وأد البطل نهاية جيش وملحمة وطن /الباب الثاني: حروب الهدم البنيوي

      

الباب الثاني: حروب الهدم البنيوي
الفصل الاول:  الحرب العراقية الايرانية

حالة الجيش العامة

تضخم حجم الجيش بعد عام ١٩٦٨، وزادت أعداده، وتوسعت دوائر الأمن والشرطة بشكل مضطرد، كما ورد آنفا، إذ ارتفع تعداد منتسبيه مثلا من ٥٠ ألف إلى ٨٢ ألفا بعد تلك السنة، ووصل ١٠٢ ألف في ١٩٧٢، ثم إلى ٤٣٠ ألف عام ١٩٨٠، وإلى ٧٧٨ ألف ١٩٨٤، وإلى مليون مع نهاية الحرب عام ١٩٨٨(١)، وهذه زيادة سريعة جاءت على حساب الكثير من مستلزمات البناء العسكري الصحيح في مجالات الإعداد والتهيئة والتدريب والمعنويات، وفي إكساب المنتسبين الخاصية المهنية.
إن التضخم المذكور كان شبه محتوم للتعامل مع متغير الحرب، حيث الحاجة إلى مزيد من المشاة لمسك المواضع الدفاعية، على امتداد حدود اقترب طولها من ١٤٥٨ كم، والمزيد من الأفراد لصنوف أخرى لتأمين قدرة الهجمات المقابلة، لاستعادة أراض باتت السيطرة عليها متبادلة بين الطرفين المتحاربين في ساحة المعركة أحيانا، وكذلك المزيد من التعويض لسد النقص في الخسائر، التي أخذت تتزايد خاصة بعد سنة ١٩٨٢، لكنه تضخم سريع حصل خارج قدرة البنية العسكرية على استيعابه، صاحبته إدارة مدنية عليا للقوات المسلحة، غير مستعدة للالتزام بالمعايير العسكرية، تداخلت مع ظروف الحرب، لتكَّون وضعاً خاصاً للجيش، يعبر عن خليط غير متجانس لبعض ضوابط العسكرية، وسياقات التعامل الحزبي، واتجاهات الفعل المليشياتي، إذ أنه يقاتل مثلاً، ويقبل الخسائر، ويعيد تنظيم نفسه بضوابط العسكر، ويدار في أعلى قمة هرمه، ويهيئ نهج تفكير منتسبيه، والعلاقات بين أفراده بلغة الحزب وقيادته المدنية، وينظم أهدافه وسبل حركته وطبيعة ارتباطاته بطريقة المليشيات. وضع خاص جاء كنتيجة حتمية لتعدد الغايات التي أرادت الحكومة تأمينها من وجوده، وظروف قتاله. إذ ان المتابع يرى وبشكل واضح أنها أي الحكومة وضعت غايات، وبدلت أخرى، طوال فترة الحرب، فهي بالوقت الذي حددت ضرب الثورة الإيرانية وإجهاضها مع بداية الحرب كغاية قتال رئيسية، عاودت لتبدلها بعد سقوط المحمرة، في السنة الثانية للحرب، لتكون الدفاع عن الأرض بأقصى جهد ممكن. وهكذا في السنة الثامنة التي تحددت الغاية فيها بإيقاف إطلاق النار بأي ثمن كان. هذا وفي الوقت الذي تُحَددُ إحدى غاياتها الاستراتيجية، تقوية ودعم الجيش للصمود في الحرب، تضع أخرى ضمناً بعدم تجاوز قوته حدود الإفراط بالثقة، التي تهدد الحزب والحكومة. غايات وإن يبدو تغيرها طبيعياً في بعض الجوانب للتعامل مع النتائج، تبعاً للموقف السياسي والعسكري، لكنها أرهقت المنتسبين، بسبب حاجتهم لتبديل نهج تفكيرهم لاستيعابها، وتغيير سبل تنفيذها بسرعة لا تنسجم في معظم الأحيان، وسرعة جريان المعارك الدائرة على الجبهة. وعموما فإن مثل هذه العوامل لا يبدو تأثيرها كبيراً، على محصلة وضع العسكري والجيش، دون تفاعلها مع عوامل أخرى، أثرت كثيراً على مهنيته ودوره في الحياة العراقية، وسببت تخريباً في بنيته العامة، خاصة في المجالات الاتية:
1. القيادة.
 يعتمد الجيش في نجاح خططه في الحرب وأداء منتسبيه لتنفيذ تلك الخطط على عدة أمور بينها قيادة لابد وان تتمتع بقدر من الكفاءة والمهنية لإعداد "الخطط" تبعاً لتطورات الموقف العسكري، والمرونة والدراية، وإمكانية التأثير على المعية لزيادة دافعيتهم في تنفيذها. وعلى هذا الأساس عُدَّت القيادة من بين المبادئ الأساسية لكسب الحرب وترجيح التفوق، وهذه أي القيادة في الجيش العراقي طوال فترة الحرب مع إيران لو ألقينا على واقعها، نظرة بحث دقيقة نجد أنها، كانت قد اتسمت بخصائص أثرت سلباً بتطوراتها على الاداء العام للمنتسبين، وعلى مديات التزامهم منها:
آ. شبابية القيادة. كانت القيادة في عموم الجيش العراقي، ومنذ الأيام الأولى للحرب تهيمن عليها صفة الشبابية، إذ أن صدام وبسبب عمره الصغير نسبياً مع تسنمه المسؤولية، وعدم خبرته العسكرية، سعى الى أن يكون القادة الميدانيون من صفوف الضباط الشباب القريبين من عمره، والاصغر منه، ومن اللذين لا ينتمون الى العسكرية التقليدية "المخضرمة"، مع قبول بعض الاستثناءات المحدودة جداً، لأسباب مهنية وشخصية، مثل الفريق الأول الركن عبد الجبار شنشل المعروف بكفاءته العسكرية الجيدة، وشخصيته المهنية الممتازة. علما ان مساعي صدام لتحديث القيادة، ورفدها بالشباب، إجراء اتخذ لتأمين عدة غايات في آن معا، بينها تجنب احتمالات عدم تنفيذ بعض أوامر القيادة السياسية أو التلكؤ بتنفيذ خطط تأتي منها، ممثلة بشخص رئيس الجمهورية القائد العام، يجري فرضها" أي طلب تنفيذها" في كثير من الأحيان، وكأنها قرارات حزبية.
وإبعاد احتمالات استغلال ظروف الحرب في التآمر، وقلب نظام الحكم من ضباط يصنفون خارج المنظومة الحزبية للحكومة.
وبينها فسح المجال لأجيال الشباب من قادة يأتون من مدرسة الحزب، ويعيَّنونَ بمباركة العائلة والحزب، وبمراسيم جمهورية خاصة يصدرها قائد الدولة والحزب، وبالتالي فهم مؤهلين من وجهة نظر الحكومة، للتنفيذ والإخلاص أكثر من الأجيال التي سبقتهم.
ان الشبابية، صفة، بالإضافة إلى وجهة نظر صدام بضرورة تعميمها، فأن استمرار القتال وكثرة الخسائر في الضباط، وخاصة القادة والتوسع في تشكيل وحدات وقيادات جديدة، جعل الفوج والكتيبة على سبيل المثال تدار في أحيان كثيرة (خاصة في النصف الثاني من الحرب) من قبل ضابط برتبة نقيب، والتشكيل من ضابط برتبة مقدم، حصل على قدم عسكري أكثر من أربعة سنوات، وتسبب في أن تقاد الفرقة "أحياناً" من عميد حاصل على تكريم رتبتين في معركتين متتاليتين، وهكذا باتت بعض المناصب، تُشغل من ضباط تقل أعمارهم عن مستويات العمر/ الرتبة، التي يفترض وجودها في القياسات الاعتيادية للمؤسسة العسكرية العراقية.
ان الأعمار المبكرة والشابة وعلى الرغم من اتصافها بالاندفاع وبذل الجهد لتحقيق النجاح، لكنها وفي ظل إدارة الجيش آنذاك، جعلتها موسومة بخواص أخرى تؤثر سلباً على مجريات الحرب، وعلى وضع الجيش بشكل عام مثل الافتقار الى الحكمة، والتهور والتنفيذ الأعمى لتوجيهات الاعلى.
ب. نقص الخبرة. إن عامل العمر بالنسبة للعسكر العراقي وفي ظروف القتال، وتسارع الأحداث، وشدة الخسـائر، التي لم تسمح بتأهيل الضباط لمناصب القيادة والركن كما يجب، جعلت خبرة الضباط في المناصب القيادية تتناقص تدريجياً، لتكون في نهاية الأمر، مقتصرة على التعامل الميداني الآلي مع أحداث الحرب بشكلها الضيق، وعلى أساليب تعامل مع الأعلى يتأسس على كيفية عدم التقاطع معه، وعلى وسائلٍ لصيانة الأمن الذاتي تعتمد التكتم، والابتعاد عن الخطوط الحمراء التي تمس الحاكم ونظامه. يضاف إلى ذلك أن مدة التدريب والدراسة في الكليات العسكرية، قد تقلصت لأغلب سنوات الحرب، وتشكلت الكلية العسكرية الثانية، لتخريج ضباط من أصول حزبية، ومن ضباط الصف المطلوب منحهم رتب ضباط، وبأوقات لا يجد فيها المتخرج فسحة يتعلم فيها أصول الضبط والتشبع بالمهنية العسكرية، وكذلك الحال بالنسبة إلى كلية الأركان، والى الدورات التأهيلية التي توقفت في السنتين الأولى من الحرب على وجه الخصوص. وتوقف معها إيفاد الضباط بدورات عسكرية خارجية إلا للأغراض الأمنية.
ج. سرعة الانفعال. إن تلك الخاصيتين سحبت الضباط بالإضافة إلى أسلوب التعامل القسري الانفعالي للقيادة الأعلى، إلى أن يكون الآمر / القائد انفعالياً في أحيان غير قليلة، أو بالمعنى الأدق شديد الغضب، قليل المرونة والحكمة، حتى بات الضباط يرون في عديد من المواقف، تحول قائد الفرقة أو الفيلق مثلاً، من مناقش لتقدير موقف دفاعي يمسك عصى تأشير، إلى شاتم ببذاءة من يتأخر عن الالتحاق بوحدته قبل الشروع بالهجوم. ومن موجه يحاول استثارة همة المقاتلين في معركة هجومية، الى عدواني يتوعد بالموت دون رحمة. انه انفعال سلبي سريع، ومزاج متقلب سريع ايضاً، تسببا ليس بتشويه صورة الآمر/ القائد في عقول المنتسبين فقط، بل وعزز في سلوكهم، المقت، ومحاولة الابتعاد عن الطريق الذي يكون هو أحد سالكيه، وإن كان ثمن الابتعاد خسارة لموقف أو معركة عسكرية مهمة.
ان سرعة الانفعال، سلوك تمثل أيضاً بتذبذب وغرابة بعض الأوامر الصادرة من القيادة العامة، لاقتحام مواضع حصينة للعدو، بقوات تقل عن القياسات التقليدية للهجوم. او الطلب من وحدة عسكرية أن تصمد في موضوع دفاعي شبه معزول، يتفوق عليها العدو الهاجم بأكثر من عشر أضعاف، دون ان تؤمن لها أبسط مستلزمات الدعم والاسناد. وتمثلَ بإصدار اوامر فورية من بعض القادة، لا نقاش في مجالها، مطلوب فيها التنفيذ الفوري لخطط آنية، لا تسمح طبيعة الارض وظروف المعركة تنفيذها، كما هو الحال في معركة الفاو الأولى، التي طلب فيها من وحدات بالتقدم في أرض ملحية طينية لا تصلح للتقدم. وتمثل أيضاً بسرعة القرار على اعدام بعض الضباط ميدانياً، إثر خسارة معركة لم يتم التحقيق بالأسباب الفعلية لخسارتها، كما جرى في معارك المحمرة والشيب المشهورة، اذ أعدم ضباط قادة دون تقصير ميداني بينهم اللواء الركن صلاح القاضي قائد فيلق.
د. تحميل الغير أعباء الفشل. ان بعض الخطط التي من المستحيل تطبيقها عملياً، وقسم من الاوامر التي لا يمكن تنفيذها، يُحَمِل القائد العام أعباء الفشل فيها على المنفذين، وقد لا يكتفِ بالتنويه عن فشلهم أو لومهم، بل واختيار البعض منهم قرابين تدفع ثمن هذا الفشل. فيتخلص على اساسه من البعض، لشكوك في الولاء سابقة، ولمعلومات تجمعت في أضابيرهم، وربما لإقناع نفسه لا شعورياً أن خططه رصينة، وإن وراء الفشل عيوب في التنفيذ دفع ثمنه المعنيون. وفي المقابل يجني هو ثمار النجاح عبقرية لا حدود لها، وقدرة خارقة، وهكذا امتدت هذه الطريقة لتشمل الأوامر الصادرة منـــه شخصياً، إذ يعني نجاحها صحة هذه الأوامر وصواب معناها، وعظمة وقدرة مصدرها. والعكس من ذلك وارد، أي في حالة الفشل، فإن المنفذين لم يكونوا بالمستوى المطلوب أو أنهم معادين أو مشكوك بولائهم. وهكذا تقمص بعض القادة العسكريون هذه الخاصية غير السوية، وتوجهوا الى التعامل مع الفعل، خطئاً كان أو مشكوك فيه خطأ وتحديد العقاب المسبق بالمستوى الذي لا يستحقه الخطأ أحياناً.
٢. القيم العسكرية.
تدار الجيوش وتوجه، من خلال القوانين والضوابط والتعليمات المكتوبة، وكذلك من خلال المعايير والقيم العسكرية غير المكتوبة، منها التي تُنتَجُ من حصيلة التدريب، وسياقات التعامل، وامتداد العمل العسكري، مثل روح الجماعة والالتزام والشرف العسكري والتكافل والتواد والإخلاص، وغيرها، العديد من القيم اعتاد المنتسبون على الالتزام بها، والتعامل معها، اجيالا متعاقبة، لتكون في محصلة الأمر سلوكا مهنيا لهم.  كانت موجودة بشكل مقبول عند العسكر العراقي حتى عام 1968، لتبدأ بالتغير الذي تسارع بشدة كبيرة في الحرب العراقية الإيرانية بسبب ضوابط، ومعايير، وتعليمات فرضت من القيادة السياسية "المدنية" العليا التي تقود الجيش، لتنتج وضعاً غير طبيعياً حَرفَها "القيم" كثيراً، عن مسارها الوطني، والتزامها المهني، والأخلاقي من خلال الآتي:
آ. التطرف في فرض العقاب. هناك في قانون العقوبات العسكري الذي كان سائداً آنذاك مواد، وفقرات شملت معظم السلوك العسكري المخالف، وحددت نوع العقوبة الملائمة لإطفائه، أي لتصحيح السلوك الخطأ، عند العسكري في حالة حدوثه من ناحية، وللحيلولة دون تكرار حدوثه من ناحية أخرى. كما حددت التعليمات طبيعة وشكل فرض العقوبة، وصلاحيات سلطة الضبط، وهذه مسائل تُدَرّسْ للضباط الذين يمثلون تلك السلطة، وبعض منها للمراتب المعنيين في بعض جوانبها، بقصد مساعدتهم على تفهم تبعاتها، وبالتالي تجاوزها جهد الإمكان. لكنها "أي العقوبة" في القيادة المدنية الحزبية للقوات المسلحة، لم تُفهم على أساس التشكيل الصحيح للسلوك المهني للعسكر، وانما السعي لتكوين سلوك الاستجابة الآلية للعسكر، أي أن يعمل العسكريون بدوافع واستجابات غريزية، لا عــقلانية، وكانت العقوبة بأبشع صورها وأعلى مستوياتها هي الأداة التي تُشَكِل هذا النوع من السلوك. لذا تم التوجه الى قطع الآذان، وبتر الانوف، وتعليم الجباه، عقوبة لمن يتغيب عن وحدته من المنتسبين. وأصبح الإعدام مثلاً عقوبة تمتد من التقصير غير المتعمد لتنفيذ الأوامر إلى الغياب والهروب، وانتقاد القائد .....إلخ، من مغالاة ساعد فرض العقوبة على حصولها بهذا الشكل، بعض الضباط القادة، المعروفون أصلاً بتطرفهم في تطبيق العقوبة. بينهم الفريق الركن طه الشكرچي قائد الفيلق الثاني، أول من بدء توزيع عقوبة الإعدام على الضباط والجنود دون تمييز، لمجرد الشك بالتقصير، وأول من أوجد صيغة التنفيذ الفوري لعقوبة الإعدام ميدانياً دون محاكمة، بعد إعادته إلى المؤسسة العسكرية من التقاعد، وتكليفه بقيادة الفيلق المذكور بعد الانتكاسات التي حصلت في ميدان الحرب بعد عام 1982، وهو من بين المعروفين باستخدامهم السيئ للسلاح ضد الأكراد، وقتله الجماعي لنسائهم وشيوخهم وأطفالهم، ابان خدمته كأمر الفوج الثاني لواء المشاة الخامس عشر، منتصف ستينات القرن الماضي.
وبينهم الفريق الركن صباح هشام الفخري، الميال الى تنفيذ عقوبة الاعدام ميدانياً، وعلي حسن المجيد، الساعي الى توجيه النقد الجارح، والشتم المباشر للضباط القادة والآمرين قبل اعدامهم، وغيرهم آخرين عززوا هذا السلوك السلبي في المؤسسة العسكرية بعد صدام حسين. سلوكٌ، بات شائعاً في التعامل بين الأعلى والأدنى في بعض مفاصل القيادة العسكرية العراقية، وبمستويات ملموسة، وأستمر معها أسلوباً مميزاً عندما يتأزم الموقف على وجه الخصوص.
  ان عقوبة الإعدام التي شاع الحكم بها في تلك الفترة، وتخويل صلاحيات البت بشأنها الى القادة والآمرين ومدراء الامن والشرطة دون محاكمة قانونية، وتنفيذ الحكم ميدانياً أمام المنتسبين أعمالٌ، لم تبق مسافة معقولة بين مستويات المخالفة، تتيح مجالاً لتغيير السلوك، ولم تحقق الردع النفسي لتشكيل السلوك المهني، بقدر مساهمتها في التخلص من مسبب الفعل خشية تعميمه على الآخرين واستشراء المخالفة التي تهدد الأمن. كما إن العقوبات التي باتت تفرض على الأشخاص لأفعال لا تستحقها قانونياً، أخذت تمتد إلى مجرد النوايا، وبات التفسير الآني للنوايا المشكوك فيها يتأسس في بعض جوانبه على الاصول الطائفية والمناطقية، وهناك في هذا المجال كثير من الشواهد في مجالها نرى مثلاً ان إخفاق آمر لواء من أهالي الناصرية في الدفاع عن مواضع لواءه تجاه هجوم معادي، يُفسر قائد فرقته والفيلق وأعضاء القيادة العامة في كثير من الاحيان، أن إخفاقه هذا تقصير ربما يكون متعمداً، وهو شك مسبق في النوايا يُسَهل جداً إصدار عقوبة الإعدام بحق الضابط المشكوك بولاءه أو بنواياه، في الوقت الذي يفسر نفس الإخفاق في موقف ميداني مماثل لقائد فرقة أو آمر لواء آخر من أهالي شمال الوسط ، وفي ذات الظروف بان العدو كان متفوق بنسب كبيرة ويجنبوه العقاب، وإذا ما كان لابد من توجيه عقاب، فقد يكون مجرد التوبيخ كافياً.
إن التنفيذ الميداني الانتقائي لعقوبة الإعدام عزز عدائية القيادة العسكرية ضمنياً وجعل شريحة واسعة من الضباط يعيشون حالة قلق وتوتر مستمرين، واستنزف جزءً كبيراً من طاقتهم النفسية، ودفع البعض منهم إلى التنحي عن الطموحات الشرعية لتولي المناصب القيادية أو حتى الانتحار المشرف في معركة لا تسمح مهنيتهم العسكرية وشجاعتهم الشخصية ان يتهموا خلالها بالتخاذل أو بالتقصير. اذ وعلى وفق نظرية الشك والتفسير على أساس النوايا كان الفريق الركن هشام صباح الفخري، وبعض أعضاء القيادة العامة يشرفون على معركة استطاع فيها الإيرانيون عام 1984 خرق الدفاعات العراقية من جهة العزير، والوصول إلى الطريق العام بصرة - عمارة، وقد جمعوا أولئك القادة وحدات وتشكيلات للتعامل مع الموقف، بينها لواء يقوده العميد الركن قوات خاصة عباس مزعل، قد تكبد خسائر زادت عن 80% وتوقف عن إدامة زخم الهجوم، عندها بعثوا على العميد واتهموه بالتخاذل، وقبل أن يتموا سيناريو اتهامه على أساس النوايا، قطع عليهم الطريق بشجاعته المعروفة، قائلاً "سوف أثبت لكم عكس ما تعتقدون"، وتقدم باتجاه الإيرانيين على مرأى منهم منفرداً، فتلقى صلية من مشاتهم أنهت حياته عضوياً، وأبقت صورته ضابطاً شجاعاً، مهنياً كفؤاً، لم يفكر بالتقصير على أساس انتماءاته الطائفية، ولم يكن خوفه من الموت سبباً لذلك الإخفاق. وهكذا أصبحت مثل تلك الحوادث وأسلوب التعامل معها معايير، وقيم تحكم السلوك العام للقادة والمدراء آنذاك، فتكونت بسببها وضوابط أخرى، وضعاً لغالبية المنتسبين قوامه التوتر والقلق.
ب. الإسراف في توزيع الثواب. عند تناول مسألة العقاب وتأثيرات استخدامه على التخريب البنائي الفكري، والمعنوي في الجيش والقوات المسلحة لمرحلة الحكم المذكورة، وإبان الحرب العراقية الإيرانية على وجه الخصوص، يتبادر إلى الذهن موضوع الثواب الذي لا تقل آثار استخدامه سلباً في مجال التخريب البنائي عن العقاب المذكور بعد أن تجاوزت القيادة العسكرية المعنية في استخدامه حدود العتبة الفارقة لضبط السلوك. وتمادت كثيراً في ترجيح كفة العقاب، والجهل في عدم الاستفادة من الأسس التربوية ومبادئ التعلم لما يتعلق بالثواب والعقاب في تشكيل وضبط السلوك.
ان التجاوزات في موضوع الثواب كانت قد جاءت من عدم تحديد القيادة العامة ضوابط معينة للإثابة أو التكريم كما أسمته من جانبها، وأبقت مجاله مفتوحاً لاجتهاداتها وعموم القادة والامرين في ظروف غير طبيعية. وفي ظل خصائص شخصية انفعالية. وبدلاً من اعتماد ضوابط، وأسس مرجعية لنوع التكريم، والفعل المطلوب تكريمه، ووقت التكريم، تركت كثيراً من نهاياته سائبة للتصور الشخصي والتقدير الآني، حتى كُرم ضباط لشجاعتهم في معارك، وهم خلالها يتمتعون في إجازاتهم الدورية أو يرقـدون جرحى في مستشفيات المقر العام. وكُرِم ضباط بمنحهم رتبة عسكرية على أدائهم في معركة، في الوقت الذي كرم زملاء لهم بنوط شجاعة في ذات المعركة لأداء تفوق جودته، ونسبة المجازفة فيه أولئك الذين حصلوا على الرتبة العسكرية.  وكُرم بعض ضباط من أهالي أعلى وسط وشمال العراق العربي "مثلث الجزيرة" بالقدم الممتاز لعدة سنوات تكررت في عدة معارك، وكرم أقرانهم من مناطق أخرى بالشكر والتقدير أو بنوط شجاعة. كما كرم جنود مراسلين وأفراد حماية قادة فيالق بمنحهم رتبة ضابط، وهم لم يخرجوا من بيوتهم أو لم يغادروا مزرعة القائد الخاصة. مثال على هذا ما حصل في معارك الفاو الأولى عام 1986، اذ وبعد أن أحتل الايرانيون عقد تربط تقاطعات الطرق في المملحة، والأراضي المغمورة خارج القضاء، حاولت قطعات الفيلق السابع، وقوات الحرس الجمهوري استرجاعها، وقد فشلت هجماتها المقابلة عدة مرات، الأمر الذي دفع القائد العام إلى تخويل قائدي الفيلقين، بمنح رتبة ضابط لأي جندي أو ضابط صف يصل إحدى العقد، ودارت معارك تكبد فيها الفيلق السابع خسائر جسيمة، وكذلك الإيرانيون دون أن يحقق أهدافه، وبعدها بفترة وجيزة قابل قائد الفيلق في مقره صحفيين كويتيين محملين بالهدايا، وفي خضم استعراضه لأعمال الفيلق، أشار بعصاه إلى أحد الضباط الملازمين يقف في باب بهو الضباط، مؤكداً أنه قد منحه الرتبة تقديراً لشجاعته في معارك الفاو. علما ان هذا الملازم كان أحد مراسليه الذين يتواجدون في مزرعته باستمرار. لقد حصلت حالات منح تكريم مفرط للبعض، وآلاف غيرهم ينزفون دماً على الحافات الأمامية، لم يتذكرهم ذلك القائد بكلمة ثناء تخفف معاناتهم. وهكذا أصبح التكريم عامل هدم وتخريب للسلوك أكثر منه دافع لتحسينه.
ج. مادية الإثابة. لقد حولت القيادة معالم التكريم إلى درجات من الكسب المادي، يحصل فيه صاحب نوط الشجاعة مثلاً على منحة مالية قدرها خمسة آلاف دينار. ويكسب صاحب الأنواط الثلاثة لقب صديق الرئيس، ليحصل بموجبه على سيارة، وقطعة أرض سكنية، وقبول غير مشروط لأبنائه في المدارس والكليات، وإلى مخصصات شهرية على راتبه، ومنح مالية في الأعياد والمناسبات الرسمية، تتضاعف مقاديرها مع سيف القادسية وغيرها، حتى أصبح عديد من العسكر، وتحت ضغط العوز والظروف الصعبة يقاتل ليس دفاعاً عن الوطن كما هو معهود أو سعياً لتحسين السمعة المهنية كما هو معروف. ولا يقاتل أيضاً عن أهداف وحدته التعبوية كما يحصل في بعض الأحيان، بل وعلى العائد المادي الذي يمكن جنيه من أداء ما، وأيا كان شكله ونسبة المخاطرة فيه، وهذا أمر تجاوزت تأثيراته الجانبية مسألة المهنية العسكرية، لتعزز بعض أنواع السلوك الخطأ عند البعض من الضباط، إذ أصبح قسم منهم يختلق مواقفاً وهمية يذكرها في التقارير المرفوعة للجهات العليا منها مثلا:
أولا. يجوب آمر فصيل المشاة الأرض الحرام، وهو لم يدخلها أبداً.
ثانيا. يتسلل آمر سرية قوات خاصة خلف خطوط العدو، وهو جالس في مقرٍ لم يغادره.
ثالثا. يدمر ضابط المدفعية كل أسلحة العدو الخفيفة، وقذائف مدفعيته الثقيلة، في الوقت الذي لم تؤثر اطلاقات جميع مدافعه على نيران العدو المستمرة في الرمي، ولم تُسكت واحدة من تلك الأهداف.
رابعا. يزيد قائد الفرقة والفيلق من عدد خسائر العدو المذكورة، في المواقف التي ترسل اليه مرات مضاعفة ويتفنن في التعابير الانشائية، ليعطي تصوراً أن قطعاته قد تسببت في تناثر جثث عدوه، أعداداً لا تحصى في أرض المعركة، وبنفس الوقت يقوم بالتقليل من عدد خسائره بمقادير لا تذكر بالمقارنة مع خسائر العدو، ولا تزيد في بعض المعارك الشديدة عن أصابع اليد. وبهذا الصدد يتذكر العديد من الضباط الذين عملوا مع اللواء الركن طالع الدوري، قائد فرقة المشاة التاسعة في معارك الخفاجية بداية الحرب العراقية الايرانية، عندما كان يجلس في غرفة الحركات، يستمع الى عرض رئيس أركان الفرقة لمواقف ألويته التي صدت هجوماً إيرانياً، ولخسائر العدو فيها، مئات القتلى، وعلق في حينه تعليقته الشهيرة، "كيف تكون الخسائر بالمئات في معركة كبيرة". تعليق أسكت الحضور من هيئة الركن، لأقل من دقيقة، أعقبه بطلب تثبيتها في الموقف المرسل إلى الفيلق "آلاف القتلى". وكان البيان العسكري في مساء نفس اليوم يشيد بأبطال الفرقة التاسعة، وقائدها اللذين كبدوا العدو آلاف القتلى، وعديد من الأسرى.
لم يكن اللواء طالع هو الوحيد، فهناك مثله كثير من الساعين الى المبالغة، والايهام بقصد الحصول على كسب مادي "مكارم"، ولضمان رضا القائد "الحاكم" أو تفادي غضبه. كما ان القيادة العامة، كانت تعمل الشيء نفسه في العديد من بياناتها العسكرية.
د. ارتباط الإثابة برضا القائد العام. تجري الإثابة " التكريم " في مستويات القيادة دون مستوى الفيلق بموافقة الآمرين/ القادة، أما على المستوى الأعلى، وأعضاء القيادة العامة للقوات المسلحة، وأحياناً قادة الفرق في بعض المواقف، فتكون عادة بأمر القائد العام، عليه أصبحت تعكس مديات رضاه عن أولئك القادة، ورضاه هذا يتعمم على رضى الآخرين، وأساليب تعاملهم تملقاً له وللمحيطين به، وتقرباً اليه والى المؤثرين من حاشيته، والعكس منه صحيح، إذ أن أي إهمال لأحدهم من قبل القائد، سيكون اهمال له من قبل الآخرين. وهكذا أصبحت طريقة توزيع التكريم عقاباً وإهانة في بعض الأحيان، لمن يريد القائد الحط من قدره. ففي معارك الفاو الثانية على سبيل المثال، اقتضت خطة الهجوم، التقدم على المدينة برتلين أساسيين يقود الرتل الجنوبي " المحاذي إلى شط العرب الفريق الركن ماهر عبد الرشيد قائد الفيلق السابع، ويقود الآخر الساحلي "أم قصر الفاو" الفريق الركن أياد فتيح الراوي، قائد قوات الحرس الجمهوري، وتم تنفيذ الخطة بنجاح وبوقت قياسي، وفي حفل التكريم وتوزيع الأنواط، منح أياد فتيح 27 نوط شجاعة، وأعطي ماهر عبد الرشيد نوطاً واحداً، فكانت صفعة، وجهها صدام إلى الأخير الذي يحاول أن يضفي على شخصيته هالة كبيرة، ويطمح إلى مناصب أعلى، وكانت النهاية الحتمية التي دفعته إلى الانعزال في الصحراء مع إبله، وأغنامه.
3. تأرجح الحال المعنوي.
تعبر المعنويات عن حالة رضا، وارتياح تساعد المقاتلين على الاندفاع في قتالهم، وزيادة القدرة على التحمل. حالةٌ مستوياتها متذبذبة غير ثابتة، تتعلق بطبيعة المعارك الدائرة، وبوضع المقاتل في وحدته وفي وطنه، لأن قتاله واداءه في القتال بمعارك اليوم ذات الاسلحة الالية الالكترونية المتقدمة، لم يعد فعالاً ومحمياً بقوته الجسمية وتفوق مهاراته في استخدام السلاح فقط، ولم يبق صراع رجل لرجل آخر، كما كانت حروب الامس، بعد ان أضحى قتالاً، يتأثر بعدة عوامل تتفاعل جميعها، لتنتج حالة معنوية تجعله مندمجاً مع الأغلبية، يستمد ثقته منها، تساعده إلى حد كبير في التحكم بانفعالاته، ومواجهة ضغوط المعركة ومخاوفها (2).
محصلةٌ، يمكن تعميمها على الجيش العراقي في الحرب مع إيران، التي تضافرت عديد من العوامل لتحديد معنويات منتسبيه، بمستويات كانت تتأرجح دوماً بين الجيدة أحياناً والهابطة تماماً أحياناً أخرى، وبغض النظر عن جوانب التقييم الآني للمعنويات والعوامل المؤثرة في رفعها وخفضها، مسائل لا تدخل في صلب موضوعنا هذا.
لكننا وفي جوانب خطى الهدم المهني والتخريب القيمي، يمكننا القول إن التذبذب واقع حال، تعامل معه بعض الآمرين بشكل جيد استطاعوا بواسطته تجاوز حالة ضعف في موقف محدد، بكلمة تشجيع أو إثابة ما أو وعد معين، وجد الضعيف فيها أن حاله أو مزاجه قد تحسن، وتغيرت مشاعره من الضجر والبؤس إلى النشوة والارتياح، ويجد بعدها انه مستعد لتنفيذ الواجب.
ان المعنويات حالة، تؤثر وتتأثر بالقدرة العامة على التحمل، والميل إلى الاندفاع، وكم الانجاز، ونتائج القتال، وإذا ما أريد مناقشتها لأغراض التقييم في الحرب المذكورة، يتذكر المشاركون فيها ان المعنويات على وفق هذه المعايير، كانت في بداية الحرب جيدة الى حد ما، وكان تأثيرها على الاداء القتالي ايجابياً، لكنها وبعد سنتين منها، واثر الخسائر الكبيرة لبعض المعارك، باتت منخفضة بشكل واضح، وبات تأثيرها على الاداء سلبياً، وبات الجهد المبذول لإدامتها واسعاً، خاصة من الناحية المادية، حيث الافراط بتوزيع الهدايا والمكارم. وباتت مشاعر في السني الأخيرة للحرب بوجه عام ضعيفة، اذ ولولا الدعم المادي والتخويف النفسي، لما بقيت المعنويات بمستويات تتأرجح بين الضعيفة مرة والمقبولة مرة أخرى، وبمستويات ساعدت على الاستمرار في القتال وانهاء الحرب تعادلاً سلبياً للطرفين.  

إدارة أعمال القتال

لقد اكتملت صورة التسييس المخطط لها أو بالأحرى خطوات التبعييث المطلوبة، فور رحيل البكر عن السلطة عام 1979. وأصبح البديل "صدام" الشاعر بعنفوان القوة، قائداً عاماً للجيش والقوات المسلحة التي يرى فيها أداة تنفيذ جيدة لتوجهات القوة، ووسيلة تحقيق لطموحات عالية لفرض الواقع بالقوة، وأول عمل عبر عن هذا المفهوم بوضوح هو الدخول في حرب مع ايران، اعتقد في بدايتها ان باستطاعته اعادة المحمرة وعربستان الى الجغرافية العراقية، موهوماً بالقوة التي عززتها دعاية الغرب في نفسه الراغبة في التعزيز، هدف صفق له بعض القادة العسكريون البعثيون الذين قادوا الحرب، مدفوعين بأوهام الشعارات التي تشبعوا بها من فكر الحزب، اثناء عملية التبعييث، واتموا خطوات التعزيز، من خلال تدريسه "القائد العام" فن الحرب وادارتها الاستراتيجية، بفترة زمنية غير كافية لاستيعاب علوم تحتاج الى عدة سنوات وخبرة قيادية ميدانية. ومنحه رتبة فريق ركن أثناء عملية التأهيل، ومن ثم مهيب ركن بعد الاستلام المباشر للسلطة. ومن بعدها التعامل معه على وفق توجهات التعظيم المغالى به. فتيقن أو توهم أنه عسكري بالفطرة. ومُنَظّر استراتيجي بالموهبة. وبات يتدخل في التفاصيل التعبوية، وَينظرُ الى الأسفل من زاوية الاستعلاء، ويأمر بحل المشاكل والمصاعب باستخدام القوة. وبالتالي تسبب في خسارة معارك رئيسية في الحرب، وتهديم بنية القوات المسلحة والجيش على حد سواء. ولإعطاء صورة كاملة عن أثر هذا التعامل في عملية التهديم، ستتم مناقشة أهم المشاكل الميدانية التي ظهرت في ساحة الحرب العراقية الايرانية، بسنواتها الثمانية، والتي كان لها الدور البارز في اتمام خطوات الهدم بينها:
1. التسرب.
 بدأت كلمة التسرب، تعمم على العسكري أو مجموعة العسكريين الذين يتركون مواقعهم القتالية أثناء الدفاع ضد هجمات العدو بدون أمر، أو في حالات التقدم هجوماً على العدو تخلصاً من بعض الضغوط التي تفرضها ظروف المعركة، وهو مفهوم شاع استخدامه في الجيش العراقي، بعد السنة الثانية من الحرب على وجه التقريب، عندما تكررت حالات ترك البعض لمواضعهم أو عدم استمرارهم بالتقدم باتجاه أهدافهم، فكانت تكرارات شكلت ظاهرة، بدأت واضحة في معارك الشوش عام 1982 وفي المحمرة نفس العام، بعد أن تبين أن قسماً من المراتب، يتركون وحداتهم وهي في المعركة الدفاعية أو الهجومية ليتسللوا "يتسربوا" إلى الوحدات المجاورة أو المدن والقرى القريبة، ويهيئوا أنفسهم للالتحاق اليها "وحداتهم" ثانية بعد انتهاء المعركة مباشرة، مستغلين عدم إمكانية متابعة الموجود، والنشر والغياب خلال فترة القتال، وكانت تلك ظاهرة قد استشرت بشكل واضح في عموم الوحدات، خاصة صنف المشاة، الذي تَحَمل منتسبوه ضغوط المعركة بدرجات تفوق كثيراً الصنوف الأخرى، بالإضافة إلى أن تسربهم، وتسللهم هو أسهل من غيرهم في باقي الصنوف المثقل منتسبيها بمدافعهم ودباباتهم وغيرها أسلحة ثقيلة، تشعرهم احياناً بتحمل مسؤوليتها، رغم صعوبة استثناء أحد "الصنوف" من حدوث التسرب بشكل مطلق. وعموماً فإن استشراء هذه الظاهرة دفع القيادة إلى التعامل معها، على وفق النتائج دون الأسباب. وهنا تجدر الاشارة الى ان التعامل مع النتائج المطلوب تحقيقها، خاصية اتسمت بها قيادة الحرب آنذاك، لم تقتصر على موضوع التسرب، بل وامتدت الى جوانب قتالية أخرى، تحدد فيها القيادة الأعلى ما مطلوب "نتيجة"، مثل الاحتفاظ بالموضع الدفاعي، ومن بعد التحديد لا تهتم بخطوات الوصول الى هذه النتيجة. ولا تحسب عامل العدو، ولا طبيعة الارض، ولا الاستعدادات المتخذة. المهم من وجهة نظرها الاحتفاظ بالموضع كنتيجة، وما عداها غير قابل للنقاش. وعلى أساسها أمرت في المراحل الأولى كافة القادة الميدانيين والآمرين، منع حدوث التسرب بأي ثمن، وخولتهم صلاحية الاعدام الفوري في المكان الذي يلقى القبض فيه على المتسرب، وعندما لم يوقف هذا الاجراء اتساع الظاهرة، أمرت بتشكيل لجان من الحزبيين، والانضباط العسكري، والاستخبارات العسكرية، تتواجد في أماكن متعددة خلف القطعات التي تخوض المعركة، لِتُعدِم كل من تراه عائداً إلى الخلف، أو ماكثا في مكان ما بعيداً عن وحدته(3)، وفي هذا الجانب ظهرت تسميات واجراءات بينها على سبيل المثال:
سرايا معالجة التسرب. إذ وبعد أن كثرت الضحايا نتيجة الاعدام الخطأ، لبعض الملتحقين من الإجازة أو المراتب المعنيين بتوزيع الارزاق أثناء عودتهم الى المقرات الخلفية بعد اداء مهامهم، أو أولئك الهاربين من الأسر أو التائهين عن أهداف مطلوب بلوغها أو المصابين بالصدمة النفسية، أو المتعمدين لارتكاب الفعل خوفاً بدعوى الاشتباه بارتكاب فعل التسرب، في معارك ضارية اختلطت فيها الامور، وصعب فيها التمييز. وعلى الرغم من هذه الكثرة والظلم الواقع بسببها، فان حجم الظاهرة استمر في التزايد بوتيرة دفعت القيادة الى إصدار أوامرها بتشكيل سرايا خاصة لمعالجة وضع المتسربين بمستوى الفيالق، وبإشراف الفروع الحزبية العسكرية، فكانت لجان وسرايا يخشاها المراتب، وحتى الضباط أحيانا أكثر من خشيتهم الطرف الذي يقاتلونه. وبهذا الصدد هناك آلاف الامثلة الحقيقية، بينها اعدام الجندي حيدر عباس الجبر، في المعركة التي استعاد الايرانيون فيها المحمرة عام 1982، على اساس تسربه من وحدته وفقدان بندقيته، وعند متابعة قضيته من وحدته عن قرب، ذكر آمر فصيله بعد اسبوع من تنفيذ الاعدام، وبصفة غير رسمية لخوفه من الدخول طرفاً في الموضوع، أن المومى اليه لم يتسرب من المعركة، التي خسرت فيها وحدته مواقعها، ولم يفقد بندقيته، وانما أُسرَ من قبل الايرانيين مع مجموعة من منتسبي السرية أثناء اجتياحهم مواقعها، وبعد عملية الاسر بفترة قليلة تعرض المكان الذي يتواجدون فيه قبل أخلائهم للخلف، الى قصف مدفعي عراقي شديد أربك الموقف الايراني، فاستطاعوا الهروب باتجاه الموضع الدفاعي لوحدتهم، تحت مظلته اي القصف، وعندما لم يجدوا الوحدة في موضعها الاصلي، توجهوا صوب المقرات الخلفية على طريق ترابي، كانت قد نصبت عليه السرية الخاصة بالتسرب كميناً اعترضهم، ومن ثم اعدمهم في الحال، دون الاقتناع بعملية هروبهم، واستحواذ الايرانيين على اسلحتهم مع بداية اسرهم.
وبينها أيضاً التوسع في موضوع الاشتباه فلسفة باتت شائعة إذ وبعد أن تداخلت عديد من العوامل في القتال الدائر، وضعفت المعنويات، وأصبح الاشتباه في سلوك الاستجابة القتالية بالمعركة الدائرة وارداً ومتعدد الاوجه، وبسببه فَضَّلَ البعض "احياناً" التوجه إلى الأمام وقبول حالة الأسر على احتمالات البقاء والتعرض للاتهام بالتسرب، الأمر الذي تسبب في زيادة عدد الأسرى العراقيين لدى إيران، وتسبب في تكوين حسرة أو ضيق وعدم ارتياح عاشه الكثير من العسكريين طيلة المعارك التي شعروا فيها أنهم محصورون بين نارين، كلاهما حامية لا ترحم.
وبنفس الوقت تعزز في العقل القيادي الميداني وجهات نظر لا يمكن البوح بها، تنم عن عجز القيادة، وجهلها بحل جذور التسرب وأسبابه العديدة والمتشعبة، وبدلاً من الحل الفني/النفسي، لجأت إلى توسيع رقعة الاشتباه بارتكاب فعل التسرب واتخاذ أقصى العقوبة "الاعدام الميداني" كأقصر الطرق، وبالفعل استطاعت أن تقلل من حجم الظاهرة، وعدد مرات حدوثها، خلال النصف الثاني من فترة الحرب، لكنها بالمقابل أرهقت الوضع النفسي لعموم منتسبي الجيش العراقي، وأبعدتهم عن معايير التعامل المهني بشكل واضح وملموس.
علما ان الشواهد الميدانية، وقليل من الدراسات غير المنشورة، بينت ان العامل النفسي ذو الصلة بهبوط المعنويات والشعور بالتفوق الميداني للعدو في المعركة "أحياناً"، وعدم الاطمئنان لاستعداداتها، واضطراب القيادة وفقدان السيطرة، وعدم الاقتناع بالحرب، وراء حصول هذا النوع من السلوك "التسرب" الذي اضطر البعض من المنتسبين الى القيام به على الرغم من ادراكهم الواعي لعقوبة الاعدام(4). عوامل، منها يتبين ان الضغط النفسي، كان يفوق الادراك الواعي لعملية الاعدام نفسها. ويتبين كم المعاناة في تلك الحرب القاسية.
2. الإخلاء والتعويض.
يشعر المقاتل في المعركة نوعاً من الأمان، يدعم وضعه المعنوي والنفسي، عندما يتأكد أن منظومة الإخلاء في وحدته فاعلة، واحتمالات إنقاذه عند الإصابة عالية المستوى، وبعكسه فان المشاعر في نفوس المنتسبين، ستشكل مشكلة تؤرقهم، وكانت هي كذلك في هذه الحرب، إذ أن القيادة ورغم تأمينها مستشفيات ميدان آلية متحركة على مستوى عال من الكفاءة والمهنية، وسعي طبابتها إلى دعم وحدات الميدان الطبية بالجراحين الجيدين طيلة فترة الحرب، لكن الجهد الذي خصصته تلك القيادة لتجاوز هذه المشكلة يقل كثيراً عن ما خصص لأمور القتال، وحشد النيران، وهذا يأتي لجهلها بالأمور النفسية والمعنوية، ووقوعها في مطب استخدام الإيرانيين لتعبية الكثافة البشرية في قتالهم، الأمر الذي دفعها إلى تركيز الجهد البشري لزيادة عدد المقاتلين، وتركيز الجهد الفني لزيادة كم النيران، وهذه رؤية خاطئة في الحروب الحديثة التي تتطلب موازنة دقيقة بين حامل البندقية من المشاة أو الرامي في الدبابة، وبين الخدمات التي تقدم لدعمه، حتى قيل أن جندي مقاتل في الحافات الأمامية يخدمه عشرات الآخرين، بينهم المكلفين بإخلائه عند الضرورة، وهذه الموازنة المتعثرة في الجيش العراقي آنذاك، خسر فيها عديد من العسكريين في الجبهة فرص إنقاذهم جرحى بقوا ينزفون ساعات حتى لفظوا أنفاسهم قبل أن تأتيهم سيارة الإسعاف، وخسر فيها كثير من العسكريين في أرض الحرام فرص إنقاذهم مصابين، لم يعد أحد يعلم مصيرهم بعد أن تُركوا لعدم وجود نقالات أو خطط إخلاء أو لغياب الرغبة عند الآمرين بتحمل مسؤولية إخلائهم، وخسر فيها مئات العسكريين إمكانية إخلاء جثثهم، ليدفنوا مع الأهل في مقابر العائلة، بعد أن تُركوا في أرض الحرام مجهولين إلى الأبد. فكانت هذه مسألة مهمة تناولها الضباط الاعوان والمراتب في أحاديثهم الخاصة، ومناقشاتهم الدائرة، لتشكل في المحصلة ضغطاً نفسياً أثر على التكافل قيمة عليا، وعلى تقدير الآمر / القائد قيمة عليا، أخلت بوضع العسكر العراقي وببناءه النفسي المعنوي، خاصة في النصف الثاني من الحرب، منها يمكن التأكيد على أن آلية التعويض البشري أي تعويض الخسائر البشرية في الحرب قد تغيرت وهي موضوع وان تمت الإشارة إلى كافة جوانبه ضمنياً في عنوان الإعداد والتهيئة، لكن الضرورة هنا تقتضي الاشارة الى آلية التنفيذ التي أفضت الى سَوّق آلاف المكلفين والاحتياط، وسد النقص الحاصل نتيجة لكثر الاصابات، ورفد الوحدات المشكلة حديثاً بالمنتسبين، بقدرة اعتبرت في حينها جيدة من حيث القدرة على سد النقص، لكن المشكلة تكمن في بعض تطبيقاتها ذات الصلة باعتماد أدوات متعددة بينها جهاز حزبي يمتلك سيطرة مطلقة وقدرة عالية على التحرك والتنفيذ، وأجهزة أمنية ممتدة إلى كل مناطق العراق تمتلك قدرة على الردع والتخويف، وقيادة عليا تتلاعب بكل شيء يوفر لها عنصر بشري تدفعه إلى الجبهة سريعاً، لكنها ورغم ذلك النجاح المقبول، فإنها واجهت أوقات حرجة في التعويض الخاص بسد نقص الوحدات العسكرية التي تخرج من بعض المعارك، وقد تكبدت خسائر تفوق أحيانا حدود الـ 70% من قدرتها القتالية. والحراجة هنا لا صلة لها بقصور آلية التنفيذ، وانما ذات صلة مباشرة بعدد سكان العراق، ونسبة الأعمار التي تصلح للتجنيد من بينهم، والتي تناقصت بشكل سريع خلال فترة الحرب، مما جعل اعتماد القيادة على الاحتياط الذين أرهقوا، وعلى الشباب الذين يبلغون سن التجنيد لتلحقهم في بعض الأحيان بملابسهم المدنية إلى مدارس القتال، التي لا تجد متسعاً من الوقت سوى تعليمهم الرمي بالبندقية، وإلحاقهم إلى وحداتهم المشتبكة بالمعركة فيكونوا أهدافاً سهلةً، وفي وضع نفسي تبقى تأثيرات انفعالاته السلبية ماثلة في عقولهم، طيلة فترة بقائهم جنوداً في الجيش.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن النقص الحاصل بكم التعويض، جعل العديد من الوحدات تقاتل بموجود يقل عن النصف في كثير من الأحيان. حالة لم تأخذها القيادة الأعلى بنظر الاعتبار، حيث الميل إلى تكليفها بالواجبات كونها وحدة أو تشكيل بالاسم، في حين لا يتناسب موجودها وطبيعة المهمة المكلفة بها من الناحية العسكرية، عندها كثرت الإخفاقات، وزادت نسب الهيكلة لبعض التشكيلات، وبقيّ القلق صفة مميزة للآمرين/القادة انتقلت عن طريق الحث إلى المنتسبين طيلة فترة الحرب، واسهمت في تكوين افكاراً وتوجهات بالضد من العسكرية العراقية أو ان العسكرية انتهت صورة مشرقة في عقولهم، مما تسبب في تسارع وتيرة الهدم بشكل ملفت في سنوات الحرب الاخيرة، وما بعدها حتى انتهاء النظام بشكل تام.
3. الإجهاد القتالي.
قاتل الجيش العراقي، لثمان سنوات حرب مستمرة مع إيران، قتالاً صعباً بقيادة عليا غير كفوءة، وفي ظل توازن مع الإيرانيين لم يكن في صالح العراق من حيث التعداد البشري، والميل العقائدي، والبعد الديني، وشكل الأرض وطبيعة الجبهة، التي فرضت جميعها استخداماً خاصاً للقطعات العسكرية، بأخطاء تعبوية ليست قليلة، أسهمت من جانبها في عملية الهدم المستمرة مثل:
آ. التهديد في تنفيذ السياقات. كانت جبهة القتال ممتدة طويلاً، بالنسبة الى حجم الجيش العراقي، الذي قاتل جيشاً ايرانياً، استعاد عافيته وتحسنت قدرته في السنة الثانية من الحرب، فلجأ عندها الى فتح أكثر من جبهة قتال، ألزمت القيادة العليا لأن تتجه إلى المناورة بقطعاتها من الشمال إلى الجنوب وإلى الوسط، وبالعكس في ظروف حرجة، لم يجد المنتسبون اثناء تحركهم احياناً، أي وقت  للتمتع بالراحة وفي أحيان أخرى لا يجدون متسعاً من الوقت للمبيت في المكان الجديد ليعاودوا التنقل إلى مكان آخر، يتضح انه المقصود بالهجوم أو الخرق، وبأوامر للحركة تكون مصحوبة على الأغلب بتهديدات للحث إلى الوصول بالسرعة الممكنة، وفي مواقف اقتضت الانفتاح لتشكيل المعركة حال الوصول إلى ساحتها، وهذا أمر أدى الى التعب، وكذلك إلى الملل، وعدم الرغبة في القتال، وأدى تكرار حدوثه على المستوى العام، اعتياد القادة الميدانيون خرق الضوابط والسياقات العسكرية، واعتياد القيادة العليا، عدم الالتفات اليها، أو عدها من الضرورات المحتومة.
ب. تبديل القادة اثناء القتال. إن الشك الموجود في عقل القائد العام، وعدم الثقة ببعض القادة الميدانيين، وأخطاء الاختيار والتنسيب إلى المناصب القيادية، جعله يأمر في أحيان عدة بتبديل قائد فيلق أو فرقة أثناء المعركة، لاعتقاده فشلهم في إدارتها، وهو تبديل على الأغلب من خارج التنظيم الخاص بالفيلق أو الفرقة، يُقحمُ فيه قائد جديد يحمل في داخله هموم المعركة الجديدة، ومسؤولية النجاح الذي افترضه القائد العام في تنسيبه، وهذا مع عوامل أخرى، قلل من الاستقرار النفسي للقادة، وجعلهم في دائرة التوتر شبه المستمرة. كما أوجدت القيادة العامة للقوات المسلحة، بعد مرور اكثر من سنتين على الحرب، نظام القادة البديلين، كسياق للتعامل مع رغبات التبديل من جهة، ولتعويض خسارة القائد المحتملة من جهة أخرى، وهو نظام أقتضى تواجد قائد آخر بنفس رتبة القائد الفعلي، يكون معه وقريب منه، ليحل محله عند الضرورة، حتى أقر العديد من القادة الاصليين والبدلاء، انه نظام جعل القائد الاصلي يعيش قلق الرصد والمراقبة، من قبل البديل او الرديف، "كما يسمى احيانا" وجعل الثاني الذي ترك قيادته دون قائد، يعيش نفس مستويات القلق، من تعامل مع قيادة لا يعرف هيئة ركنها، ومن صعوبة الحصول على نتائج ايجابية في ظروف الخسارة والخذلان. وهو سياق قيادي خطأ الغي العمل به قبل انتهاء الحرب.  
ج. التكرار المجهد. أي التكليف بنفس الواجبات، وعلى ذات الأهداف لنفس الوحدات أكثر من مرة، بقصد لا علاقة له بمقتضيات القتال التعبوية في بعض الأحيان، حيث الاخفاق الحتمي الذي يتحول في المعتاد الى كارثة على القطعة العسكرية المكلفة بالواجب، "عقوبات واتهامات وتنكيل، ومن ثم انطواء وقلة الثقة بالنفس وهبوط المعنويات"، وبما أن الجيش العراقي ابان تلك الفترة لم يشهد برامج اعادة تأهيل منظم للوحدات الخاسرة" الا في حالات قليلة لا يمكن اعتبارها قياساً " فإنها والحالة هذه عانت كثير من الوحدات والتشكيلات والفرق، إعياءً بدنيا:
قلل من الكفاءة والقدرة على التحمل والصمود.
ونفسياً، زيّدَ مشاعر الاحباط، والتعود على الاخفاق، حملته تلك القطعات معها، الى كافة القواطع التي وصلتها مدافعةً أو مشاركة بالهجوم.
ان القيادة العامة، وتحت نشوة النجاح، وحرج الموقف التعبوي، لجأت كثيراً الى الضغط على القطعات التي كسبت المعركة، وذلك بتكليفها في خوض معركة جديدة، قبل ان تلتقط انفاسها، وتعيد تكليفها مرة ثانية وثالثة احياناً، دون التفكير بإعطائها فرصة للراحة، وفسحة لتعويض الخسائر، وهذا أمر لا ينطبق على الوحدات فقط، بل ويشمل كذلك، الضباط والقادة الذين يكلفون بمهام متكررة، ولفترات زمنية تتعدى الأشهر أحياناً، مما أوجد حالة من التعب الشديد في أحيان كثيرة.
إن الإجهاد وبكل أشكاله أدى بالنتيجة إلى نقص فعلي في القدرة القتالية، وإيجاد شعور بالضيق والألم، وأدى كذلك الى شيوع قلة التركيز وضعف اللياقة البدنية، وأحيانا تغيرات فسيولوجية اثرت جميعها سلباً على الأداء، والحالة النفسية المعنوية (5).
ان الاجهاد بطبيعة الحال لا يقتصر على الجانب البدني، اذ حصل معه اجهاد عصبي، لو استعرضنا على أساسه ظروف الحرب وأساليب القيادة وشكل التعامل وكثر الخسائر وطبيعة الأهداف نجد ان الجهاز العصبي للقادة والمنتسبين بسببها قد أنهك، ولو اضفنا اليها متغير التعامل مع توقع الهجومات الايرانية من مستوى القيادة العامة نزولا إلى السرية والفصيل، بصيغ غير صحيحة، نجد ان اعضاء القيادة العليا، وغالبية القادة الميدانيين قد اعتادوا المغالاة في التوقع، ومن ثم المغالاة في اتخاذ الحيطة والحذر، لمستوى من الشدة أوجد توترات وشد عصبي، أنهكت العقل القيادي، إذ تصدر القيادة العامة بناء على تقارير الاستخبارات العسكرية مثلاً أوامرها إلى أحد الفيالق بالتحوط لاحتمال قيام الإيرانيين بالهجوم على قاطعه أو على جزء من قواطع فرقه، وتطلب اتخاذ أعلى درجات الحذر، وعلى أساسها يقوم الفيلق وهيئة ركنه التي تدرك جيداً إن أي تقصير في حث المدافعين على الصمود، يعني ثمناً لا يقل عن قطع الرقاب، وبذا يقومون بتعبير أوامر القيادة العامة، ويزيدون من عندهم تأكيدات أخرى على التحسب والحيطة والحذر يمكن أن تدفع عنهم المساءلة المحتملة في حالة الفشل، وهكذا تزداد شدة التحسب وتتضاعف معايير الحيطة، والحذر لتصل بصورة مرعبة إلى آمر الفصيل والحضيرة والمفرزة، وأخيرا الى الجندي الماكث على الحافات الأمامية في انتظار الهجوم المزعوم. انه تحسب مبني على انتظارٍ قلقْ، فهم الايرانيون بالمقابل طبيعته، وأخذوا يتلاعبون أحياناً في إطالة امد حصوله عدة أيام، تتكرر فيها التحذيرات مع كل ليل جديد، ويزداد فيها التعب حيث الحاجة إلى البقاء في حالة استيقاظ مستمر لعدة أيام. والنتيجة سلبية باتجاهين:
أوله. في حال حصول الهجوم، سيكون المدافعون مرهقون، لا يقوون على القتال بنفس مستويات الاداء التي اعتادوا عليها من قبل.
وثانيه. إذا لم يحصل الهجوم المرتقب، سيحملون قادتهم وآمريهم مسؤولية الارهاق، ويصفونهم بالخوف والكذب، صفات تضعفهم لاحقاً، وقد تخلق في داخل البعض منهم قدراً من عدم المبالاة في التعامل مع الهجمات اللاحقة.
ان الامر ذو الصلة بالتحذيرات التي تثير التوتر، لم ينتهِ بسهولة، إذ أن المنتسبين وفي بعض الاحيان، يُعطَوّنَ فترة وجيزة للراحة من تعب معركةٍ استمرت عدة ايام، وحال وصولهم الى الاماكن المخصصة للترفيه والاستراحة، يؤمرون بالعودة الى مواضعهم القتالية فوراً، بسبب تحذيرات وردت، وطلبات تَحَسُب أخرى جاءت، بات الإيرانيون طرفاً في وجودها أحياناً بقصد اللعب بأعصاب القادة وإنهاك المنتسبين، وتحطيم معنوياتهم، والتقليل من مستويات أدائهم ميدانياً. مستندين على خبرات عملية ترى أن المقاتل يستطيع الاحتفاظ بقدر من نشاطه وحيويته بعد العمل أو التنبه ليلة كاملة، لكن أداءه في اليوم الثاني يتأثر بقدر أو بآخر، أما عند استمرار العمل أو تواصل الانتباه ليلة أخرى، فعادة ما يشعر بالنعاس ثم يعقبها نوبات من التعب والضيق أو التوتر، تكون بدايات لضعف في التركيز. وإذا ما تواصل ذلك ليوم ثالث، فيكون الإنهاك والتعب واضحاً مع تشتت في التركيز والانتباه، وتردي مستويات الدقة في التعامل مع المواقف المحيطة به، يصاحبه بطؤ فـــي تنفيذ الأوامر الصادرة، وإذا ما استمر في عدم النوم لفترة أطول يضطرب سلوكه مع ظهور دلالات، وأعراض مرضية قد تصل إلى ما يسمى بالحالات الذهانية (6). وفي حالتها سجل الطب النفسي العسكري العراقي اثناء الحرب، اصابات بالذهان عقب بعض المعارك، ناتج عن شدة الانهاك العصبي، والعيش المتواصل تحت ضغوطها النفسية الشديدة، من أعراضه وجود أفكار غير صحيحة "اضطهادية" عن الموقف القتالي، كأن يكون المصاب راقد في المستشفى أو في وحدة الميدان الطبية، ويصرخ بأن العدو قد وصل الى مكان الفصيل الدفاعي، أو ان آمر فصيله ضده ويريد التخلص منه، فوضعه في واجب بالحجابات، ومن اعراضه أيضا حصول هلاوس سمعية "سماع أصوات من جنود العدو" أو بصرية، مثل مشاهد جندي للعدو يقوم بقتل زميله.
انها اوهام مرضية، تكون فيها افكار المصاب لا علاقة لها بالواقع، وأحكامه الآنية لما يحيط به غير منطقية، يضطرب في الغالب نومه، وقد يفقد البصيرة في الحالات الشديدة، أو يأتي بسلوك غير متوافق اجتماعياً وعسكرياً، كأن يحاول اطلاق النار على زملاءه القريبين (7).  
4. اضطراب التقييم.
انتهت الحرب مع إيران ولم تستطع القيادة العسكرية العليا، إيجاد معايير للتقييم في كثير من الأمور، ولم تستطع أن تتجاوز أخطائها في مجاله الحيوي. ففي الجانب المعنوي على سبيل المثال لم تقبل القيادة ولا القادة الميدانيون نصائح المختصين في تحديد مؤشرات للحالة المعنوية، على أساسها يمكن تقدير مستوى المعنويات، والقول أن الوحدة الفلانية تتمتع بحالة معنوية جيدة أو ضعيفة أو في حالة الوسط، وذلك لاعتقاد القائد الميداني أن مجرد الإشارة في تقارير الحالة المعنوية إلى ما يؤكد ضعفها بين إحدى وحداته، تعني إهانة له أو بالمعنى الأدق مساءلة له لا يمكن قبولها، لذا كان الآمر/القائد يتدخل في هذا الجانب، وكثيراً ما غَيّرَ من تقييمات ضابط التوجيه المعنوي، وإن لم تكن قريبة من الواقع، حتى بات القادة في تقاريرهم إلى القيادة الأعلى، وفي استعراضاتهم أمامها، يشيرون دوما بعبارتهم المشهورة "المعنويات عالية" وهذا طبعاً أوقع القيادة الأعلى في أخطاء فنية، حيث اللجوء إلى تكليف تلك الوحدات بواجبات على أساس قدرتها الجيدة ومعنوياتها العالية، وهي في الاصل غير ملائمة لقدراتها ومعنوياتها الفعلية. كما إن اضطراب التقييم شمل الضبط، وتقدير الكفاءة العسكرية، وتقييم الحالة الأمنية وتحديد الولاء والإخلاص، وغيرها مجالات اخرى مهمة. وهذا أمر تتحمله القيادة العامة للقوات المسلحة، التي رفضت مراراً العمل وفق مبادئ اختيار وتوزيع الأفراد على أسس قياسية، كما معمول به في كافة الجيوش العالمية، وبعض الجيوش العربية، لأنها كانت تصطدم بتجاوزات القائد العام ورفضه الموافقة على مثل هكذا مشاريع تحدد من توجهاته للتنسيب الكيفي على هواه بالنسبة الى القادة واختيار هيئات الركن، وتوزيع الهبات، وذبح القرابين، وغيرها.
هنا وفي موضوع التقييم يبرز الى الواجهة عنوان ذا صلة كان له صداً نفسياً لم يعره القادة اهتماماً وهو التمييز بين الجبن والشجاعة، وبصدده يمكن القول أن اضطراب التقييم في الأصل، اخفاق يتحمله بالإضافة الى القائد العام، القادة الميدانيون أنفسهم، لانسياق عديد منهم خلف أخطاء القائد والقيادة العامة، وتطبيق تعاليمها الخطأ بدقة متناهية، بل واضافة زيادات عنها من عندهم لإبعاد الشك، وإثبات الولاء، فوقعوا وهيئات ركنهم بأخطاء أخلت بالمعايير والقيم العسكرية، حتى بات في مجالها، يصعب التمييز بين الجبن، والشجاعة صفتين متناقضتين عندما يكرموا ضابطاً بعشرات الأنواط تأكيدا لشجاعته بمقاييسهم السارية، ويقتلونه إعداماً على الحافات الأمامية بطقوس تنفيذ يؤديها الزملاء. كما حصل للعقيد الركن برهان أحد ضباط الانضباط العسكري أصلاً، الذي نقل إلى الجبهة بعد عام 1982 وعمل أمر وحدة، ثم ترقى سريعاً إلى آمر تشكيل، وأشيد بشجاعته حداً كُرِمَ رتبة كاملة في معارك مندلي، نَوَطَهُ بها الفريق الركن عدنان خير الله وزير الدفاع على ذات العارضة التي احتلها من الإيرانيين، وكانت السابقة الأولى في الجيش العراقي تقديراً لشجاعته الفائقة، لكنه أعدم بنفس الطريقة أي في أرض المعركة بسبب اتهامه بالجبن، والتخاذل في معركة لاحقة لا تبتعد زمنيا عن حادثة التكريم، سوى بأشهر لا تزيد عن الثلاثة.
ان العكس وارد أيضا في تقييمات القيادة كما هو الحال بالنسبة إلى العقيد الركن عبد العزيز الحديثي الذي عزل من منصب آمر لواء مدرع في محاولة عبور نهر الكارون بداية الحرب، وحكم عليه بالحبس لمدة خمس وعشرين سنة بتهمة التخاذل "رغم أن سمعته والمعروف عنه العكس من هذا تماماً، حيث الإفراط بالشجاعة " ليطلق سراحه من السجن قبل أن يتم فيه ما يقارب السنة ليعاد تعيينه قائد فرقة ثم قائد فيلق برتبة لواء ركن، ويُقتل في حادث طائرة سمتية على مقربة من كركوك. وغيرهم كثيرون أعدموا تخاذلاً أو جبناً بعد وصفهم وتكريمهم شجعان مثل اللواء الركن صلاح القاضي قائد فيلق، واللواء الركن بارق الحاج حنطة قائد فرقة، واللواء الركن عصمت صابر، قائد فرقة. وآخرين.    
وعندما يرشحوا قائداً لمنصب أعلى تقديراً لكفاءته وإخلاصه، ليعاقبوه بتخفيض الرتبة، وإعادة تنسيبه بمنصب يقل عن منصبه الحالي بعدة مراحل، كما هو الحال بالنسبة إلى الفريق الركن ثابت سلطان الذي منح قدماً عسكرياً لما يقارب الثلاث رتب وشغل كل المناصب القيادية من آمر كتيبة دبابات أول الحرب إلى معاون رئيس أركان الجيش للعمليات قبل انتهائها بفترة ليست بعيدة، لكنه ولأسباب خلافية خاصة مع رئاسة الاركان، ألغيت كل سني تكريمه تلك، مرة واحدة ليعود مع قدم دورته الثالثة والأربعين، ويعين آمر لواء في فيلقه السابق، لتعاد له "أي رتبه" ثانية بطريقة مهدت لسجنه في المخابرات العامة، ثم اغتياله ورمي جثته على أحد المبازل القريبة من مزرعته بعد وقت قصير من إطلاق سراحه، لاعتبارات خاصة أيضا، لم يستطع أحد تقييمها سوى الحاكم نفسه. وهكذا شاع التناقض والارتباك في معايير التقييم حتى ان القيادة العامة قد أكدت في السنة الأخيرة للحرب مع إيران مثلاً، ضرورة تثبيت السلبيات، وتقديم الدراسات العلمية حولها، وعادت بعد انتهاء الحرب مباشرة الى الغاء الطلب، والتأكيد على ذكر وتثبيت الايجابيات.
انها مجموعة اجراءات مليئة بالتناقض، والارتباك في محصلتها تستر على السلب، والغاء لفكرة التقييم الصحيح، أخل بالوضع العام للمؤسسة العسكرية، وساهم في تهديم أركانها.
5. التوجيه السياسي.  
لم يترك القائد العام طوال فترة الحرب مجالاً للعسكر في أن يجتهدوا الا في بعض الحالات التي تعد قليلة أو خاصة، فإن كان ذاك الاجتهاد فنياً يتعلق بالطيران على سبيل المثال فهو من يفتي به، وإن كان في مجال الصواريخ الاستراتيجية "السوقية" فهو الذي يحدد تفاصيله، وهكذا لجميع الصنوف والاختصاصات، وبينها التوجيه السياسي "المعنوي " وهنا تقتضي الاشارة الى أنه وفي بداية السبعينات شكلت شعبة للتوجيه المعنوي تابعة الى مديرية التدريب العسكري، ثم تطورت الى مديرية ترتبط برئاسة اركان الجيش، وقبل الحرب مع ايران، أعيدَ تشكيلها لمستوى دائرة للتوجيه السياسي، تضم اربعة مديريات هي "الاعلام والثقافة، والجريدة، والخدمات النفسية" وتحدد ارتباطها بالوزير. وبعد انتهاء الحرب بحدود السنة، أعيدت الى مستوى مديرية عامة، والى تسميتها السابقة "التوجيه المعنوي" ومن ثم عدلت التسمية مرة اخرى لتكون التوجيه السياسي، وابقي التنظيم بمستوى مديرية عامة. وعموماً فان نشاط وتوجهات التوجيه السياسي طوال فترة الحرب وما بعدها، تطابقت مع توجهات القائد العام ورؤى الحزب فكرياً، لتكون النتيجة خليطاً للصيغ والضوابط العسكرية والفكرية غير متجانس كان العمل في مجاله يتأسس على:
آ. التهيئة الفكرية. فيها اعتقدت القيادة أن فكر القائد، وحزب البعث كافية لإعداد العسكر العراقي في مواجهة الإيرانيين، وعلى أساسها شكلت في دائرة التوجيه السياسي مديرية للثقافة، مهامها نقل ذلك الفكر، وكذا توجيهات وخطب وتعليمات القائد/الحاكم إلى منهاج عمل يتم تعميمه على كل منتسبي القوات المسلحة، ليلتزموا به. وبعملها هذا أغرقت الوحدات والقيادات بالكراريس والبيانات التي لم يعد العسكريين قادرين على متابعتها أو حتى قبول معانيها لكثرتها، وإعادة تكرارها، وعدم واقعية معانيها. وبالتالي أصبحت مثيرة للاستجابات السلبية، وأساساً للتخريب الفكري "الهدم"، وإن خصصت لإيصالها إلى عقول المتلقين ميزانيات ضخمة ووسائل وأدوات متعددة، إذ تعد مديرية الثقافة على سبيل المثال كراساً بالموضوع ، تنشره جريدة القادسية، ويلقي ضابط التوجيه السياسي محاضرة عن موضوعه في مقرات الوحدات، والتشكيلات والقيادات، وأحيانا في الخنادق الدفاعية، لم يكتف بذلك، بل ويسجلها لتعرض بأجهزة الفيديو في دور استراحة المقاتلين، لمشاهدتها من قبل المراتب المجازين قبل تركهم القاطع في الطريق لأخذ قسطاً من الراحة، وبعد التحاقهم منها خلال الطريق إلى المعركة، في موقف لا يمكن أن يستوعب منها حرفاً واحداً. وبذا كوّنَ كثر تكرارها بطريقة الاطلاع الملزم، إيحاءً مضاداً لموضوعها، أسهم في بعض جوانب الهدم المعنوي.
ب. تقديم الدعم النفسي. ان الدعم الذي تريده القيادة، يعتمد على فلسفة القائد في دفع الثمن، أي تقديم ثمن مادي مقابل الفعل المطلوب حصوله، وهنا برعت دائرة التوجيه السياسي، وحتى عام 1986 في منح الهدايا العينية للقادة، والضباط وفي حدود معينة لضباط الصف والمراتب، لكي يستمروا في تأييد ومدح القائد العام، حتى باتت تلك الدائرة مزاراً لعديد من القادة في إجازاتهم الدورية، يعرجون على مديرها لقبض الثمن الخاص بهم، هدايا من الدرجة الأولى ولقياداتهم أخرى من الدرجة الثانية والثالثة، حسبما يتوفر في مخازن الدائرة، التي تجف أحياناً ليتحول الثمن نقوداً من الفئات العالية. ويعتمد كذلك على الإذاعات الميدانية التي عممت على كل وحدات الجيش، اذ تُسَجِل مديرية الاعلام في الدائرة على اشرطة صوتية اناشيد وطنية تعلي من شأن القائد، وأهازيج شعبية، تمجد أغلبها القائد، ترسل إلى تلك الإذاعات لبثها محلياً، بالإضافة إلى برنامج القوات المسلحة في تلفزيون وإذاعة بغداد، الذي لم يشذ عن تلك القاعدة في مفرداته وطريقة أداءه.
ج. التحصين النفسي. أضفت إيران الصبغة الدينية على قتالها في الحرب، وحاولت تعبيرها إلى الجانب العراقي، وفــي مجـالها حـاولت دعايتهم الاستراتيجية "إذاعـة، وتلفزيون" والتعبـوية "مكبـرات الصوت والمنشورات" إضفاء الطابع الديني الشيعي على مادتها مثل بث مقتل الحسين (ع) في عاشوراء، والتذكير ببعض المناسبات الدينية، وغيرها أمور دينية تعتقد إمكانية التأثير بها على ضباط الصف، والجنود المنتمين غالبيتهم الى المذهب الجعفري، ومع ذلك فإن وقائع أحداث حرب الثماني سنوات اشرت، أن إيران لم تستطع تحقيق هدفها في تشييع المعركة لاعتبارات يتعلق بعضها بالوسائل الفنية الإيرانية محدودة التأثير، إذ أن مكبرات الصوت التي لديهم، لا تتعدى مدياتها مئات الأمتار بالمقارنة مع تلك التي عند العراق بمدياتها التي تصل عدة كيلو مترات، وكذلك بالنسبة إلى قنابر الدعاية للهاونات، وقنابل الدعاية للمدفعية التي استخدمت بشكل ملحوظ مع بداية الحرب. ويتعلق بعضها بقوة الردع التي أوجدها التوجيه السياسي، والأمن العسكري حيث الأمر بتجميع أية منشورات للإيرانيين بسرعة، وتسليمها لضابط الأمن دون قراءتها. ومن يُشاهد منكباً على القراءة، ينتهي به الأمر معدوماً في الميدان، وينطبق هذا المنع على التلفزيون الإيراني وإذاعتهم المحلية، اللتان يغطي بثهما ساحة المعركة. ويتعلق بعضها الآخر بالطبيعة المهنية العسكرية لمنتسبي الجيش اللذين قاتل اغلبهم بداية ونفذوا الأوامر تحت تأثيرها، دون النظر إلى جوانب المعركة دينياً وقومياً. بالإضافة الى عامل الخوف في النفوس الذي شكل وجوده رادعاً ذاتياً يحول دون التأثر في غالب الأحيان.  
ان عملية التحصيل النفسي في الجيش العراقي وطوال فترة الحرب لم تكن ناجحة بالقدر الذي كانت فيه قسرية رادعة، ويعود السبب في معظمه الى أن القيادة العامة للقوات المسلحة سعت الى اضفاء الصبغة القومية التاريخية على الحرب مع إيران، وبذلت جهداً كبيراً لتعزيزه في العقل العراقي المقاتل، ووضعتها مادة رئيسية في عملية التحصين النفسي والسياسي في الجيش، وهي مادة لا يمكن التأسيس عليها وحدها في عملية التحصين التي يقصد بها توفير قدر مـن المناعة ضد تأثيرات الدعاية المضادة، والضغوط النفسية المسلطة، لان اهداف الحرب وغاياتها قد تبدلت كما مذكور في اعلاه، وبسببها والنتائج السلبية لبعض معارك الحرب، انتهت على سبيل المثال مسألة اعادة المحمرة الى الجغرافية العراقية كأحد اهداف الحرب قومياً، وثُبِتَت أهداف أخرى، بعدها فشلت دائرة التوجيه السياسي في اقناع المنتسبين بجدواها في ادامة زخم الدافعية واعطاء قوة دفع لرفع المعنويات.
وَقَصَرَتْ في مسالة التقليل من أثر الدعاية المضادة، وفي تبرير أخطاء القيادة التي كثرت وتعددت مجالاتها. وفشل ضابط التوجيه السياسي في ايصال الرسالة المطلوبة، بعد ان حددت مواصفاته القيادة على الاساس الحزبي وليس الاختصاصي، وحدد هو الطريق الذي يسلكه تلاعب بالألفاظ.
إن التوجيه السياسي في الجيش العراقي، الذي فشل في إيجاد حصانة نفسية متوازنة لغالبية المعارك الدائرة، فشل أيضاً في إمكانية التخفيف من الضغوط المسلطة على المنتسبين، وعلى تقليص أثر الآفات التي كانت تفتك في المؤسسة العسكرية، مثل الغياب والهروب، والرغبة في الوقوع بالأسر، والإصابات النفسية، وغيرها عوامل أثرت على الأداء العسكري.
إن الفشل لا يتعلق بالجوانب الفنية التي ذكرناها فقط، بل وكذلك بشكل الإدارة التي فرضها القائد العام على قمة التوجيه السياسي، عندما عين لمنصب مدير الدائرة مدنياً معروفاً بقدرته الجيدة على الكتابة، وإيجاد التبريرات، والإسهاب في مجالهما، وصياغة البيانات، هو السيد عبد الجبار محسن وكيل وزارة الإعلام، عام 1985 في أمر منه شخصياً، احتار الضباط في التعامل معه وكيفية مخاطبته، حتى مضى وقت ليعتادوا على مخاطبته بكلمة سيدي، ويؤدوا له التحية، خلافاً للضوابط العسكرية المتعارف عليها، وتجاوزاً على معايير الضبط، علماً انه بقيّ في منصبه هذا حتى انتهاء الحرب. وهذا قرار يعد الأول من نوعه في الجيش آنذاك.
انها أمور مع تركيبة التوجيه السياسي، والنوع المتدني لضباطه، وتَدَخُل الحزب في مفاصله، حيث اقتصار غالبية مناصبه على كوادر الحزب المتقدمة، كما ورد في أعلاه، تسبب في حصول قدر من الفشل امتدت آثاره سلباً، بحيث لم يقتصر على المعنويات والتحصين النفسي التي تختص بها الدائرة، بل وامتد الى حدود التجاوز على القيم العسكرية، وضعف الالتزام، واستشراء سلوك الذاتية، والمنفعة الشخصية، وغيرها أمور قوضت مع أخرى أعمدة البنية العسكرية.

للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة:

http://algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/thaqafawaadab/29589-2017-04-19-08-59-18.html

  

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

3237 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع