عين الناصري ظلت على بغداد باعتبارها عمارة عاطفية ناقصة
الناصري ينتمي إلى قلة من الفنانين عبر العالم تؤمن بامتزاج الفنون وتأثيراتها المتبادلة وحاجة الفنان إلى ثقافة تتجاوز أدواته المباشرة وممارسته العملية.
العرب فاروق يوسف:لا أقوى على الكتابة عن رافع الناصري كما لو أني أودّعه، من غير أن ألتقيه ثانية. الرسام العراقي الذي حظي باعتراف عالمي كان صديقي الأكثر نقاء ونبلا. لا يزال كذلك حتى اللحظة وسيبقى كذلك بعد غيابه.
كنت أشعر في كل لحظة اِلتقيه فيها أن القدر كان قد وهبني حظا عظيما في أن أكون قريبا منه. المعلم الاستثنائي الذي لا يخفي رغبته في التعلم.
كلما كنت أنصت إليه ليعلمني كنت أرى في عينيه توقا إلى الإنصات إلى ما لم يسمعه من قبل.
لم تكن ثقافته تقتصر على ما تعلمه من فنون الحرفة والخيال، وقد كان سيدها من غير منازع، بل كان في أحيان كثيرة يتخلى عن فرشاته حين يعتزل برواية في سريره أو حين يلتقط بيتا من الشعر ليهيم حبا بالكلمات التي تأسره أصواتها.
المثقف الذي يصف أحواله رسما
ينتمي الناصري إلى قلة من الفنانين عبر العالم تؤمن بامتزاج الفنون وتأثيراتها المتبادلة وحاجة الفنان إلى ثقافة تتجاوز أدواته المباشرة وممارسته العملية، فكان الناصري نموذجا فريدا من نوعه للفنان ــ المثقف الذي لا تثنيه معاصرته، وهو الدؤوب على متابعة ما يجري من تحولات فنية في العالم، عن القيام بين حين وآخر بنزهة بين صفحات التراث الأدبي العربي، مستلهما من الشعر طاقة تصويرية تصل بالكلمات إلى ذروة نغمها، حتى وصل برسومه إلى مرحلة الموسيقى، كان يقرأ بشغف عين مولعة بالتقاط الصمت بين جملتين.
تجريد ابن زيدون
قال لي ذات مرة وهو يريني واحدة من سلاسله الراكضة بين وديان الشعر “أتاح ابن زيدون فرصة ابتكار نوع غزلي من التجريد”، أطلق بعدها ضحكته التي كانت تأسرني. لم أخبره يومها أن ضربة فرشاته على قماشة اللوحة أو على الورق كانت دائما مشحونة بالغزل الذي يربك النظرات كما الخطوات. فلأننا كنا نقول لبعضنا جملا لا يمكن استعادتها لخفة وعمق ما تنطوي عليه من حساسية جمالية فقد كنا نقع في وهم المسافة بين ما قلناه وبين ما لم نقله.
كان الناصري نموذجا فريدا من نوعه للفنان المثقف الذي لا تثنيه معاصرته، وهو الدؤوب على متابعة ما يجري من تحولات فنية في العالم، عن القيام بين حين وآخر بنزهة بين صفحات التراث الأدبي العربي
كيف يمكنني أن أصفه في غيابه وأنا أشعر بقوة حضوره كلما رأيت واحدة من صوره؟ كان قد تعلم ذاتيا التصوير الفوتوغرافي فأجاد في نقل الصور التي لم تعد تفاصيلها تشغل حيّزا في خيال يده. غير أنه في السنوات الأخيرة صار يستعيد بداهته رساما يخطط لاحتواء العالم كما يراه لا كما يتخيله، كما يحضر لا كما يتم تخيله. هل فعل ذلك استجابة لهاجس المعلم وهو يلقي درسه الأخير؟
سيرة شرقية
ولد رافع الناصري عام 1940 في تكريت، غرب العراق ابنا لعائلة ذات مكانة ثقافية وهو ما جعل الطريق سالكة أمامه حين اختار دراسة الرسم في معهد الفنون الجميلة ببغداد عام 1959. وهو أيضا ما شجّعه على القيام بمغامرته الأولى حين ذهب إلى الصين عام 1963 ليدرس فن الحفر الطباعي (كرافيك).
وإذا ما كان الناصري قد ذهب إلى الصين فنانا مكتمل العدة حيث أقام معرضه الأول في هونغ كونغ سنة وصوله إلى الصين غير أنه يعترف أنّ ما تعلمه هناك هو مزيج من الحرفة وخيال النظر إلى الطبيعة.
كان خيال الطبيعة يبقيه صامتا بل كان يعذبه. تلمع عيناه حين يجري الحديث عن الطبيعة.
حين عاد إلى بغداد عيّن في معهد الفنون الجميلة ليؤسّس فرعا لدراسة فن الحفر الطباعي فيه. في العام 1969 بدأت عروضه الفنية تترى بدءا من بيروت وهو العام نفسه الذي ذهب فيه إلى لشبونة في منحة فنية من مؤسسة كولبنكيان.
استمر الناصري في تدريس الرسم إلى أن أحيل إلى التقاعد، يومها (بداية تسعينات القرن الماضي) اختار أن يغادر العراق ولم يعد إليه. درس الحفر الطباعي في جامعة اليرموك بإربد الأردنية ثم أقام مشغلا للحفر الطباعي في دارة الفنون بعمّان ثم رحل إلى البحرين ليدرّس في جامعتها. بعدها عاد إلى عمّان ليتفرغ لفنه وقد كان مرسمه صومعة العارف التي لا يرتادها إلا من اهتدوا إلى حقيقة أن الرسام حياة.
كبر الناصري وترفّعه جعلا منه الشخص الغريب الذي يأبى المشاركة في النفاق الاجتماعي على حساب الفن. نادرا ما كنت أسأله عن رأيه بفنانين كنت بحكم الصداقة أعرف رأيه بهم، غير أنني كنت أسأله رأيه بفنانين جدد كان قد رأى تجاربهم الفنية فكان يقول رأيه بصرامة وحدس المعلم.
في كتابه "رحلتي إلى الصين" يروي الناصري فصولا من الخيار الفني العذب، الذي أحيا في أعماقه غريزة الانتماء إلى الشرق. فيعترف أن ما تعلمه هناك ما كان إلا مزيجا من الحرفة وخيال النظر إلى الطبيعة
في معرضه الاستعادي الأخير الذي أقيم في المتحف الوطني الأردني يوم الحادي عشر من شهر نوفمبر عام 2013 حضر الناصري بهيّا بطلعته كما لو أنه أمير شرقي يستعيد مملكته.
همست لي صديقة سورية “ينافس جماله جمال رسومه” كان رافع يومها يودع أصدقاءه الآتين من مختلف أنحاء الأرض. مشهد لا أظنه يتكرر في تاريخ الثقافة العربية.
عينه على بغداد كي لا يرثيها
سيغفر لي القراء أني هذه المرة أهذي عاطفيا. فالرجل الذي أكتب عنه كان قد أخذ معه جزءا من حياتي وغاب. منذ أن عرفته كان رافع الناصري رساما تجريديا.
غير أنه لم يكن كذلك في الحياة. كان رجلا صعب التضاريس من جهة عفته الأخلاقية. كان اهتمامه بالتفاصيل روائيا. غفر للكثيرين غير أنه لم يغفر لمن هرولوا وراء المحتل في العام 2003. ظل العراق بالنسبة إليه الجدار الوحيد الذي لا تزال أدعيته معلقة عليه.
أغمض عينيه على بغداد حين قال لرفيقة عمره الشاعرة مي مظفر “لم أعد أرى شيئا” كانت كلماته الأخيرة دليله إلى بغداد. لقد رسم مدينته في كل أحوالها. رسمها حيّة ورسمها ميّتة، غير أنه لم يكن يطيق الحديث عن أسباب ذلك الموت لأنه لم يكن مستعدا لكي يكره. حين كتبت ذات مرة عن موت زاووكي، الرسام الصيني المقيم في باريس اتصل بي من عمّان ليقول لي “إنه أبي”. لوحاته أمامي، في ذاكرتي البصرية تؤكد أنه كان يرى كل شيء. هو الذي رأى كل شيء كما سلفه جلجامش. سيضحك الناصري لو أخبرته بنظريتي بعد غيابه. لا لأنه متواضع بل لأنه يعرف أن ينابيع الخلق لن تنضب مياهها.
لم يفارقه حس المعلم، غير أن عينه ظلت على بغداد باعتبارها عمارة عاطفية ناقصة. سيصف في رسومه شيئا من خرابها غير أنه لن يبكيها.
ضربة فرشاته على قماشة اللوحة أو على الورق كانت دائما مشحونة بالغزل الذي يربك النظرات كما الخطوات
الأول والأخير
بالنسبة إليّ فإن الكتابة عن رافع الناصري في غيابه هي نوع من الحزن. كان بالنسبة إليّ القارئ الأول. سيكون بعد غيابه القارئ الأخير.
كان صوته يلهمني المزيد من العزم. كم كان عليّ أن أستوعب فواصل الصمت بين كلماته.
كانت لاؤه تأمرني ونعمه تحلق بي في الفضاء. كان معلمي يوم قرّر أن أجلس في مواجهته وهو ممدد على السرير. كنت أسعى إلى أن أفرّ من صداقتنا بارتعاشة طير مذبوح.
في تلك اللحظة كنت أقبل في أن تكون رسام الأفق وحده. أفق حياتي وحياة العراقيين معي. غير أنك استثنيتني فكنت كما أنت الأول والأخير، في حياتي كما في حياتك وكانت مي مظفر وهي رفيقة خيالك تعرف السر الذي قرّرت أن يذهب معك.
848 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع