الدوحة - فوزي باكير:للوهلة الأولى، تبدو أعمال الفنان العراقي كريم رسن (بغداد، 1960)، وكأنّها مقاطع استُلّت من الجدران في الشوارع، ووُضعت في صالة العرض. لكن، مع الإمعان أكثر، يكتشف المُشاهد أنّها أعمالٌ صُنعت في مختبر الفنان، يجمع فيها بين الـ"فوتو مونتاج" والرسم الرقمي، ثمّ تُطبعُ رقمياً.
تحت عنوان "ذاكرة مدينة أخرى"، تعرض "غاليري المرخية" مجموعة من تلك الأعمال، ابتداءً من الثامن من أيلول/ سبتمبر الجاري، في "مركز كتارا للفنون" في الدوحة. تمزج اللوحات بين فنون الغرافيتي والفوتوغراف والكولاج، لتصبح كلّ لوحة عبارة عن طبقات متراصّة، تخفي كل واحدة منها حكايةً، أو جزءاً من حكاية.
إلى جانب الألوان، يتضمّن كل عملٍ تفاصيل كثيرة؛ وجوهاً لشخصيّاتٍ معروفة، مثل الموناليزا وغيفارا، وأخرى مجهولة، وكتاباتٍ وخطوطاً تبدو عشوائيّةً يصعب الربط بينها، وملصقاتٍ لإعلانات... إلخ.
رغم امتلاء اللوحة بكل هذا، إلّا أنّها تظلّ محافظةً على توازنها البصري، حيث يعمد رسن على توزيع الكتل والألوان على مساحة العمل بدقّة. تحمل إحدى اللوحات عنوان "ثلاث صور لشخص". في هذه اللوحة، نرى وجهاً متكرّراً ثلاث مرّات لرجل واحد. مرّةً نراه طبيعياً، ثمّ نراه مُلطّخاً باللون الأصفر، وفي الثالثة نراه سورياليّاً؛ إذ تملك عنقه يداً تمدّها نحو وجهه السابق، ويضع نظارات، ويقول: "هذا ليس أنا، هذا رجل أصفر".
الطّبقات، إذاً، لدى رسن، ليست مجرّد إجراءٍ فني بحت، بل هي بحثه في طبقاتِ الإنسان نفسه، وتحوّلاته من صورة إلى أخرى/ شخصٍ إلى آخر، بمرور الزمن. الزمن هنا، هو بقية اللوحة ربما، وما عليها من تغيُّرات لونية، وما تتضمنّه أيضاً من إعلانات لسلعٍ تُعبّر عن حاجة الإنسان إلى أشياء، وتخلّيه عنها لاحقاً.
من هؤلاء الأشخاص؟ وما هي المدينة الأخرى؟ سألنا الفنان المُقيم في كندا، ليجيب، في حديثه إلى "العربي الجديد": "المدينة الأخرى هي تورونتو في كندا، وهي واحدة من المدن الاقتصادية الكبرى في عالمنا المعاصر. الذاكرة في هذه المدينة ليست كما عليه في مدن الشرق. ففي الأخيرة، هي متجذّرة ومكرّسة، ومن الممكن لمسها من خلال كتابات جدرانية أو رسم عابر باقٍ يحمل معه الكثير؛ التأريخ والذكرى والحدث".
"ثلاث صور لشخص"، 80 × 64 سم، 2015
هكذا، مُكتفياً بما تحمله بلاده من عمق تاريخي اشتغل عليه في أعمالٍ سابقة، يحاول رسن استكشاف تلك "المدينة الأخرى" التي يعيش فيها، فيوضّح: "تخلو أعمالي الحالية من الطابع السياسي، وتذهب إلى البحث في رموز تعني أكثر من هم في المهجر".
يضيف: "أسعى إلى اكتشاف جماليات من نوعٍ آخر، تتجسّد في ما تحتويه هذه الجدران من كتابات متنوّعة، الشعر واحد منها، إضافة إلى صور لأشخاص معروفين".
عموماً، تبدو صفة التلاشي واحدة من السّمات التي تطبع أعمال رسن، إذ إنّ الوجوه في اللوحة نفسها تختفي، لتحلّ محلها وجوه أخرى، وكذلك الملصقات وبقية العناصر؛ كأنّ الإيقاع يسير بشكل تصاعديّ، ما يجعل تبدُّل الحيوات سريعاً.
حول هذه المسألة، يقول: "حين أعمل، أختار المواقع التي تستخدم للصق الإعلانات، إذ يمكن للباحث فيها أن يكتشف المدينة وفعالياتها اليومية المتسارعة. وفي اليوم التالي، يتلاشى كل هذا، ليحلّ محلّه يومٌ جديد".
982 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع