان يراوده الفضول ليعرف حكايتها، ولابد ان تتصاعد من رأسه التساؤلات حول: كيف التقى الثلاثة واين ومتى؟ واي علاقة تربطهم واي تاريخ ممتد استطاع ان يضمهم، ولمناسبة رحيل سيح القاسم فقد كانت الصورة حاضرة والتساؤلات تتجدد، وهنا حاولنا البحث في الاعماق لتوضيح ما تضمنته هذه اللقطة من خلال ما حفظته ذاكرة مدير مركز الجواهري في براغ، الكاتب رواء الجصاني، وهو ابن اخت الشاعر الحواهري، الذي حاولنا ايضا شحذ ذاكرته للتعمق في امتدادات العلاقة بين الجواهري وسميح القاسم.
* ما الذي تتذكره عن هذه الصورة التي تجمع الشعراء الثلاثة؟
- التقطت في العاصمة البلغارية - صوفيا 1968 في ايام المهرجان العالمي للشبيبة والطلبة، وكان الجواهري ضيف شرف على المهرجان، الى جانب شخصيات عالمية بارزة، اما سميح القاسم ومحمود درويش فكانا شابين ضمن المشاركة الفلسطينية في المهرجان، وحكى لي الجواهري حول الصورة قائلا: انهما داهماني، صباحا، في استراحتي باحد فنادق صوفيا الكبري، وقبل ان افطر وارتدي ملابسى، ليأخذا معي صورة تذكارية، وقال سميح بخصوصها: انها - اي الصورة - تساوي عندي المشاركة في المهرجان، كلها،كان سميح اكثر من مغرم بالجواهري... وله حول ذلك اكثر من تصريح.
* هل كانت هنالك احاديث معينة؟
- كان اللقاء خاطفا... فقط للسلام على الجواهري والتعبير عن الاعتزاز والمحبة، ولكنهما التقيا في براغ عام 1973، حينما زارها القاسم،ويبدو من خلال الحكاية التي حصلت معهما ان صداقة حميمة مدت اواصرها بينهما، فقد جمعتهما سهرة في مغنى "كاسكادا" الشهيروسط العاصمة التشيكية، وتلك دليل مودة متميزة من الجواهري. وحصل رهان بين الشاعرين على الفوز بمراقصة مطربة تشيكية فاتنة في ذلكم المغنى، وقال الجواهري قصيدة فيها عنوانها (يا بنت شيطان)، من ابياتها:
يا بنت شيطان كفاه ان يكون اباك فخرا
كان التقربُ منه كفرا، وارى التغرب عنك كفرا
ما اوحش المغنى فان رقصت منه فما احرّا
صيرته انساً، وكانت سوحه وحشاً تضرى
وابحت "سرتك" التي ضاقت بما استودعت سرا
لم استطع صبرا، وهل غير الحمار يطيق صبرا..
فما كان من سميح القاسم، ابن الثلاثين عاماً، الا ان يعترف بفوز الجواهري - ابن السبعين في حينها – بذلك الرهان، فردّ عليه قائلاً:
مهلاً فديت "ابا الفرات" فانت بالحسناء احرى
اغريتُها شعراً.. واغرتها شؤون منك اخرى...
سحر، لعمري، ما صنعت، وكان بعض القول سحرا
* هل جرى بينك وبينه حديث ما؟
- جرى بيني وسميح القاسم اتصال هاتفي عام 1998، عشية الاستعداد لاقامة سنوية على رحيل الجواهري، في براغ، وقد وعد الشاعر البارع بالمشاركة، ولكن العجالة، والتزاماته بمهرجان في المغرب، حال دون ذلك.
*كيف وجدت سميح انسانا وشاعرا؟
- سميح الشاعر والانسان...متشابكان، لا يمكن ان يكون الشاعر الا انساناً بحسب الجواهري الخالد. كان لا يستطيع ان يقبل "شاعرأ" دون سمات انسانية.. ومن الشواهد على تعلق سميح بالجواهري شعرا ومواقف وطنية، انه زارعائلة الجواهري، الراحل، في دمشق، وقد كان بزيارة استثنائية الى سوريا.. وقد وقف امام صورة الشاعر الخالد، معبرا عن التقدير والاعجاب والتلمذة.
*هل كانت العلاقة بينهما عابرة ام ذات ابعاد عميقة؟
- ان سميح االقاسم كان مغرما بالجواهري وكان يذكره كثيرا في الكثير من الندوات والمهرجانات، ولطالما كان القاسم يُسأل عن علاقته بالجواهري، فقال مرة: أبو الفرات محمد مهدي الجواهري أخي وشيخي، هناك شبه بين تجربة التعارف مع نجيب محفوظ ومعه لأنه أيضا كتبت له قطعة في سرديتي الأولى، ربما في العام 1964 أو 1963 من القرن الماضي وأقول له فيها: "أنا جعفر في أرض أخرى".. وجعفر هو أخو الجواهري الذي استشهد في مظاهرة الجسر في بغداد وحين التقينا بعد ذلك بسنوات طويلة في عام 1968 في صوفيا العاصمة البلغارية عانقني وهو يقول أهلا يا خوي يا جعفر..، ونشأت صداقة ومساجلات شعرية، ودعابات وأمسيات مشتركة.
*هل تتذكر شيئا من هذه؟
- اعترف سميح القاسم ان تلك المساجلات والدعابات الشعرية والامسيات.. طويلة، لكن قال: أذكر ما هو أجمل منها، دعينا إلى مهرجان الطلبة العراقيين في أوروبا آنذاك كان المهرجان في مدينة روستوك الألمانية على بحر البلطيق ودعينا معا فالتقيته في براغ وكان معتلا مريضا، قال ماذا ستقرأ؟ قلت أنا مجهز لك مفاجأة، وماذا ستقرأ أنت؟ قال أنا أيضا لدي مفاجأة، أنا سأثبت للجمهور أن هذا الشعر الحديث الذي تسمونه شعرا حديثا ما له قيمة وسيزول وأنني المتنبي رغما عنكم وإلى آخره، واستحلفني أن أقرأ قصيدتي قبل المهرجان، قلت سأقرأ لكن ستبطل مفاجأتي، قال اقرأ وأجرك على الله، قرأت القصيدة، اسمها "شهداء الحب"، كان العراق غارقا في الصراعات الداخلية والمذابح والاضطرابات.
* هل ثمة حكايات اخرى بينهما؟
- بالطبع،فقد سرد سميح القاسم في امسية له في منتدى شومان الثقافي حادثة لقائه مع الجواهري الذي صادقه في أوروبا وعدّه شيخه، وقال انه وفي أمسية مشتركة سأله عما سيقرأ فقال الجواهري بأنه سيحيي العراق ودجلة وبغداد، يقول سميح ان ذلك كان عندما كانت بغداد غارقة في دم صراعات الداخلية الغريبة والمستنكرة، فقلت له إنني سأعارضك فقال لي: افعل، فقرأ الجواهري رائعته:
حييت سفحك عن بعد فحييني
يا دجلة الخير يا أم البساتين
فقلت:
صادٍ حفنة ري منك تكفيني
فجد نميت لأجواد مياميني
وليس بي ظمأ للدم إن دمي
كما علمت لو استقيت يرويني
ثم قرأ القاسم قصيدة أهداها للراحل الجواهري، جاء في مطلعها:
بايعت عيدك واستثنيت أعيادي
مستشرفاً غد أبنائي واحفادي
* الى اي تاريخ او مدى تمتد علاقة الشاعرين كما تعتقد؟
- كما قلت لك ان سميح مغرم بالجواهري قبل ان يتعرف عليه شخصيا كما يبدو، والدليل على عمق علاقة المحبة التي يكنها الشاعر سميح القاسم للشاعر الجواهري انه ذكره في قصيدة له تحمل عنوان (ارم) منشورة عام 1965، كما قال احد الباحثين في دراسة له عن القصيدة: (ﻭيبرز ﺼﻭﺕ ﺍﻟﺠﻭﺍﻫﺭﻱ ﻟﻴﻤﺜل ﻋﻨﺼﺭ ﺍﻟﺘﺤﺩﻱ، ﻭﺍﻟﻤﺠﺎﺒﻬﺔ، ﻭﺍﻟﻤﺤﺎﻓﻅﺔ ﻋﻠﻰ ﺸﺭﻑ ﺍﻟﻜﻠﻤﺔ ﻭﺭﻓﺽ ﺍﻟﺘﺩﺠﻴﻥ ﺍﻟﺴﻴﺎﺴﻲ، ﻭﻴﺠﻲﺀ ﺍﻟﺤﻭﺍﺭ ﺒﻴﻥ ﺴﻤﻴﺢ ﺍﻟﻘﺎﺴﻡ ﻭﺍﻟﺠﻭﺍﻫﺭﻱ ﻓﻲ ﺼﻭﺭﺓ ﺸﻌﺭﻴﺔ ﺘﻘﻠﻴﺩﻴﺔ ﻴﻨﺴﺠﻡ ﻤﻊ ﺍﻟﻤﻨﻬﺞ ﺍﻟﺸﻌﺭﻱ ﺍﻟﺫﻱ ﺍﺨﺘﻁﻪ ﺍﻟﺠﻭﺍﻫﺭﻱ ﻓﻲ ﺤﻴﺎﺘﻪ) حيث قال:
(ﻋﻔﻭﺍ ﻴﺎ ﻋﻤﻼﻕ ﺍﻟﻜﻠﻤﺔ
ﺇﻥ ﺸﺎﺒﺕﹾ ﺃﻟﻔﺎﻅﻲ ﻋﺠمة
عفوا.. فجراحي ﻗﺎﺘﻠﺔ
ﻭﺍﻟﻅﻠﻤﺔ، ﺘﺨﻨﻘﻨﻲ ﺍﻟﻅﻠﻤﺔ)
ﻭيؤكد الباحث ان ﺼﻭﺕ ﺍﻟﺠﻭﺍﻫﺭﻱ يصبح ﺼﻭﺕ ﺇﺭﻡ ﺍﻟﻔﺎﻀﻠﺔ، ﻴﺼﺒﺢ ﺼﻭﺘﻪ ﻨﺫﻴﺭﺍﹰ ﺒﺯﻭﺍل ﺇﺭﻡ ﺍﻵﺜﻤﺔ، ﻭﺒﺸﻴﺭﺍﹰ ﺒﻘﺩﻭﻡ ﺇﺭﻡ ﺍﻟﻔﺎﻀﻠﺔ، ﺘﺼﺒﺢ ﻜﻠﻤﺎﺘﻪ ﻨﺎﺭﺍﹰ ﻤﻠﺘﻬﺒﺔ، ﺘﺤﺭﻕ ﺁﺨﺭ ﻤﻌﺎﻗل ﺍﻟﻅﻠﻡ، ﻴﻤﺯﻕ ﻋﺘﻤﺔ ﻫﺫﻩ ﺍﻟﻤﺩﻴﻨﺔ ﺘﺼﺒﺢ ﻜﻠﻤﺎﺘﻪ ﻀﻴﺎﺀ.
720 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع