الشاعر والأب يوسف سعيد رائد قصيدة النثر في العراق

       

       الشاعر والأب يوسف سعيد رائد قصيدة النثر في العراق

    

    

    

تتوقّد في عينيه عزيمة الشّباب يتحلّى بأخلاق حميدة ويشعّ على من يجالسه الاتّزان و التّفكير راجح العقل ، متّزن المواقف، جمّ التّواضع عينان برّاقتان يشعّ منهما الجدّ والعزيمة وصدر عريض يحتضن قلبا كبيرا مفعما بالصّبر و القناعة ، تعرفت على الاب يوسف سعيد عام 2000 في مدينة سودرتاليا عندما قدمت مع شباب الارسالية الكلدانية في السويد مسرحية القيامة فكان احد المدعوين لمشاهدة العرض المسرحي ، حيث بدأ الأب يوسف سعيد حياته الفنية مسرحيا، كان العراق يومها تغير الى النظام الجمهوري واستسلم للعسكر والأحزاب المتصارعة فبدأت المجازر  في مدينة كركوك بعد انتفاضة الشواف في الموصل وأصدر في كركوك عام 1958 كتابه الأول الذي ضم مسرحية بعنوان ( المجزرة الأولى) .وكلما التقيت معه كان يسألني عن سكان مدينة السليمانية والسبب انه كان يزور المدينة مرتان في الشهر لإقامة القداس للطائفة السريانية الأرثوذكسية لان في المدينة كنيسة واحدة  كاثوليكية كلدانية فكان وفيا لرعيته ويعرفهم جمعيا وكنت احسده على ذاكرته القوية .
ولد يوسف سعيد في الموصل عام 1932 وأتمَّ دراسته الأولى والتحق بالكلية اللاهوتية وعين رئيساً روحياً لطائفة السريان في كركوك، هو أحد اهم الشعراء الذين اناروا سماء الأدب والشعر في كركوك بنجوم ساطعة من القصائد في فترة النهوض الأدبي، وهو احد مؤسسي (جماعة كركوك الأدبية) التي ظهرت في اواسط الستينات من القرن الماضي، واحدى اكبر الجماعات الأدبية شهرة وإنتاجا وتأثيراً في مجال الشعر والنقد والقصة والفن التشكيلي والمقالة.
حيث التقى هناك جماعة شعراء كركوك، الذين تركوا تأثيرات مهمة على شعره ، كما ترك هو الآخر تأثيره على أصدقاء الشعر، تعرف على نخبة من أدباء كركوك الذين كانوا يخططون للتمرد على أنماط الشعر السائدة (فاضل العزاوي، سركون بولص، أنور الغساني، زهدي الداوودي، جان دمو ومعهم القاص جليل القيسي) ، اضافة للدروس الدينية التي كانت تتضمنها عظته الأسبوعية التي كان يتلوها على حشود المصلين ،كان ينتظره تنظيم الشعر .
في إحدى قصائده يصف نفسه أن يكون أبا مرتين مرة في الكنيسة ومرة أخرى في الشعر.
نشرت أشعاره وكتاباته ابتدءا من عام 1953 في الصحف والمجلات العراقية والعربية وكان لها صدى طيب على الساحة الأدبية والثقافية.
تعرض الاب والشاعر يوسف سعيد الى التحقيق من قبل السلطات في بداية العهد الجمهوري، وتحديدا سنة 1959 بسبب قصيدة نشرها، عنوانها (الحوذي والثائر)، غادر العراق إلى لبنان عام 1964 مكتويا بنار السياسة ، وهو الذي نأى بنفسه عنها ، كان يرى حريته في أن يكتب الشعر لا في أن يصلي فقط لقد سبق أبناء جيله الستيني إلى الهجرة، كان الشاعر يومها قد مشى بعيدا عن القمع ومصادرة الحريات وهناك التقى مع أبرز الشعراء والكتاب وعاش في بيروت حتى عام 1970، نشر في مجلة شعر قصائد بعنوان( بهيموث والبحر ) وقد أثنى عليها الكاتب المعروف جبرا ابراهيم جبرا، ونشر في ذلك الوقت قصائد بعنوان (أضواء آتية من أسواق القمر) في المجلة التي كان يرأسها آنذاك أدونيس، مع قصائد عديدة أخرى ، ترجم أكثر من خمسين قصيدة لمار أفرام السرياني، نشرتها مجلة شعر، قال عنه الشاعر ميخائيل نعيمة انني لم أجد في حياتي كاهنا بهذه الروعة الشعرية العميقة في الحياة.
لم يصدر كتابه الشعري الأول الموت واللغة إلا بعد مغادرته العراق بأربع سنوات أي في عام 1968، في عام 1996 صدر كتابه الشعري الأخير سفر الرؤيا في بيروت.
عام 1970 شهد المرحلة الأخيرة من هجرته ، ذهب إلى السويد واستقر في متّخذاً من إحدى ضواحي ستوكهولم، سودرتالية مقراً هادئاً للعيش والكتابة، حيث وجد في صمت السويد وجمال ثلوجه وغاباته ما يحرضه على الكتابة المتدفقة كالينبوع، فكانت منفى أخيرا له لم تنقطع صلته بالعراق، كتب رسائله في مجلة الكلمة التي كان يصدرها حميد المطبعي، فكانت تلك الرسائل بمثابة وصايا بالنسبة إلى الشعراء الذين لم يتعرفوا على ذلك الأب شخصيا.
في تلك الرسائل شخصية الطابع لم يكن يوسف معنيا إلا بوصف أحواله في بلاد الثلوج سحرت القراء بعفوية لغته، فكانت تلك الرسائل باعتبارها قصائد قادمة من بلاد بعيدة لقد حظي سعيد في غيابه بمكانة في الوجدان الشعري العراقي لم يكن قد حظي بها في حضوره.
بعد سنوات طويلة من العمل في سلك الكهنوت تفرغ كليا للكتابة، يكتب عن تجربته الحياتية وعن رؤاه الغزيرة في الحياة تميَّز بخياله الجامح، يأخذ القارئ إلى فضاء فسيحة وخلاقة، يخطُّ جملته الشعرية وكأنّه يلتقطها من خاصرة السماء الصافية، ومن أهداب النجوم، ليقدم للقارئ خطاً شعرياً متفرّداً ومتدفقاً بالإبداع.

                        

توفى الأب الشاعر د. يوسف سعيد أحد كبار شعراء الحداثة في إحدى مشافي ستوكهولم صبيحة هذا اليوم الثلاثاء 7. 2 . 2012 ، بعد أن ترك خلفه إرثاً شعرياً وأدبيَّاً هامّاً. عن عمر يناهز الثمانين ، قضاه بأعمال البرّ والتقوى والإبداع الخلاق ، إلى جنان الخلد أيُّها الشَّاعر والأب الرُّوحي المبدع، ستبقى أنتَ وشعركَ حيّاً وخالداً في قلوبنا إلى الأبد.
أصدر المجوعات الشعرية التالية:
المجزرة الأولى مسرحية كركوك 1958
الموت واللغة قصائد ـ بيروت 1968
ويأتي صاحب الزمان ـ السويد 1986
طبعة ثانية للتاريخ ـ قصائد 1987
مملكة القصيدة، دراسة شعرية ـ بغداد 1988
الشموع ذات الاشتعال المتأخر، قصائد ـ بيروت 1988
السفر داخل المنافي البعيدة، قصائد ـ دار الجمل، كولونيا ـ ألمانيا 1993
سفر الرؤيا، قصائد ـ لبنان 1994
فضاءات الأب يوسف سعيد، الأرض، التراب، السماء، الماء ـ دار نشر صبري يوسف ستوكهولم 1999
وغيرها من الدواوين والقصائد ، كما كتب الكثير من القصائد باللغة السريانية .
نال جائزة آرام وجوائز أخرى في مجال الشعر والإبداع.
من قصيدة الأرض، التراب، السماء، الماء للأب يوسف سعيد
الأرض
الأرض تحمل بين طيّاتها السفليّة رعشة أبديّة
زمهريرها يمتصّ من أحشائها النموّ
تفتح أبواب مصاريع الأبديّة
تعبر مواكبها نحو ذخائر الظلمة
آخر ملحقات شرائح الحديد
وتراب الفضّة والقصدير..
الأرض، تزيّن صدرها بأثداء ملوّنة من هضاب
تتفلّى جدائلها برائحة شمس شرقيّة
ناطقة بلغات مسيرات الغيوم
والسحب الصيفيّة
أسابيعها بيضاء من نصاعة شمس
تداعب أجفان يشوع بن نون
الأرض، تحتضن في أحشائها مهجة النور
تتلقَّى قطرات الندى والغيوث من صدر الجَلَد
أيّتها الأرض، وجهك قطعة من شرائح مطر
البركات
بذارك من مطر
برارة النُّجوم البعيدة
الأرض تخبّئ في أوداجها منازل الظلمة
تجس أصابعها بدغدغات رفرفات فوق المياه..
قواعدها أبديّة
ركائزها من أنفاس النور.
الأرض تتحمّل انفطار الجَلَد فوق مياه الأمطار
تحتفظ بواطنها محيطات خفيّة..
رفرفات طائر العنقاء في سموات
ذات تجاعيد
ملوّنة بدم الذهب
زحافات تحتضن الأبدية..
مقاطعات مدوّرة معبّأة
بأنفاس قمح الحقول..
التُّراب
أخذ حفنة من تراب الأرض،
واستنشق رائحة زهرة الأقحوان
تحسّس بأصابعه السحريّة عقارب ساعة ميلاده
وجسّ أوان موته،
وبسط يده اليمنى على أمّه التراب وأباه التراب
تحسّس جسده التراب..
وسادته من تراب
لحافه يدثّره التراب
عظامه من تراب
أرض تداعبها الشمس..
تراب في بيت العبيد
تراب أنجب أباه
ونظّم تاريخ عشائره
تراب في قصور الملوك
يستريح منجل الحصاد
على تراب
القمح
تراب لصنع أجنحة الجراد
والقَمْص ..
في الصباحات يزحف الزحّاف
نحو بيادر التراب
وفضلة الغوغاء أكلها جرادٌ طيار…
تراب مطبوخ بسلاهب
من نار الأتون البابلي
تراب مشوي لبناء قرية شماليّة
تخصّ أباطرة الأرض وملوكها
تراب مطبوخ لبناء برجٍ
في طبقاته تكمن أسرار التراب.
رسائله من بلاد الثلج
المصادر :
جريدة العرب نُشر في 02/11/2014، العدد: 9726
اذاعة العراق الحر : شباط 2012
جريدة الزمان شباط 2014
الاتحاد الأعمال الكاملة للأب الشاعر يوسف سعيد اذار 2014
الحوار المتمدن : صبري يوسف

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

584 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع