كتاب 'خفايا من حياة علي الوردي' للصحفي سلام الشماع يستعيد وثائق وشهادات تفند اللبس الذي شاع عن الوردي، وتفتح نافذة جديدة عما تركه من أفكار.
العرب» سلام الشماع:يبدو أن هناك الكثير من الناس يقعون تحت تأثير الإعلام، فيعدّون كل ما يسمعونه منه حقائق ليست قابلة للنقاش ولا تخضع للتزييف، ناسين أن هناك شركات إعلامية كبرى وعملاقة تقلب الأبيض إلى أسود والأسود إلى أبيض، وتحول البريء إلى مجرم لمن يدفع لها.
نشرت بعض ما سيرد في هذا المبحث من معلومات في مواقع على شبكة التواصل الاجتماعي “الفيسبوك” أو مواقع إلكترونية، فجاءت أغلب التعليقات تسبني وتشتمني، بل ذهب بعضها إلى أني كنت مكلّفا بمراقبة حركات الدكتور علي الوردي وسكناته ونقلها إلى دوائر المخابرات والأمن في النظام السابق، من دون أن يقدم أحد ما يفنّد قولي، أو يحاور ما قلته على نحو علمي هادئ.
إن التهمة الأخيرة ليست جديدة، إذ قال لي الدكتور الوردي، مرة، ونحن نمارس هوايته في التجوّل في شوارع الكاظمية وأزقّتها، إن جماعة – لم يذكر لي أسماءهم – حذّروه من أني أنقل كل ما يقول إلى (الحكومة)، وأخبرني أنه قال لهم إني منذ سنين طوال أنتقد أمامه (الحكومة) وأسخر من إجراءاتها، ولو كان ما تقولونه صحيحا لاعتقلوني منذ زمن.
إن بعض الناس يريدون منك أن تقول ما يريدون وما يظنونه هم حقيقة وإلا فأنت عدوهم، يوجهون إليك سائر أنواع السباب والاتهامات الجاهزة، على الرغم من أنهم لا يمتلكون وثائق ولا حجج ولا أدلة على ما يقولون، وأنت تمتلك ذلك كله على ما تقول.
ولكني أنصحك بأن تقول الحقيقة، كما تراها أنت وتمشي غير ملتفت إلى شيء، والتاريخ كفيل بغربلة ما قيل ويقال.
أرجو ألا تستغرب وأنت ترى الطائفيين الشيعة يحسبون الوردي على طائفتهم بعد أن هاجموه واعتبروه ترك مذهبهم وصار سنيا، ولا تندهش من وعاظ السلاطين وهم يتجملون بذكر الوردي ويدعون أن علاقات وثيقة كانت تربطهم معه بعد أن هاجموه على المنابر، كما أرجو ألا تصاب بالصدمة وأنت تجد الطائفيين السنة يشيدون باعتداله بعد أن قرروا أنه نتاج بيئة شيعية ولا يمكنه أن يغادرها ذهنيا، فالرجل أفضى إلى ربه ولم يعد باستطاعته تهديد تجاراتهم بالدين ولا دكاكينهم التي يبيعون فيها إلى السذّج والبسطاء من الناس بضاعتهم الطائفية المقيتة.
الاعتقال اليتيم
أشيع، بعد احتلال العراق في العام 2003 أن نظام الرئيس الراحل صدام حسين اعتقل عالم الاجتماع الأبرز الدكتور علي الوردي وحبسه، وروج لمثل هذا كثيرون، من بينهم من تسبق اسمه صفة “برفيسور” أو “دكتور” أو “باحث”، ومثل هؤلاء يجب أن يقدموا لنا إثباتات على ادعاءاتهم، وهم يشيعون أن ذلك النظام، وبأمر من الرجل الأول فيه، ضيّق على الدكتور الوردي وضايقه ومنعه من الكتابة ومنع طبع كتبه، وهي ادعاءات لم ترد حتى على لسان الوردي نفسه.
خفايا من حياة علي الوردي
هذا كتاب جديد لا يشبه الكتب التي ألفتها قبله عن عالم الاجتماع العراقي الكبير علي الوردي، فهو احتوى ما لم يحتوه كتاب ألفته من قبل، كما أني سرت في تأليفه في غير الطريق الذي سرت في كتبي السابقة، إذ عمدت، هنا، أن أكتب مجموعة مقالات متناثرة في السيرة الوردية عندما تفرغ من قراءتها يتجسد أمامك الوردي وإنجازاته وما ألفه من كتب، عبر سطور استرجعت من خلالها معايشتي لهذا الرجل الذي أعطى ولم يأخذ.
أو كما وصفه الفيلسوف مدني صالح "عفّ الأظافر والأصابع والراحتين والكفين واليدين والعقل والضمير واللسان والشفتين والوجدان، كبير النفس بعيد الهمة، يحضر عند الإبداع والتجديد والابتكار والبناء الأكاديمي الرصين ويغيب عند الضحالة والتهريج والتخريب الأكاديمي الذريع والتدافع على عوائد الضحالة والتهريج والتخريب.
إنه عنترة جامعة بغداد الذي يغني الإبداع ويغيب عند المغانم".
ولابدّ لي من الثناء، في هذه المناسبة، على السيدة رحيق خليل الورد التي زودتني بمجموعة المراسلات بين والدها وبين الدكتور علي الوردي، أيام كان يدرس الماجستير والدكتوراه في جامعة تكساس.
والشكر موصول إلى الشخص النبيل الذي اختارني ليهديني الملف الأمني للوردي الذي كان محفوظاً في مديرية القيود السرية في الأمن العامة، وهو ما أماطت المعلومات المتوفرة فيه الكثير مما بقي غامضاً من جوانب أخرى في سيرة الوردي الكبير.
إن ما شجعني على خوض تجربة جديدة لتأليف كتاب عن الوردي ثلاثة أمور مهمة هي تبني جريدة مهمة مثل (العرب) اللندية طبع هذا الكتاب، والتسهيلات التي قدمها الأستاذان هيثم الزبيدي وكرم نعمة في هذا السبيل.
إن مثل هؤلاء وقعوا تحت تأثير الإعلام المضلل الذي قدم إليهم معلومات لا دلائل عليها ولا إثباتات ولا وثائق، خصوصا بعد احتلال العراق، والحاجة الملحة إلى شيطنة النظام الذي كان قائما قبل الاحتلال ورموزه وسائر إجراءاته ومشاريعه.
والواقع، فإن الوردي حدثني عن اعتقال يتيم حصل له، ولكن في العهد الملكي، حتى أنه قال لي إن من كان يعتقل في ذلك العهد “يرتفع في نظر الناس″، لكني لم أعرف تاريخ هذا الاعتقال منه، كان يقول في العهد الملكي ويكتفي بذلك، إلا أني عندما اطلعت على ملفه الأمني وجدت عبارة في أحد التقارير تحدد تاريخ ذلك الاعتقال، إذ تقول العبارة: (بتاريخ 2 /12 /1952 أصدر قائد القوات العسكرية للواء بغداد أمرا بالقبض عليه – الوردي – وتحري داره وفق المواد 6 و13 من الباب 12 والفقرة أ من المادة 89 من ق.ع.ب “قانون العقوبات البغدادي” وبتاريخ 4 /12 /1952 قرر الإفراج عنه وفق المادة الثامنة من قانون ذيل الأصول).
السلامة الفكرية
أما بالنسبة إلى كتبه فإن الكثير من كتب المؤلفين، بمن فيهم ابن خلدون، تم حظرها بسبب اقتراح من أحد الأساتذة، وصار هذا الاقتراح إجراء سمّي في وقته “السلامة الفكرية” ثم أطلقت الكتب المحظورة بعد التأكد من عدم معارضتها للتوجه الفكري والسياسي في البلاد، وربما كانت من ضمنها كتب الوردي. ونحن لا ننكر أن لمثل هذه التوجيهات والاقتراحات أثرا سيئا جدا على حرية الباحث والأديب الذي يحتاج إلى مناخ من الحرية واسع المدى، كما يرى الدكتور طاهر البكاء الذي أصبح رئيسا للجامعة المستنصرية بعد احتلال العراق ثم وزيرا للتعليم العالي والبحث العلمي في وزارة إياد علاوي التي أعقبت مجلس الحكم، والذي اعتبر أن من نتائج التزام المؤرخ بتوجهات ما كان يسمى “السلامة الفكرية” إغفال وتجاهل، بل وتجاوز فترات تاريخية مهمة ومواقف كان لابد من تناولها، مما أجهض أفكارا كان ينبغي أن تظهر وآراء كان يجب أن تسود.
ولكننا، في الوقت نفسه، لا ننكر أنه كان لهذه التوجهات محاسن أيضا في الوقت الذي صدرت، نتيجة للفوضى الحاصلة في كتابة التاريخ، خصوصا وأن أحداث التاريخ مكتوبة وفق وجهات نظر ليست عربية ولا عراقية، فكان من الضروري غربلة المناهج الدراسية منها وإحلال وجهة النظر العربية والعراقية فيها، ولم يكن الوردي هو المقصود فيها.
أما التهميش والإفقار فلم يحصلا أبدا وحتى في أيام الحصار كان الوردي في قائمة المفكرين والكتاب الذين يتسلمون أعلى الرواتب الشهرية المستحدثة لمعاونة المثقفين على مجابهة الظروف الاقتصادية التي خلفها الحصار.
إن الدولة العراقية أيام الرئيس الراحل كانت تهاب الوردي وتحترمه، ولم تكن تتحرش به، بل أستطيع القول إن الوردي هو من كان يتحرّش بها، والدليل على ذلك محاضرته الصاعقة في منتدى أمانة العاصمة، بعد أحداث الربع الأول من العام 1991، والتي أصابت محبيّه بالرعب وأطلقوا عليها اسم (قنبلة الوردي الانتحارية).
كنت حاضرا في القاعة التي شهدت الوردي وهو يلقي تلك المحاضرة، والتي أمّها عدد كبير من المثقفين العراقيين، حتى أني مازلت أذكر أن منتدى أمانة بغداد كان يعقد جلساته، عادة، في قاعة تقع في الطابق الثاني من بناية المتحف البغدادي، ولكن القاعة ضاقت بالحاضرين الذين وقفوا على السلالم، بل حتى ملأوا الشوارع المجاورة فأوعز أمين بغداد، يومها، الراحل خالد عبدالمنعم، لرشيد الجنابي بنقل المحاضر والمحاضرين بحافلات كبيرة إلى القاعة الكبرى في مبنى أمانة بغداد والتي ضاقت هي الأخرى بالحاضرين على الرغم من اتساعها.
كانت أهمية تلك المحاضرة تكمن في تزامنها مع حدث مهم في تلك الأيام، هو انتهاء حرب الخليج الثانية وما أعقبها من أحداث في محافظات العراق، سميت، في حينها، أحداث الغدر والخيانة، والغوغاء، ويسميها الذين كانوا يعارضون السلطة “الانتفاضة الشعبانية”، إذ عدّ بعضهم حوادث السلب والنهب والعنف تأكيدا لنظريات الوردي وتحليلاته حول تأثير البداوة في شخصية الفرد العراقي.
في تلك المحاضرة أعلن الوردي بنحو هادئ غضبه على الطريقة التي تعاملت بها الدولة مع ما سمي وقتها بـ”الغوغاء” أو “صفحة الغدر والخيانة”، ومن الطريف الذي يجدر ذكره هنا هو أن أمين بغداد تقدم إلى المنصة ووضع جهاز تسجيل أمام الوردي، وعندما سأله الوردي عن سبب تسجيل المحاضرة قال له أمين بغداد: إن السيّد الرئيس (صدام حسين) يريد الاستماع إليها، وتمنعه من الحضور إلى المحاضرة الظروف الراهنة للبلاد.
إن الوردي، عندما تلقى هذه المعلومة من أمين بغداد، بدأ بتوجيه انتقادات حادّة وصريحة ليسمعها الرئيس صدام حسين، وقال في ما قال “نحن لسنا فئران تجارب لتدخلونا كل يوم في تجربة جديدة، فما معنى أن تستحدثوا مثلا شرطة أخلاق، بالله عليكم هل لدى الشرطة أخلاق أصلا؟ فإذا كنتم قد ضللتم الطريق فتعالوا إلينا لندلكم على الطريق الصحيح لحكم الشعب”.
ثم قال الوردي بالحرف “لا تليق بهذا الشعب الـ(…) إلاّ مـثل هـذه الحكومة الـ(…)”. وكانت الأوصاف قاسية جدا وشديدة الجرأة. وعندما رأى علامات الغضب على وجه أمين بغداد، قال الوردي مبرّرا “هذا ليس قولي.. إنما هو قول النبي محمد، الذي يقول: “كيفما تكونوا يولّ عليكم”.
ولم تحصل أي تبعات على انتقادات الوردي الحادة للنظام والدولة، ولم تمنع مقالات الوردي التي كنت آخذها منه لأنشرها في جريدة الجمهورية وهي الناطقة باسم الحكومة العراقية.
نعم، ربما لم يكن الرئيس الراحل صدام حسين يرتاح لأقوال الوردي وكتاباته وكتبه لاختلاف توجهاتهما ومنطلقاتهما الذهنية والفكرية، وهذا هو رأي الشاعر حميد سعيد، أيضا، الذي قال لي “إن ما كان لا يرتاح إليه الرئيس الراحل من طروحات الوردي هو موضوع البداوة والحضارة، وهذا طبيعي جدا، لكنه كان يحرص على ألا يبدي أي مظهر من مظاهر عدم الارتياح علنا، وأمام الآخرين”.
صدام يقلد الوردي شارة
لكن، للتاريخ، فإن الرئيس لم يتطرق إلى هذا الخلاف يوما، ولا تتوفر لدينا وثيقة على ذلك سواء بقول أم تسجيل أم كتاب أم كتاب رسمي، بل إن الوردي روى لي أن الرئيس الراحل كرم أساتذة ثانوية الكرخ المركزية التي درس فيها، وكان الوردي أحد أولئك الأساتذة الذين درسوا فيها، و”لما حضر الرئيس قلد الأساتذة شارات خاصة وكان صامتا أثناء التقليد لكنه بعد أن قلدني الشارة وقلد الواقف إلى جانبي ثم وصل إلى الذي بعده أخذ يتحدث معه ويسلم عليه بحرارة ويربت على كتفه، ثم التفت إلينا وقال: يا جماعة إن هذا هو الأستاذ الذي درّسني”.
يقول الوردي: قلت للرئيس صدام حسين إني أنا الذي درّست هذا الأستاذ الذي درّسك، فابتسم الرئيس وقال لي ممازحا: إن هذا لن ينفعك أبدا، وضحكنا.
أرسل الرئيس مرافقه الأقدم أرشد ياسين إلى الوردي ليجلب له نسخا من جميع ما أصدره الوردي من مؤلفات، بعد الحديث المطول الذي أجرته معه الصحفية الأميركية كريستين هيلمز وسألته فيه عن ازدواجية الشخصية العراقية، فنفى بشدّة أن يكون الإنسان العراقي مزدوج الشخصية، فردّت عليه بأن بروفيسورا عراقيا هو الدكتور علي الوردي يرى غير ذلك.
وأخبرني الوردي، أكثر من مرة، أنه حين سئل بعد نشر تلك المقابلة في الصحف عن رأيه بوجهة نظر الرئيس صدام حسين نفى أن يكون هناك أي تناقض بين الرأيين، فالرئيس – حسب رأي الوردي – ينظر إلى الأمر من وجهة نظر القائد السياسي، بينما هو (أي الوردي) فينظر إلى الأمر من وجهة نظر علمية محضة.
الراحلان: اللغوي مصطفى جواد وعالم الاجتماع علي الوردي ايام كانت بغداد متآلفة مع ناسها
الصحفية الأميركية
كتب إليّ الدكتور محمد الدعمي، رئيس قسم اللغة الإنكليزية بكلية التربية للبنات بجامعة بغداد وعضو اتحاد المؤرخين العرب رسالة جاء فيها ذكر هذه المقابلة، وقال “أما بالنسبة إلى المقابلة المشار إليها، فأذكر جيدا أن سؤال الصحفية الأميركية جاء بطريقة مناقضة لمجمل ما قاله الرئيس الراحل صدام حسين حول العراقيين في الحرب مع إيران، لذا فإنه حاول تجاوز السؤال بطريقة لبقة ولم يعطِ الصحفية الفرصة للاسترسال في موضوع تناقض خلاصته تعبويات الحرب وبلاغيات النظام، الأمر الذي تجلى في أنه لم يتوقف على رأي الوردي مستدركا بأن هذا رأي لكاتب وهو حر فيما يقول”.
والقصة الآتية سمعتها من علي الوردي، وهي أن السيد أرشد ياسين مرافق الرئيس طرق، في أحد الصباحات، باب بيت الوردي فخرج بزيه البيتي المميّز: غطاء الرأس و(الروب)، ليـفتح الـباب وليـجد أمـامه مــرافق الرئيـس صدام حسين الـذي قــال له: السلام عليـكم دكـتور. فردّ الوردي: لا عليكم السلام ولا رحمته ولا بركاته. فدهش المرافق وقال له: لماذا يا دكتور؟ فأجابه: أنا مريض وأنت تمنع عنّي السفر إلى الخارج للعلاج( ).
وبعد مناقشة طويلة بينهما، عند باب الدار، قال له كبير المرافقين إنه قصده لأنه يحتاج إلى كتبه، فقال له الوردي: لا توجد عندي نسخ من كتبي.
ولكن عندما قال له إن السيّد الرئيس صدام حسين هو الذي يريدها، قال له الوردي: إذا للسيّد الرئيس أنا أصير (كتبا) له، وسلمه نسخا من كتبه كلّها.وهذه القصة جاءت بعد أقل من أسبوعين من إجراء المقابلة المذكورة.
1442 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع