حميد حسن جعفر رجل يعشق مدينة ،قراءة انطباعية عن كائنية المكان في كتاب (كوتوبيا؛ كوت سبع) للأديب الواسطي حميد حسن جعفر
صالح الطائي
ألف وثلاثمائة واثنان وخمسون عاما، يا له من زمن طويل، ذلك الذي يمتد من عام 85 ولغاية عام 1437 هجرية، ليرسم ملامح مدينة جنوبية تاريخية، بقصبها وسورها وبابها المشرع نحو السماء، ومبانيها التي تناطح النور، وسجونها المسكونة بالعتمة، وشوارعها التي تضج بالحياة، وسكانها، وبساتينها، وبطولاتها، ومآسيها، وأفراحها، ونكباتها وانتصاراتها، وشيئا من سعادتها، والقليل من مخلفاتها والكثير من تخلفها.
من مخلفات تلك المدينة التي توسطت حضن العراق، من جيناتها، من ساعات طلقها الأخيرة، من معاناتها، ولدت (الكوت) هذه المدينة الغافية على سفوح دجلة؛ الذي يحيط بها من ثلاث جهات وكأنه يحتضنها خوفا عليها من عاديات الزمان. ليبقى أهلها محتارون بين تاريخ نشأتها، ومعنى اسمها، وأول من سكنها، وسبب قيامها في هذا المكان البعيد عن جذورها الواسطية.
إن الأسئلة الحائرة التي لم يجدوا لها جوابا إلى الآن لم تأت لأنهم لا يجيدون فن التنقيب والتقليب والبحث، فهم أول من نقب، وبحث، واستخرج، ولكن قرابة الستمائة عام، وبالتحديد من عام 1299حتى عام 1923م من الحكم العثماني المتسلط أفقدهم علاقتهم بالموروث بعد أن حاول المستعمر الأعجمي تطبيعهم مثل باقي العراقيين بطباعه، وبعدما حاول رسمهم بريشته بعيدا عن أصولهم.
إنها ستة قرون طوال كان موروثهم خلالها ملقى في عتمة النسيان، لا يجدون على أرض الواقع ما يذكرهم به سوى قصص العجائز التي كن يروينها لأحفادهن في ليالي الشتاء الباردة المعتمة القاسية؛ التي يقاسمها الفقر والتخلف بعض وطأتها، وبقايا أطلال خربة تركها الأجداد غير آبهين للمدى الذي ستصل إليه، فهي أولا وآخرا، شُيدت لتقيهم عاديات الدهر والإنسان والحيوان والطبيعة ما استطاعت، لا لتبقى أبد الدهر، أو تخلد مع الخالدين، ولأنها عراقية، بنيت جدرانها من تراب أرض العراق وماء دجلة وسواعد العراقيين، فإنها كابرت وناطحت عاديات الدهر، فعاشت أضعاف عمرها المفترض، ولا زالت وهي في النزع الأخير تبدو قابلة للعطاء .
وما يصح عن الكوت، يصح عن باقي مدن العراق، وباقي مدن أمتنا، ولذا تجد حينما شغل الغرب نفسه بثقافة المكان أن المكان وثقافته كان عندنا مغيبا بالكامل، حتى المكان المقدس حال الصراع دون الاهتمام به، أو تعرض إلى التخريب على أيدي بعض أهلنا انتقاما أو غضبا أو طائفية وكرها.
وفي الوقت الذي شغل الغرب فيه نفسه بدراسة الانثروبولوجيا، وانتقل العلماء بين البلدان يجوبون الجزر النائية والمفازات القاتلة بحثا عن أصول وثقافات بعض الشعوب، كانت مجتمعاتنا مغلقة على نفسها، تلعق جراح المستعمر، وقهر الأهل، وكان إنساننا مهملا حد النسيان، لا ينظر سوى إلى كومة الرؤى والخرافات التي استنبطها عقله المثقل بالهموم، والتي اتخذها ملاذا يلجأ إليه في ساعات الضيق وما أكثرها، ومنها قيامهم وإلى وقت قريب كما يذكر الكاتب في الصفحات 99و100 من الكتاب بإقامة حفل نهري على ظهر مركب، يزفون خلاله إحدى عذراواتهم الجميلات إلى نهر دجلة ليتلطف بهم، ويغدق عليهم من مائه العذب، يشربون، ويسقون زروعهم ومواشيهم!.
اليوم بعد صحوة، جاءت متأخرة جدا، انتبهنا إلى درجة تقصيرنا، فوجدنا شواخص وثيمات كثيرة كانت مفعمة بالدلالات الحسية قد سحقتها عجلة التبدل واللاأبالية وألقت مخلفاتها في مستوعبات التيه، ولم يتبق منها إلا ما علق في الذاكرة المتعبة التي أنهكها العسف والفقر والجوع والحاجة، وبعضا من عطر أريجها.
وحينما يأتي من يدغدغ الذاكرة ليستخرج من كثبانها الترابية العتيقة بعض تلك الأسماء التي أصابها صدأ النسيان، نشعر برهبة المكان الذي فرطنا فيه وأضعناه، ونحن لا ندري أننا قتلنا تاريخنا بأيدينا، دسسناه بالتراب كما وأد الجاهليون بناتهم!
وحينما يستفيق ألق المكان فينا مسكونا بالروعة والجمال على يد نابه هاله أن تسحق عجلة النمو آخر ما تبقى، ولاسيما إذا ما كانت الذكرى قد اُستفزت بحس مرهف يشحذ بقايا ذاكرة قديمة أنهكها المرض ليستخرج منها عبقات الأمس القريب تضوع الذكرى فينا حنينا لساعات الألفة والحميمية؛ التي أضعناها، أو ربما ضيعناها عن قصد وتعمد مع ما ضاع منا؛ وهو كثير!
وإن كان غريبا وجود من يهتم بالمكان وبالذكري في زمننا الصعب هذا فالغرابة تكبر حينما يأخذ أديب كبير على عاتقه مهمة نفض الغبار عن مخلفات التاريخ القريب بلغة شاعر، وهمة أديب، ليرسم بريشته بعض ملامحها القديمة، ليشعرك وكأنك لا زلت تسير خلال تلك الطرقات التي اندرست ملامحها، فتسمع فيها تغريد عصافير الحب والطيبة والبساطة وعدم التكلف حتى دون أن تجشم نفسك عناء تحمل أتربتها التي تثيرها أقدام الباحثين عن رزقهم، وذبابها الذي لا يجد من يصده ويبعده، وظلامها الذي لا يهدده فانوس أو سراج!
المكان حينما يعود سيدا تشعر بسطوته عليك ولاسيما حين تكون مرتبطا به بذكريات حلوة ومرة، وذاكرة المكان تحيي فيك بعض دوافن الأمس، فتشعر بها ندية طرية تدغدغ كبرياءك وتدفعك إلى التمايل بحياء بما يشبه الرقص، الرقص لا من فرح ولكن من حسرة كبيرة جدا تنبيك أن كل عمر الانتظار الذي ولى، ذهب هدرا لأن ما في حياتنا لم يغير فيه ولو شيئا بسيطا باتجاه ما كان يقلق منامنا بأحلامنا الصغيرة المتكررة.
مأساة الإنسان ليس في الظلم المسلط عليه وحده، بل أيضا في أن يفقد الأمل بتحقق أي من تلك الأحلام التي بدأت تنمو لتتحول إلى كوابيس مرعبة لم يعد الجسد الذي هده الكبر والمرض قادرا على تحمل صورها؛ التي تستنفر فيه سواد الأيام وحوالك السنين وبيادر القهر الأزلي.
إن متعة استذكار المكان، وإحياء الذكريات المدفونة تحت ملامحه لا تقل عن متعة لقاء حبيب قديم فكلاهما يثيران العواطف، ويبعثان الشجن في النفس، شجن يثير فيها رعشة كصعقة تيار خفيف من الكهرباء. وهذا ما دفع الأديب الواسطي حميد حسن جعفر ليحمل أزميله ويبدأ النحت في حجر الذاكرة بحثا عن قصص الجذور والنشأة، وبعضا من وهج الشباب؛ الذي خبا إلى الأبد، ولكن لا زالت ذكراه عالقة هنا وهناك على جدران الوجدان!
زمن طويل يفصل بين خروج المستعمر العثماني المتخلف واحتلال المدينة مرة أخرى من قبل مستعمر جديد متعجرف، يقولون إنه أجبر على الرحيل بعد أربعة عقود، لتحتل البلاد بعد أربعة عقود أخرى من قبل مستعمر جديد جلف صلف منحرف، وفي هذه الحقبة المرة من عمرنا، تغيرت وجوه الحكام الذين قادوا البلاد والمدينة تحت يافطات اختاروا الانتماء إليها إما أممية، أو طائفية، أو قومية أو عروبية، أو ديمقراطية فاشوشية.
قرن من الزمان والكوت مدينة لا تزال تشعر بالضياع والغربة، تصحو من نوم عميق لتدخل نوما أعمق ... قرن رسم صورة ومصير أمة طيبة ومدينة خافرة نافرة، محجبة سافرة، نائمة ساهرة، يتناقل أهلها حكايات أمسهم ويومهم تاريخا موبوءا بالعشق مسكونا بالشوق، شوق يُشعِر الإنسان أنه لا زال على قيد الحياة، وبالتالي تصبح الكتابة السردية التاريخية عن هكذا مدينة مهمة شبه مستحيلة يشوبها الخوف فتعجز عن إيصال المعنى، وربما لهذا السبب اختار حميد حسن جعفر لغة أخرى ليكتب بواسطتها تاريخ مدينته؛ هي لغة عاشق مع معشوق، ولذا تراه حينما تخونه قدرة السرد النثري يلجأ إلى الشعر عله يوصل الفكرة التي أراد التحدث عنها، تجد ذلك ماثلا في الحديث عن (ورقة الشاطئ) الصفحة 110، و(ورقة بستان) في الصفحة 111، و(ورقة مقبرة الانكليز) في الصفحة 112
مهد حميد حسن جعفر لكتابه بسرد تاريخي ممتع لواسط التاريخية ووريثتها الكوت على مدى عشرين صفحة ممتعة، كنت أتمنى لو همش معلوماتها بذكر المصادر للتوثيق، لأنها معلومات قيمة.
وفي كتابه لم يحبس حميد حسن جعفر نفسه في كائنية المكان، بل أطلق لها العنان لتصور حالة التنافر السكاني في مدينة جنوبية مغلقة حيث منتجو المتع ومستهلكو الطاقة البشرية وكل التناقض الذي رافق الإنسان، هكذا وكأنه يصف سبيكة بشرية غير متجانسة بالمرة، ناعمة الملمس ولكنها حادة النتوءات!
كوتوبيا ليس مجرد كتاب وإنما هو آلة زمنية تنقلك عبر التاريخ لتريك صور الأمس القريب كما رأيتها أو سمعت بها أول مرة، وبدون رتوش، فتشعر وكأنك تتمشى في الشوارع الضيقة المتربة للمحلات القديمة، تسمع ثغاء الباعة وهم يروجون لبضاعتهم، وصراخ الأطفال، وهمسات العشاق بمنظر بانورامي خالد لا تجده إلا على ضفاف دجلة، ولابد وأن تسمع المكان يتنفس، ليشعرك أنه لا زال حيا، لا زال يعيش بقلب ينبض ولكنه قلب يشكو الإهمال وجور السنين العجاف التي مرت عليه فما زادت أهله سوى تعلقا به حيث يجدون أنفسهم على حقيقتها، بعيدا عن رتوش المحاباة والمجاملات الضيقة
كوتوبيا ملحمة فقراء صنع كل منهم عالمه الخاص وتقوقع بداخله بعيدا عن حدود العالم الكبير، حيث عالم (حيال الأعمى) الذي يقرأ القرآن في السحر ترانيم ملائكية تقطر شجا، و(سيد حيدر الحكيم) الذي خلق لنفسه عالما تولى من خلاله النداء للصلاة بآذان الفجر الذي ينطلق مواويل ليستقر على ألواح ثلج (أوحيد أبو الثلج) ومثلها عوالم (حسن أرديني) و(جاسم منتفجي) و(هادي كوكي) والعالم الأكثر سحرا والأكثر غموضا والأكثر قسوة ووحشية واستلابا، عالم تلك الفتيات الماهرات اللواتي لم يبلغن سن الرشد ومع ذلك كن يمارسن الغواية قبل أوانها في (ساحة الخبازات).
كوتوبيا محاولة جادة لتتبع جذور المكان، وتوثيق تاريخاني للتبدلات الحصرية التي يتعرض لها تبعا للضغوطات المادية أو السياسية ولذا تجد مركز شرطة الخيالة يتحول بعد أربعين عاما إلى مهبط لطائرات الهليكوبتر، ودائرة البيطرة والتلقيح الاصطناعي تتحول بعد ربع قرن إلى مركز صحي، أو معمل الكاشي الذي تحول إلى قيصرية، أو مخزن المشروبات الذي تحول إلى سينما.
وإن كان حميد حسن جعفر قد مر مرور الكرام على هذه التبدلات، فإنه أوغل عمقا في حديثه عن حالة تبدل فريدة أراد من خلال حديثه عنه أن يلخص درجة النمو العكسي التي عاشها شعبنا الصابر في ظل عسف وجور الحكام الجهلاء، هذه الحالة تخص مكانا اسمه (السعادة)؛ بحثا عن شيء مفقود يبحث عنه الجميع، وشخصا اسمه (عبد الرضا مجدي) رجل عصري الزي والسلوك والأخلاق، اتخذ من مهنة توفير المعرفة وسيلة للحصول على رغيف معيشته، وكيانا اسمه (مكتبة) لبيع الصحف والمجلات والكتب. في هذا المكان المكتبة كانت تباع صحف الحكومة (جريدة الثورة) و(جريدة الجمهورية) بسعر (22) فلسا للنسخة حسب تسعيرة الحزب، وبسبب شحة الفلسان كان الرجل يبيع النسخة مرة بعشرين فلسا وأخرى بخمسة وعشرين فلسا مع كلمة اعتذار جميلة؛ دون أن يعترض عليه المشترون، ولكن الذين كانوا يتمرنون على كتابة (التقارير) الحزبية وضعوه نصب أعينهم ودائرة اهتمامهم، فاتهموه بالتلاعب في الأسعار ليثبتوا من خلاله ولاءهم للحزب، فوصلت تقاريرهم إلى مديرية امن المدينة؛ التي استدعته، وأخضعته إلى الاستجواب مثل أي سياسي أو معارض آخر، ومن خلال جلسات التحقيق، دمروا ذاته، وسحقوا كبرياءه، وأشعروه بالإذلال والمهانة، وحينما فلت من قبضتهم، وخرج إلى فضاء الحرية العوراء، تنازل عن (سعادته) وترك مهنة صناعة الثقافة ولم يبق لديه سوى المكان، فحوله إلى متجر لبيع الأحذية، وهي من المحاولات الجادة للحزب في إغلاق قنوات المعرفة وفتح قنوات التبلد!
وهكذا تجد أن حميد حسن جعفر رسم بالكلمة المنمقة الجميلة خارطة مدينة فطرية، نعم عبثية، ولكنها مملوءة بالطيبة، وبالكلمة رسم صور التحول الأخلاقي الذي نجحت الحكومات العبثية في دفع النساء إليه قسرا، ففقدت الثقافة عذريتها على يد العوز والحاجة، فتحولت بعض الفضاءات إلى أماكن تفترشها فتيات بعمر الورود وبلون الصبار ألجأتهن الحاجة إلى أن يتحولن إلى بائعات، يبعن كل شيء من أجل بعض شيء عز العثور عليه في زمن الفقر والجوع والحصار.
برأيي أن حميد حسن جعفر أراد أن يقول من خلال كتابه هذا أنه من أجل أن يحصل الإنسان ـ مهما كانت أولياته ـ على رغيف خبز لابد له من أن يلوثه بمستقبل غير مضمون! فما بين البحث عن جسد أنثى والبحث عن لقمة تملأ الفم، تتحرك صناعة الموت خلف جدران مؤقتة ووسط ساحات مكشوفة، ويتحرك كذلك الإنسان الذي وجد نفسه فجأة على حافة الهامش بعد آن كان في مركز الحدث أو منتميا إليه!
وبرأيي كذلك أن حميد حسن جعفر نجح في خوض هذه التجربة الفريدة الموحشة الخطيرة، فأنا الرجل الغريب عن المدينة(الكوت) شعرت بعد أن أكملت قراءة الكتاب ليس بعلاقة حميمة مع مدينة لا تاريخ لي فيها ولا ذكريات فحسب، بل شعرت وكأني انتمي إليها، وعشت فيها عشرات السنين، درت في أسواقها وأزقتها، وتبادلت الأحاديث مع رواد مقهى البورصة، ورافقت (أبو الهوى) في مغامرته التجارية واستمعت إلى الخطباء القدماء وهم يلقون محاضراتهم الدينية في (الساحة الحسينية) بل وتبادلت نظرات الحب مع فتاة تقف في الصف الأخير من صفوف الحشد، أو حثثت الخطى في ظهيرة صيف قائظ لأحصل على (قالب ثلج) من معمل ثلج النجار.
خلال الطريق من الكوت إلى بغداد أنجزت قراءة الكتاب ولم أكن حينها اشعر أني اجلس في سيارة حديثه مكيفة بل كنت اشعر أني اجلس في ذاك المقهى المكتظ الذي قسا عليه الزمان وسلبه أبهته فحوله إلى (منجرة) للخشب استكثرها عليه الزمان فقاموا بهدمه وتحويله إلى موقف للسيارات وكأنها رمزية إلى ضياع الفرد والهيبة في مدينة توقف عندها التاريخ طويلا، وغادرها مستعجلا!
4283 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع