مكتبة الأمبراطور آشور بانيبال، تراث إنساني فريد!

     

 مكتبة الأمبراطور آشور بانيبال، تراث إنساني فريد!


مصدر المقال
http://thevoiceofreason.de/article/5202

    

ظهر مؤخرا في الأسواق كتاب جديد تحت عنوان " الإكتشافات العشر التي أعادت كتابة التاريخ " للدكتور باترك هانت ومن هذه الإكتشافات مكتبة الملك الآشوري آشور بانيبال ( 668 – 627 ق. م. ) الذائع الصيت ليس لتوسعات الأمبراطورية الآشورية في عهده التي لم يبلغها أحد من قبله ولا من بعده في كل الهلال الخصيب فحسب ، بل لكونه أول ملك أسس مكتبة فريدة من نوعها في تاريخ البشرية جمعاء .

ينتمي آشور بانيبال إلى السلالة السرغونية التي أعطت للأمة الآشورية عصرها الذهبي في تحقيق وحدة الهلال الخصيب لأول مرة في التاريخ .

العصر الذهبي الآشوري

استطاعت الآلية الحربية الآشورية أن تؤمن حدودها الشرقية مع الشعوب الايرانية وكذلك حدودها الشمالية حيث هزموا الحثيين والشعوب الآرية الأخرى وبقيت الجبهة الجنوبية الغربية التي كانت تتزعمها مصر .
أراد الملك أسرحدون ، ابن الملك سنحاريب ( 669 – 680 ق. م. ) أن يحذو سياسة أسلافه التقليدية والرامية إلى محاربة مصر ، فسار بجيش جرار حتى بلغ وادي العريش وهو في طريقه إلى الدلتا . ولكنه اضطر ألى وقف زحفه هذا والعودة لمجابهة قيام تحالف بين الآريين والميديين والسكيثيين بحيث هزمهم شر هزيمة أيضا ، لأنهم كانوا يهددون سلامة ووحدة الأمبراطورية الآشورية .
بعدها استأنف الجيش الآشوري زحفه إلى مصر بعد اخضاع بلاد الشام لسلطانه وللمرة الأولى وطأت أقدام الجيش الآشوري القارة الأفريقية بدخولها مصر بحيث أقدم الملك أسرحدون على لقب نفسه بملك مصر العليا والسفلى وملك أثيوبيا ( الحبشة ) شيئا لم يفعله أحد من قبله .
في هذه الأثناء كانت الثورة تهدر في بلاد آشور لأن الشعب لم يتحمل نصب آشور بانيبال الإبن الثاني للملك أسرحدون ولي العهد للمملكة على نينوى وشمشوم اوكين إبنه البكر ملكا على بابل ، لكن إستطاع الملك أسرحدون بيد من حديد أن يخمد نيرانها .
في السنة التالية اضطر أسرحدون التدخل في شؤون مصر من جديد بعد أن علم أن " طرهاكة / Tirhakah ملك الحبشة تمكن من استرداد مدينة " ممفيس " وإثارة الشغب والقلاقل في البلاد ، ولكن لسوء الحظ ألم به مرض عضال لم يمهله سوى بضعة أيام حيث توفي على إثرها .
وبناء للوصية الملكية تبوأ الملك آشور بانيبال العرش وأول بادرة كانت له إذ أمر قائد قواته / " ربشاقي " بمتابعة الزحف إلى مصر حيث استطاع الجيش الآشوري أن يلحق شر هزيمة بجيش " طرهاكه " وبذلك أعاد النظام إلى البلاد من جديد ولكن ما أن وصل الجيش الاشوري بلاد الشام في طريق عودته إلى بلاد آشور ، حتى أعلن ملوك الدلتا العصيان مرة أخرى . وللمرة الثانية اجتاحت القوات الآشورية وادي النيل / مصر حيث واصلت زحفها حتى بلاد النوبة .
والجدير بالذكر أن هذه الحملة أسفرت عنها نتيجة إيجابية أخرى ألا وهي استتباب السلم والأمان في كل أرجاء البلاد السورية وهو ما وصفه المؤرخون قاطبة بالسلام الآشوري / Pax Assyriaca بحيث لم يجرؤ أحد على إثارة الفتن والقلائل وبذلك عمت شهرة الملك آشور بانيبال في سائر أرجاء المعمورة مما دعا المؤرخون بالقول ، " إن الآشوريين حقا جديرون بأن يطلق عليهم لقب رومان الشرق " .
كان الملك آشور بانيبال يبذل قصارى جهده رغم انشغاله بالحروب لإنجاز مشروع المكتبة الملكية الآشورية ، ولكن الشيء الوحيد الذي جعل آشور بانيبال ذا شهرة فاقت كل الذين سبقوه أنه عمل جهده الدؤوب لإتمام المكتبة هذه ، أضف إلى ذلك أنه كان يلم الماما جيدا بالكتابة الإسفينية / المسمارية قراءة وكتاية وهاك النص التالي ما يدعم ذلك :

أما أ . ليو أوبنهايم / A. Leo Oppenheim يقول بحق الملك آشور بانيبال كيف كان يكرر وصف تدربه وانجازاته كأستاذ ومحارب في وقت واحد ، إذ يقول: لقد احتفظت بكل المواد الأولية بدءا من السومريين ، لقد درست حكمة نابو (النبي) واكتسبت فن الكتابة كله ومعرفة معظم الحكماء ، كما تعلمت رماية القوس وريادة الخيل وقيادة العربات.
وهكذا استطعت قراءة النصوص السومرية الغامضة والأكدية العويصة وبحثت في الكتابة المسمارية على الحجر من قبل الطوفان .
ولإتمام مشروع مكتبته الملكية على أكمل وجه ، أصدر أمرا ملكيا بحيث عممه على سائر أرجاء البلاد وهذا نصه : " إبحثوا وأرسلوا لي اللوحات النادرة التي تعرفون أنها غير موجودة في بلاد آشور ... يجب أن لا يكون هناك مانع لكم ، وبالفحص والتدقيق تجدون ما هو جيد لقصري وعليكم الحصول عليها بأي ثمن وارسالها لي . "

آفاق جديدة

منذ أكثر من مائة وخمسين سنة كل ما كنا نعرفه عن العالم القديم عامة وعن بلاد الرافدين خاصة لم يكن سوى ما تركه لنا كل من المؤرخ البابلي " برخوشا " والكتبة والمؤرخون اليونان إلي جانب الكتاب المقدس / العهد القديم . ولكن الجدير بالذكر أن كل تلك المعلومات والأخبار كانت ناقصة أحيانا و مشوهة أحيانا أخرى . نحن معشر الشعب الآشوري حقا مدينون لأولئك العلماء والمجتهدين الغربيين الذين أماطوا اللثام عن أنقاض نينوى ، المدينة العظيمة والعاصمة الآشورية وغيرها من المواقع في بلاد ما بين النهرين باندفاعهم المتواصل لمعرفة أسرار الشرق الأدنى وبلاد ما بين النهرين خاصة ويتصدر القائمة هذه كل من " أميل بوتا /Emil Botta ( 1802 – 1870 ) الفرنسي والبريطاني " أوستن هنري لايارد / Sir Austin Layard " وابن نينوى البار هرمز رسام ( 1826 – 1910 ) وكثيرون آخرون . كما ينبغي علينا أن نثمن أيضا ما قام به الجهابذة الغربيين الذين استطاعوا فك رموز الكتابة المسمارية وقراءتها.
ويتبين أنها انصبت على إحدى وأربعين علامة بحيث تؤلف في مجموعها بما يمكن تسميته بحروف الهجاء /ألف باء ومن هؤلاء أدوار هينكس Edward Hinkes( 1866 – 1792 ) وفوكس طالبوت H. Fox Talbot (1877- 1800) والسر هنري ل. رولنسون Henry L. Rawlinson (1895 – 1800) وجوليس أوبرت Jules Oppert (1905 – 1825)


إماطة اللثام عن أنقاض نينوى المدينة العظيمة


إن الحدث الأكبر وذا أهمية بالغة كان العمل الجرىء الذي قام به ابن نينوى " هرمز رسام " باكتشافه المكتبة الآشورية الملكية / مكتبة الملك آشور بانيبال أعظم وآخر ملوك الآشوريين .
إن إماطة اللثام عن أنقاض نينوى ، المدينة العظيمة بعد أكثر من ألفين وخمس مائة سنة وقصة التحريات والتنقيبات التي بدأت عندما كان أميل بوتا Emil Botta ( 1802 – 1870 ) القنصل الفرنسي في مدينة الموصل .
لاحظ – بوتا - أثناء مسيره اليومي عابرا نهر الدجلة إلى الطرف الآخر من النهر مارا بين التلال القريبة من نهر الدجلة أن الرياح ( عوامل التعرية ) وسنابك الخيل قد كشفت الأبنية القديمة المطمورة ، وكل هذا قل ما استرعى انتباهه ، ولكن بما أنه كان رجلا مثقفا كان حدسه يدفعه الى كشف الأشياء المشتبه بها والشخص الذي شجعه بالأكثر على ذلك كان " مول Mohl " أمين سر الجمعية الفرنسية الآسوية وقتئذ على القيام بنفسه بعمليات الحفر والتنقيب ، وبالفعل باشر العمل بنفسه بداية وعلى نفقته الخاصة إلى درجة أنه صرف كل ما يملك في جيبه ولكن لسوء الحظ عمله هذا لم يأت بنتائج إيجابية ومشجعة . لذلك ترك الموقع إلى مكان آخر يبعد قرابة 11 ميلا عن نينوى يسمى " خورسباد " وكان ذلك في عام 1843 وهنا أصابه الحظ حيث اكتشف جدران القصر الملكي الآشوري ومنذ ذلك الحين ولد ما يسمى ب " علم الآشوريات / Assyriology " وموقع خورسباد صار واضحا بأن وضع فرنسي آخر يسمى " فلاندن Flandin " إ ذ جاء بمجموعة من اللوحات تحت عنوان " نصب نينوى " على غرار حملة نابليون بونابرت إلى مصر .
وبعد هذا الإكتشاف الهام ، عاد إلى فرنسا حيث إنهمك في طبع نصب نينوى في خمس مجلدات . وعندما اندلعت الثورة الفرنسية في عام 1848 والتي أطاحت بعرش الملك ( لويس فيليب ) وأعلنت النظام الجمهوري قد أدى إلى نقل بوتا إلى وظائف غير مهمة لأنه كان من انصار النظام الملكي .
في هذه الأثناء ، كان المسؤولون البريطانيون قلقين ومشغوفين ولهم الرغبة بدخول حقل التنقيبات . إذ اتفقوا مع الفرنسيين الذين تخلوا عن الموقع بغياب ( بوتا ) كي يباشروا العمل مع احتفاظ قسما منها للفرنسيين وليس هنا من هو أكثر جدارة للقيام بهذه المهمة من " لايارد - Sir A.H.Layard الذي استطاع أن يدرك نوعا ما قراءة الكتابة الإسفينية / المسمارية . وقد قام ببعض الحفريات في المرحلة الأولى وبدون موافقة السلطات المحلية ولكن بعد مدة وجيزة استطاع الحصول على موفقة شرعية .
بدأ لايارد بالحفريات لأول مرة في موقع مدينة كالح Calah احدى العواصم الآشورية وذلك في 9 من شهر تشرين الثاني سنة 1848 وكان النجاح حليفه إذ كتب مباشرة لكانينغ Sir Stratford Canning مخبرا إياه بالنتائج المرضية .

مكانة هرمز رسام التاريخية

خلال الحملة الثانية ، غادر لايارد الموصل في 29 حزيران عام 1847 إلى استنبول ومن ثم إلى لندن مصطحبا معه السيد رسام ، ومن جراء العمل الشاق لمدة سنتين بين الأطلال الآشورية بوسعه وقتها الافتخار باكتشافه مدينة " كالح / نمرود " العاصمة القديمة وكذلك مدينة نينوى كما اكتشف عددا من القصور الملكية الاشورية الأخرى والتوصل الى معرفة أسماء الملوك الآشوريين على سبيل الذكر " آشور ناصر بال ، سرغون ، شلمناصر ، تغلات بلاصر ، أداد نيراري ، سنحريب وأسرحدون .
وعندما غادر لايارد للمرة الثانية ميزوبوتاميا / بلاد الرافدين تاركا المشروع تحت اشراف ورعاية مساعده " هرمز رسام " ابن المنطقة ، ولما كان هذا مولعا بتاريخ أجداده لم يستطع أن يضبط نفسه إلا أن يستأنف الحفريات والتنقيبات ليس في القسم المخصص للبريطانيين فحسب ، بل وتعدى إلى القسم المحتفظ به للفرنسيين ، وهكذا أصابه الحظ باكتشاف هام جدا ألا وهو قصر الملك آشور بانيبال والمكتبة الملكية الآشورية .

مكتبة الملك آشور بانيبال

احتوت مكتبة الملك آشور بانيبال على قرابة 26000 لوحة مخطوطة ، وعلى الرغم من احتوائها على لوحات مكررة أو مما اصابها العطب ، لكنها احتوت على لوحات تاريخية قيمة جدا التي غطت حوالي 1200 موضوع وفي هذا الصدد يقول برنار ناب / A. Bernard Knapp حيث اقترح بأن حوليات ملوك الآشوريين منذ بداية 1300 ق . م . وجب اعتبارها أولى الوثائق التاريخية المصورة في تاريخ البشرية بدون منازع . أما العالم الألماني كارل بيزولد / Carl Bezold قد صنفها في خمس مجلدات محفوظة في المتحف البريطاني بلندن وهي على النحو التالي :

- التاريخ الآدبي
- مكتبة الملك الخاصة
- مكتبة المعبد
- المراسلات الملكية الرسمية
- العقود والمواثيق
ومن المحتمل أن عددها يربو على 26000 لوحة ، لآنه من المؤكد أن لايارد لم يكن يعلم شيئا عن هذه اللوحات في البداية معتبرا إياها لأول وهلة مجرد قطع فخارية للزينة وبدون أهمية تذكر حيث قد ضاع أو تلف منها الكثير أثناء التنقيب .
كما أوردنا في المقدمة بظهور كتاب جديد في الأسواق تحت عنوان " الاكتشافات العشر التي أعادت كتابة التاريخ " للأستاذ باترك هانت ومن المواضيع التي أثارها بأن الجنائن المعلقة لم تكن في بابل بل في نينوى وبالطبع أن هذه الألواح ما زالت قيد الدرس ومن المؤكد ستكون هناك كثيرا من المفاجئات في المستقبل القريب ونحن منتظرون بفارغ الصبر.

كانت هناك خطة حكومية لإحياء مكتبة آشور بانيبال يوما وفي موقعها بالذات أي في الموصل/ نينوى لتمارس دورها القديم كمنارة للحضارة وذلك بالتعاون مع الدكتور جون كيرتس رئيس قسم الشرق الأدنى بالمتحف البريطاني ولكن تم إجهاض المشروع من قبل الصهيونية وحلفائها الغربيين والعرب نتيجة غزو العراق في عام 2003 حيث ليس للمشروع أي حسبان اليوم للأسف ، بل والأكثر من ذلك إذ رغم التحذيرات ومن قبل أساتذة أميركيين بالذات وعلى سبيل الذكر " ماغوير غيبسون / McGuire Gibson للمعهد الشرقي في شيكاغو العمل للحفاظ على تراث بلاد الرافدين الغنية والتي لا مثيل لها في العالم أجمع أن لا تمس بسوء ، ولكن قوات الغزو كل ذلك لم يهمهم بقدر الحفاظ على وزارة النفط حيث جرى النهب والسلب والخراب إلى درجة أن قذيفة أحدثت فجوة في مقدمة بناء المتحف العراقي في بغداد نفسه الذي يمثل قصر الملك الأشوري سارغون .

تنويه :

تحت إشراف وتأثير الصهيونية التي ديدنها الأوحد تشويه التاريخ في بلاد الرافدين وخاصة الآشوري منه . ولكن اليوم بشرى سارة نزفها لشعبنا الآشوري خاصة وبلاد الهلال الخصيب عامة أن اليوم لنا أكثر من أستاذ أجنبي واحد حيث بوسعهم ليس كشف الحقائق عن شعبنا بدون تشويه فحسب بل الدفاع ودحض أولئك الذين يشوهون تاريخنا ومنهم " سيمو باربولا / Simo Parpola الفنلندي( الرابط الملحق للأستاذ بربولا في حديث عن شعبنا الآشوري ) إلى جانب هناك في حقل الآشوريات طلاب آشوريون الذين سيكون بوسعهم المساهمة أيضا في كشف تاريخنا الآشوري الناصع للعالم أجمع بدون تشويه أو تزييف .


  

المراجع :

Sources:

Shirley Glubok , Digging in Assyria 1970 , The Macmillan Company , London

A. Leo Oppenheim, Ancient Mesopotamia, The University of Chicago Press , Chicago & London 1968

A.T. Olmstead, History of Assyria, the University of Chicago – Midway Reprint 1975

H. W. F. Saggs , THE MIGHT THAT WAS ASSYRIA , Sidgwick & Jackson , London , England 1984

A. Bernard Knapp , The History and Culture of Ancient Western Asia and Egypt , the Dorsey Press 1968

Patrick Hunt, Ph. D. – Ten Discoveries that Rewrote History, Stanford
University.

Georges Contenau , Everyday Life in Babylon and Assyria, The Norton Library, Inc – New York 1966

         

الگاردينيا: هذه المادة التأريخية المهمة أرسلها لنا الأستاذ الدكتور / عبدالرزاق الدليمي.. فألف شكر  وبارك الله فيه..

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1047 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع