الباب الثاني: حروب الهدم البنيوي
الفصل الثالث: الحرب الخليجية الثالثة
الاهداف النفسية للحرب
ان الحرب التي قبِلَ صدام خوضها بالضد من التحالف الدولي في آذار 2003، مختلفة في أهدافها الاستراتيجية عن الحروب السابقة، فمن جهته كان الهدف الأعلى، تفادي خسارة الحكم، ومن جهة الخصم المقابلة، كان الهدف المعلن، تغيير شكل نظام الحكم. وإذا ما تركنا جانباً أهداف قوى النفوذ الدولية وتوجهاتها في تكوين عراق غير العراق القائم، لمصالح وتوازنات لا يمكن ان ندرك طبيعتها، لأننا لا نرى الحاضر مثل رؤياهم له من زوايا المستقبل، عندها يتبين ان الهدفين المذكورين متناقضين، وكأن الطرف الامريكي هو الذي وضعهما، وسوقهما الى المجتمع العراقي والعربي لأغراض الحرب النفسية، ووضع أهداف أخرى مثل القضاء على مخزون العراق من أسلحة الدمار الشامل، كانت رئيسية في تسويقها للمجتمع الامريكي والاوربي، لأغراض نفسية أيضا. إنها أهداف تعتبر معلنة للحرب صيغت بدقة عالية، اخذت بالاعتبار حالة العيش المستمر للعراقيين تحت ضغط الادارة القسرية لحزب البعث وصدام، وكثر مشاكله وحروبه ومغامراته، لمستوى من الشدة جعلتهم يبتعدون من الناحية النفسية عن مناقشة أية اثار جانبية للحرب يمكن ان تطالهم ومستقبل بلادهم، بل ولم يفكروا باي منها، همهم آنذاك، زوال هذا الضغط الجاثم على صدورهم، وعليه كان إسقاط الحاكم وتغيير شكل نظام الحكم متوافقاً مع رغبات الجمهور العراقي الذي وقف غالبيته في الوسط والجنوب والشمال الكردي، مرحباً بقوات الحلفاء بضوء هذا الهدف، الذي عجزوا هم وغيرهم عن تحقيقه، واقتنعوا باستحالة تحقيقه من الداخل. ووقف ابناء شمال الوسط وغربه مشدوهين، ينتظرون ما سيسفر عن الحرب من نتائج.
وبنفس الاتجاه كان الامريكيون والغربيون قلقين سوية من احتمالات استخدام اسلحة الدمار الشامل، من نظام غير ملتزم بالقوانين والأعراف الدولية، وقلقين أيضاً من ارهاب القاعدة الذي فتح ساحات حرب في بلدانهم. وتلبية لرغباتهم في تجنبها وضعوا للحرب أهداف قوامها ازالة هذه الاسلحة، والقضاء على بؤرة ارهاب نشطة، ولما تبين بعد الحرب عدم وجود أسلحة والشك بوجود ارتباطات مباشرة مع القاعدة أقوى الجهات الارهابية، تم جعل العراق ساحة دولية لمقاتلتها وباقي القوى السائرة في فلكها، كان له الاثر في تحجيم فاعليتها، تمهيداً لانتهاء انشطتها، هدف تعبوي للحرب، ساهم في ابقاء الدعم الشعبي لسياسة الاستمرار بها.
الحتمية النفسية
لقد وقعت الحرب وأختلف أهل الراي في مجال وقوعها، فمنهم من أكد حتمية حصولها، توافقاً مع اهداف العولمة وسيطرة القطب الواحد، واختيار العراق مثالاً، وانطلاقاً من واقعه باتجاه خطوات أخرى لتغيير منطقة الشرق الاوسط، عدت بؤرة توتر لفترة زمنية ليست بالقصيرة. ومنهم من رأى العكس، مؤكداً ان صدام لو لم يقع أسير أفكاره الوهمية، ولو كان قد قرأ الاستعدادات الامريكية قراءة استخبارية صحيحة، ولو لم ينصت الى مبالغات قادته الميدانيين، وفكر بحتمية التغيير كنتيجة محتملة للحرب هذه المرة، لما قبل المجازفة، ولرضخ للمطالب. لكن صدام الذي عانى قدراً من المشاعر المضطربة، وان قرأ المشهد قراءة شخصية تتعلق بمصيره، كان يعرف خصمه الامريكي جيداً، ويدرك بمعرفته هذه انه وكلما رضخ لمطالبهم، سيزيدونها قدراً من الشدة غير الممكنة للتطبيق، الى ان يصلون حدود الاستسلام، فوضع من جانبه اهدافاً علنية للحرب لم تختلف عن شعارات الحزب التقليدية غير المستساغة جماهيرياً مثل الدفاع عن شرف الامة، والقتال عن العراق العظيم قلب الامة. ودار حولها دون التطرق الى الهدف الاعلى المتمثل بالحيلولة دون خسارة الحكم، وحاول تسويقها بأجهزة اعلامه المتخلفة عن أجهزة الخصم، فجاءت النتائج عكسية بعد ان حشد خصمه اجهزة اعلام ووسائل حرب نفسية لا يمكن مسايرتها، وبالنتيجة قبل المجازفة، وفي مخيلته أمل ان لا يكمل خصمه مشروع هدفه الاستراتيجي الاعلى، أو ان القوات المسلحة العراقية يمكن ان تجبره على التوقف منتصف الطريق، والتفاوض في ساحة القتال، بطريقة يعطي شيئا ويحافظ على الحكم الشيء الأثمن. ومن هنا عبأ القوات المسلحة العراقية بطريقة دفاع لم تكن تقليدية كما كانت عام 1991 على سبيل المثال، ولا كذلك مثل سابقتها في الحرب مع إيران عام 1980، لأن الموقف مختلف تماماً في الأهداف التي وضعت للحرب من كلا الطرفين، ومختلف أيضا في ميزان القوى لكليهما، اذ يتفوق الحلفاء كثيراً على القوات العراقية، تفوقاً كانت فيه السيادة الجوية مطلقة لصالح الحلفاء، وهكذا الأمر في البحر، ولا تقل عنه في موضوع الصواريخ والدروع والقوات الخاصة، وأعمال الدعاية النفسية. لقد جازف صدام بقبول فرض الحرب، بعد ان اعتقد، في حينه واقنعه بعض قادته العسكريين على ان القوات الامريكية قد لا تهجم براً وان هجمت سوف لن تتحمل خسائر كبيرة، يمكن ان تُذكرها بحرب فيتنام، التي أجبرتها "الخسائر" على الانسحاب، وانهائها بطريقة مذلة لهم، وفخورة بالنسبة الى خصمهم الشيوعي اللدود. واندفع بإدارتها، باعتماد قتال المدن، دفاعاً عن النظام او للحيلولة دون تحقيق هدف الحلفاء بالقضاء على النظام، بعد ان تيقن ان الصحراء المحيطة بالمدن العراقية وبينها بغداد من الشرق غير ملائمة لدفاع قواته ازاء معارك دروع، يتفوق فيها الخصم بالمطلق. وان قتال المدن بقوات الجيش المدعومة بجمهور الحزب، ومليشيات جيش القدس، وفدائيو صدام والجيش الشعبي، وهجوم مقابل لحرس جمهوري في محيط بغداد مع فرقتين في كربلاء، التي تقع في المحور الأكثر تهديداً إلى بغداد، وأخرى قريبا من الكوت المؤدية الى بغداد، مع الاحتفاظ بفرقة عدنان كاحتياطي في تكريت القريبة من بغداد. يمكن ان تحقق غاية تكبيد العدو خسائر تجبره على التفاوض، خاصة وان هذه الفرقة وغالبية فرق الحرس الجمهوري، تمتلك خبرة قتال جيدة لما يتعلق بالمواجهة المباشرة مع قوات متفوقة تقنيا من ايام حرب الخليج الثانية. على هذا الاساس، ركز على هذا النوع من القتال، وعلى انسحاب قواته مع اول حالة تماس إلى داخل المدن وآخرها بغداد. لم يحسب العامل النفسي جيدا. ولم يتعظ من نتائج قتال عام 1991. كذلك لم يضع في الاعتبار قدرة الحرب النفسية لخصمه، في ابعاد قواته عن محيط الدفاع عنه، وفي تحويل جملة الضغوط النفسية التي يعاني منها المنتسبون الى مشاعر عدوان موجهة بالضد منه ومن نظام حكمه. فكانت المعركة بمجملها معركة نفسية خاسرة مسبقاً بالنسبة له، ونموذجية بالنسبة للطرف المقابل، حقق فيها ما اراد تحقيقه، وابعد مما اراد بكثير. وانتهت بانتهائها القوات المسلحة التي يزيد عمرها عن ثمانية عقود.
المعركة الحاسمة في بغداد
إن هدف الحرب المعلن لتغيير النظام اقتضى دخول بغداد، التي أكبرها الحلفاء هدفاً لقواتهم التي زحفت باتجاهها من الجنوب والجنوب الشرقي، باعتبارها المقر الرسمي لرئيس النظام، وعاصمة البلاد التي تعودت الامم في حروبها، الرضوخ الى الهزيمة بمجرد سقوطها بقوة عدوهم في ساحة القتال. هدف حقيقي لا يقبل الشك، دفع صدام الذي لا يمتلك الخيارات الكافية للمناورة أن يركز من جانبه عليها خطا دفاعياً فاصلاً في جهده العسكري. ودفع الحلفاء الى التعامل معه على وفق خصائصه النفسية في الاستجابة الى التحدي، بتحدٍ مقابل، فأكبروا من بغداد هدفاً استراتيجيا للقتال، استجاب هو من جانبه متحدياً لهم بجعلها خط دفاعه الرئيسي والاخير، بالعاً الطعم النفسي المعد مسبقاً، وبذا ترك شأن الدفاع عن عموم المدن العراقية الأخرى إلى المليشيات المذكورة أسبقية أولى، وإلى قطعات الجيش النظامي أسبقية ثانية ، على أن تقوم بأعمال التعويق، قريباً من المدن المحتمل التقرب منها، وفسح المجال لها الى التراجع الى داخلها "المدن" في حال عدم نجاح التعويق، كما حصل لبعض وحدات الفيلق الثالث بالبصرة، والخامس في الموصل، والأول في كركوك. من هذا يتبين ان القتال داخل المدن، خيار اعتمدته القيادة السياسية اي صدام، بعد قراءتها التفوق الكبير لقوات الحلفاء على قواتها من جانب، وإيمانها غير الصحيح بقدرة ميليشياتها بالقتال والصمود بمستوى يفوق قتالها في العراء، من جانب آخر. قراءة دفعتها الى التركيز على موضوع تكبيد العدو اكبر عدد ممكن من الخسائر، وكذلك اطالة الحرب الى أمد، لا يتحمله الأمريكان الذين دخلوها بتفويض دولي غير واضح الحدود. وهي القراءة التي سيطرت على تفكير القائد العام، وفرضها على القيادة العسكرية أسلوب قتال لمعركته، التي اسماها بالحواسم كما كان يراها من جانبه. واسماها خصمه بحرب تحرير العراق، كما كانوا يريدونها ان ترى من الخارج. وبدأوها من بغداد الهدف الاشمل يوم 20 /3/2003 بتوجيههم عدة صواريخ على أحد المراكز القيادية التي اشتبهوا وجود صدام وبعض أفراد قيادته مجتمعين فيها، واستمروا بعدها في عملية القصف الشامل عليها بصورة منتظمة شملت جميع مراكز القيادة والسيطرة، والقصور الرئاسية، والأهداف العسكرية، ومن بعدها بعض دوائر الدولة باعتبارها العصب الأساسي لديمومة معركة الدفاع على وفق خطة أشرت فيها الأهداف بدقة متناهية.
حالة المدافعين النفسية
إن طريقة الشحن الانفعالي للمدافعين في بغداد، اعتمدت على نفس وقائع الشحن التقليدية التي أحتل فيها صدام حسين الأولوية في التركيز على شخصه رمزاً أو هدفاً في القبول والتمجيد، وبذا أرتكب وهو الذي يعيش اوهام المجد، خطئاً كان الأكثر تأثيراً على سير القتال، وعلى نتيجته. خطأ زيدت تأثيراته سلباً، أجهزته المعنية بالشحن الانفعالي في سعيها الى تعزيز بقاءه رمزاً في العقل الجمعي العراقي، من خلال جهدها الحثيث الى تكوين ارتباط "اقتران" نفسي بين الدفاع عنه وبين الدفاع عن وطن العراق. وفي مجالها قام الجهاز الحزبي المدني بعملية التعزيز في عقول المليشيات "أحد أركان الدفاع عن الرمز" فكرة قوامها ان القتال عنه، هو الدفاع الفعلي عن العراق. وسار بنفس الطريق الجهاز الحزبي العسكري، والتوجيه السياسي في دعم فكرة الرمز بين منتسبي القوات المسلحة "الركن الآخر للدفاع" مؤكدين وجوده قائداً أعلى وهدف أسمى للدفاع عنه، ومن بعدهما جاء الجهاز الأمني الذي استخدم القوة والقسر في فرض فكرة الرمزية بين الجميع، إذ بادر لمحاسبة من لا يضع صورة الرمز في المحل والمقهى، وكذلك في دار السكن، ومن لا يختم حديثه بعبارة حفظه الله ورعاه، حتى أصبح تكرارها آلياً، مملا، عزز قبول هدف الحلفاء المعلن بإسقاطه. حملة لم يتخلف عنها الاعلام جهاز رابع، لا تختلف أساليبه عن الأجهزة الأمنية في إحراج الكتاب والصحفيين، والحاضرين إلى المقابلات الاذاعية والتلفزيونية، وفي مجالات الكتابة والنشر. لقد تبادلت تلك الأجهزة الأربعة أدوار الترغيب والترهيب، في عملية تعزيز انتهازية لإبقائه أعلى الهرم رمزاً بديلا عن العراق، واستخدموا التكرار غير المقنن أسلوباً لذلك، فحصلوا بالنتيجة على إيحاءً مضاداً لوجوده رمزاً في العقل العراقي "أي رفض داخلي لأصل الموضوع" وأسهموا أطرافا أربعة بوعي أو بدونه في تكوين:
1. دافعية قتال هشة بين عموم المقاتلين، خاصة العسكريين أو بمعنى أشمل عدم وصول الميل إلى الاستمرار بالقتال في موقف الخطر إلى مستوى القبول بالموت، كقيمة دفاع عن الرمز، كما هو معتاد في ظروف القتال الوطنية.
2. معنويات قلقة غير مستقرة، لم تكفِ عناصرها الاساسية، لتكوين قدر معقول من التوازن النفسي للمقاتلين، وروح جماعية تحكم سلوك المقاتلين، ولم يتيسر في اطارها منحاً للقدوة في سلم القيادة، وشرف للمهنة العسكرية، ولم تكن من بين مكوناتها ما له علاقة بالوطن العراقي الطرف الرئيسي في معادلة التدمير والقتال، كعناصر مهمة لتكوين المعنويات، ومكونات اساسية لديمومتها واستمرارها، عادة ما تدفع المقاتلين في الجيوش التقليدية الى الثقة بالنفس والتماسك الجماعي والاندفاع في القتال والصمود في المعركة الضاغطة، وكذلك الاقتناع بالاستمرار في مهام القتال (15).
3. عدم الاقتناع بالقدرة على الدفاع وبقدرة القيادة لإدارة المعركة الدفاعية، بعد ان وضعت كل القوات المسلحة والمليشيات وجمهور الحزب في دائرة القلق المغلقة، وأبقيت الأجهزة الأربعة المذكورة في محيطها فاعلة من أجل أن تبقي قائدها، رمزاً للمعركة الدفاعية، وإن كانت حالهم النفسية، لم ترق إلى مستوى الاقتناع بالقدرة على الدفاع ايضاً.
الدور النفسي للخصم
انه وضع نفسي تحسب له الحلفاء جيداً في خططهم النفسية، عندما وضعوا في اعتبارهم تلك الايحاءات المضادة، وعملوا على توسيع وجودها في عقول المتلقين العراقيين مؤكدين على أنه، ونظام حكمه أعلى أولويات حربهم في عملية ادعوا انها لحرية العراق، وبذا ألتقت غاية القائمين على الدفاع، مع ما يريده مخططو الهجوم، وتكّون بحكم الشحن الانفعالي في الجانب الحكومي العراقي، وتكرار مفرداتها في الإعلام الخارجي، مفهوم الوجود المادي لصدام حسين في عقل العراقيين كعنصر حاسم في المعركة، وبات القتال من أجل ذلك الوجود الفعلي، هو المحرك الأساسي للحرب وعامل حسم لنتائجها. وهذا يعني من الزاوية النفسية أن غالبية المدافعين العراقيين عسكريين وامنيين وحزبيين، باتوا مقتنعين ان وجود صدام أو استمرار وجوده يعني استمرار الخطر. وان مجرد الاحساس به، احساس بالعيش تحت ضغط التهديد، يدفع عقول المعنيين "المدافعين" للسعي الى التخلص منه في خطوات تدريجية متصاعدة، تبدأ أولاها، بتمني انتهاء الخطر بأقل الخسارة، ثم تتصاعد وتائر التمنيات والأفكار مع شدة الضغط، لتصل في مرحلة من المراحل ما قبل الأخيرة إلى تمني موت الرمز، سبب المشكلة أو مثير الضغط الخاص بالتهديد. عند استمرار الحال على هذا المنوال، وعندما غاب الامل من امكانية إخراج الانفعالات، ومشاعر العدوان نحو العدو في الميدان كنوع من التقليل من الضغط، تغيرت اتجاهات المشاعر من العدو إلى الرمز الموضوع في العقل، كسبب لكل تلك الضغوط. عندها بدأت العقول بإنتاج أفكار لم تكن موجودة من قبل، تكرر تواردها بشكل اشبه بالقسري بينها (لقد ورطنا صدام. المعركة محسومة، ولا يوجد أمل بالدفاع. الخلاص الآن، أحسن منه بعد دقائق).
اتجاهات ترك ساحة القتال
لقد تصاعدت نوعية وحدّةْ الأفكار، لتدفع بالنتيجة إلى قرار ترك الساحة تسرباً من أرض المعركة، أي هروبا منها كنوع من توجهات العدوان بالضد منه، ورغبة في إبقاءه وحيداً لعقاب الخصم، وفي حالتها تكونت رغبات عند البعض للمشاركة في عقاب الرمز إذا ما سنحت الفرصة لذلك. لقد شُحِنَ المقاتلون، وَشَحنِهمْ بالصيغة الآنفة، طيلة فترة ليست قصيرة انفعالياً على أساس الشخص الحاكم، بعده رمزاً للقتال بدلاً عن الوطن، مسألة خطيرة، خاصة إذا ما كان الشخص المعني لم يصل إلى الرمزية الدينية، ولم يحتل منزلة وطنية تؤهله أن يكون رمزاً لجميع الأقوام والأطياف والشرائح، كما هو شأن زعماء آخرين في حروب أخرى مثل جمال عبد الناصر في مصر عام 1956، وهوشي منة في فيتنام، وآخرين في مناطق مختلفة من العالم. إنها خطورة في موضوعنا الخاص بالعراق تأتي من جانبين:
الأول. أن العراق تركيبة متعددة الأقوام، والأديان، والمذاهب، أضطرب تجانسها الاجتماعي في السنيين الأخيرة. وفي ظل هذا الاضطراب لم يتبق لصدام في عقول العراقيين حصة التأييد لمستوى التضحية في حرب غير متكافئة، حتى بين سكان مدينته "مع بعض الاستثناءات البسيطة" لأنه قتل منهم الكثير في خضم الشك والصراعات الجارية، ولم يتبق له في جانبهم بالسنوات الاخيرة، إلا أفراد العشيرة والقريبين الذين أوكل لهم إدارة دفة الحرب والصراع، دون أن يكون لهم وجود بين جنود الميدان الذي تحسم مستويات دافعيتهم، وإيمانهم بالتضحية، ومشاعرهم المعنوية أمر الحرب في ساحتها الفعلية. انهم أقارب، وهم يقودون معركة بغداد في الأيام التي سبقت الحرب، وخلالها أصبحوا يعيشون حالة خوف من المصير المجهول، وبات جل تفكيرهم محصور بكيفية التخلص من ورطة وَضَعهم فيها كبيرهم، متناسين معالم القربة، والمكاسب المادية والسلطوية التي تحققت لهم طيلة فترة حكمه، فأصبحوا هم بالتالي، يعانون وضعاً نفسياً غير مستقر، سرعان ما انعكس سلباً على أوامرهم وقراراتهم، التي كانت بوجه العموم منفعلة أثرت على موضوع الدفاع عن بغداد، وقربت النهاية لمسلسل الهدم الخاص بالقوات المسلحة الذي بدأ من عدة عقود.
الثاني. إن صدام ومن بعده أفراد قيادته، لم يستطيعوا أن يحافظوا على أهداف وفكر حزب البعث أساساً لوحدة الجمهور العراقي، ودافعاً لتقوية الولاء له أو للحزب، وبسبب كثرة أخطاءه، لم يبق للمشاعر القومية في تحقيق الوحدة العربية على سبيل المثال، معنى في عقل العراقيين بعد احتلاله الكويت ومعاداته سورية، وتجاوزه على السعودية، وشتمه الرئيس المصري، وتآمره على الرئيس الليبي. وبسبب هذا السلوك وردود فعل البعض من العرب في التعامل مع أزمة العراقيين بعد عام 1991، قلت كثيراً فاعلية التأثير القومي العربي هدفاً يمكن أن يزيد هامش التضحية، ويحسن الدافعية عند العراقيين.
ان ما ينطبق على المشاعر القومية والوحدة العربية يمكن تعميمه على الحرية، التي قيّدَ في مجالها صدام كل العراقيين ووضعهم في سجن كبير، وفي دائرة العقاب، التي لم تسلم منها عائلة عراقية واحدة. وكذلك الحال بالنسبة للاشتراكية التي وزع فيها العراق، وثروته مغانم على آل المجيد والآخرين من الأقارب، ومن بعدهم الثقاة والمريدين.
إن صدام الذي ضيّعَ أهداف عامة للحزب، كان يمكن أن يتجمع حولها العراقيون غير المتجانسين في فترة حكمه، لم يستطع أن ينتج لهم بديلاً، وبقيّ طيلة فترة حكمه يتخبط بين التجاوز على الفكر البعثي، وبين الدين الطائفي غير واضح المعالم، وبين الاجتهادات الدنيوية، التي في محصلتها زَيدتْ التناشز المعرفي، أكثر من توحيد الجمهور من حوله، رمزاً يمكن القتال من أجله، أو الموت دونه في الظروف الصعبة، كتلك التي عاشها العراقيون إبان الحرب الخليجية الثالثة.
القلق القيادي
إن الهدف من القتال دفاعاً أو هجوماً، ومستوى التوافق بين القائمين على تحقيقه كونا الحالة النفسية العامة لهم كمقاتلين، وللمجتمع المدني من حولهم كداعم لقتالهم، حالة مركبة من الدافعية للقتال والحالة المعنوية وأمور أخرى، حددت جميعها مستوى الأداء الفعلي في القتال. وهي في بغداد وتبعاً لمناقشتنا عمليات التهيئة والشحن الانفعالي المذكورة، يمكن الاستنتاج أن الدافعية إجمالاً وكذلك المعنويات، كانتا بمستويات تقل عن الوسط وتقترب من حافة الضعف، الأمر الذي تسبب في أن يكون الأداء مع أول تماس بالحلفاء بمستوى الضعيف، مع الأخذ بالاعتبار التفوق التقني للخصم الذي زيّدَ من وتيرة الضعف.
إن الخطأ الذي تعودت ارتكابه إدارة الحرب لا يقتصر على عمليات الشحن الانفعالي قبل بدء المعركة فقط، بل وكذلك بإسلوب الإدارة النفسية لجوانبها قبل وأثناء حدوثها، إذ أستمر هو والخط الأول "قصي، عدي وعبد حمود" في السير بطريق الشك والتخويف والتهديد أسلوباً وحيداً للتعامل مع الخط الثاني الذي يلي، واستمروا في التوجيه بإعدام المقصرين، وعدم التساهل مع المتهاونين، والتخاطب بعصبية وألفاظ خشنة، تفسر أنهم يعيشون حالة قلق وتوتر، حتى أصبح المصنفين في ذاك المستوى من القيادة أي الخط الثاني، مرعوبين، يحاولون طوال الوقت الدفاع عن أنفسهم إزاء الخط الأول، قبل حشد جهدهم وطاقتهم لمقاتلة الحلفاء على أسوار بغداد أو في محيطها الداخلي. لكنهم وبهدف التخفيف عن حالتهم غير المستقرة من ناحية، وتوزيع مساحة المسؤولية على من يخلفهم بسلم القيادة من ناحية أخرى، تقمصوا شخصية الأعلى، وباتوا يتعاملون بنفس الصيغ والأساليب، وهكذا الحال لكل مستويات القيادة، نزولا حتى آمر الفصيل والحضيرة والمفرزة. لغتهم السائدة تهديد بالموت في حال التقصير حتى قبل وصول العدو حافات دفاعاتهم. والتهديد المستمر من هذا النوع، يخفض المعنويات، ويستنزف الطاقة النفسية المطلوب وجودها للتعامل مع الموقف القتالي.
ان حالة القلق لدى الإدارة الأعلى، انعكست على السلوك بصيغة دعوة مبالغ بها للحذر بشكل مستمر، فكان الخط الأول عند توفر وسائل الاتصال المباشر وغير المباشر، اعتاد الاستفسار عن الحال مع التوجيه بضرورة البقاء في أعلى درجات الحذر. طلبٌ، يعبر بصيغ مكتوبة في البداية وشفوية في المراحل التي تلي إلى سلم القيادات الميدانية، حتى يصل المقاتل في مكانه الدفاعي، بشكل تأكيد على البقاء في اقصى حالات الحذر بتواتر يومي، وفي بعض الأحيان تتكرر الحال لأكثر من مرة، تبعاً لتواجد الأعلى وفرص اتصاله. وهكذا نُقل القلق الموجود في أعلى مستوى إلى المقاتلين في الصفوف الأمامية، وأسهم مباشرة في زيادة توترهم وإرهاقهم، وكذلك باستنزاف المزيد من الطاقة التي لم يتبق الكثير منها، لدى المدافعين عن بغداد وفي خارجها يكفي لديمومة الصمود في الموضع القتالي. وبسببها أصبح الحال نوعاً من اليأس والتعب، مع قدر غير قليل من التوتر، وصل إليه غالبية المدافعين، بسبب تفوق الحلفاء الساحق من جهة، وأخطاء الخط الأول في الإدارة والتعامل والتعبئة والشحن الانفعالي كما ورد في أعلاه، من جهة أخرى. هذا وبالإضافة إلى ما ورد في أعلاه، فإن الحرب التي أدركها الموجودون في ساحة بغداد بين يوم وليلة، أنها خطر حقيقي يهدد وجودهم الإنساني، أي احتمالات الموت بنسبة عالية لم يكن قد تهيئوا لقبوله نفسياً، إذ أن المعنيين بمساعدتهم على ذلك لم يكن لديهم المجال لتحقيقه منطقياً. لتركيز جل جهدهم على القائد الضرورة. وبسببها أفرغ العقل من تلك الأفكار والمعايير، التي تُعِينْ على الصمود تحت الظروف الضاغطة، إذ أنه من المعروف وعند مواجهة الخطر "الضغط" مثل القصف أو المواجهة، يلجأ المعنيون عادة إلى خزين العقل من الأفكار والمفاهيم والمعايير السابقة، يستمدوا منه العون لاتخاذ الخطوة المناسبة في التعامل مع موقف الخطر المذكور، كما يحاولوا استنفار ما موجود من احتياطي الطاقة النفسية لذات الغاية. وعلى أساسهما تحدد الانفعال في تلك الفترة الزمنية الحرجة بصيغ قلق- خوف- توجس. كونت سلوك: الهروب - التسرب - الاختفاء.
ان هذه الصيغ من السلوك، قد سادت في الحرب الاخيرة، ولان السلطتين السياسية والامنية اللتان كانتا تخيفان المقاتلين، قد ضعفت او انتهت للحد الذي لم تستطع الحيلولة دون التحرر من قيود الخوف، لذا تصرف المقاتل على هوى حالته النفسية، دون الاحساس بقيد الامن، وتبعات الضوابط العسكرية، وبسبب هذا التصرف ولفقدان الآمرين والموجهين السياسيين، السيطرة مع أولى ساعات التماس، فلم تظهر في هذه الحرب اصابات بصدمة المعركة، وظهرت بدلا منها، فوضى انفلات مثلت أعلى مراحل الهدم التي بدأت من زمان. كانت بغداد معركة، أرادها صدام نهاية أو اندحار للحلفاء الذين شبههم بمغول العصر، لكنه لم يستطع تكوين أفكار في عقول المدافعين، تلائم الدفاع عنها عاصمة للحضارة العراقية. وهي وان تغنى بها المطربون، وكتب عنها الأدباء والمثقفون، وربط بعضهم بين تألقها وعظمته قائداً أوحداً للعراق، ربط ٌبمحصلته أضعف موقف بغداد، ولم يقوي من حال صدام قائداً للمعركة، ولم يحول دون اتمام المرحلة الاخيرة من عملية الهدم لبنية القوات المسلحة.
هلع القوات المدافعة عن بغداد
لقد شغلت معركة بغداد، المراقبين والمحللين، حتى أعطوها صفة السقوط الدراماتيكي، قبل الشروع بدراسة طبيعة ذلك السقوط وأسبابه، وبدلاً عنه سعى البعض إلى التبسيط، مستنتجاً وجود أو عقد صفقات بين بعض القادة الميدانيين للحرس الجمهوري والحلفاء، معللين استنتاجاتهم باختفاء المدافعين من بغداد بشكل مفاجئ، على الرغم من ان الاختفاء وارد في كل الحروب. ومع هذا فان اختفاء البعض، لا يفسر وحده حالة الانهيار السريع والتام لكل الدفاعات عن هذه المدينة، التي أرادها القادة أن تكون عصية على الحلفاء، وأرادها المهاجمون، مثالاً لمعركة سقوط مريع للحاكم والحكم. هذا ولكي تكتمل جوانب التفسير لهذا السقوط من أوجه متعددة، لا بد وأن ننظر إلى فعل عدم القتال، وترك المواضع من الزاوية النفسية، التي يمكن أن تزيد من وضوح الصورة التي امتازت بقدر من الضبابية مع أولى ساعات الانهيار، وخطوة في هذا الاتجاه تتطلب عرضاً بسيطاً لواقع الدفاعات عن وفي بغداد، وسير أحداث القتال في مجالها. حيث عبأت القيادة العامة أربعة فرق حرس جمهوري للدفاع القريب عن بغداد، وفرقتان للدفاع في المحيط الأبعد، وكلف الحرس الخاص بمستوى تنظيم يصل إلى أكثر من فرقتين، زائداً مليشيات الحزب، وفدائي صدام، وبعض من ألوية جيش القدس للقتال في الداخل. أما الحلفاء الذين تعاملوا مع موضوع بغداد بتأنِ، فقد زادوا من ضغطهم على فرق الحرس الجمهوري البعيدة منذ اليوم 2/4، وأعلنوا أنهم قد كبدوا فرقة المدينة المنورة خسارة تزيد على 50% من قدرتها القتالية، وإنهم دمروا فرقة بغداد وتقربوا إلى العاصمة بحدود 40 كم. وفي الوقت الذي أنكرت القيادة العامة تلك المعلومات، اكدت أنها كبدت الحلفاء المزيد من الخسارة، وأعاقت تقدمهم من العاصمة، وفي المقابل، أعلن الحلفاء يوم 3 /4 احتلالهم المطار، ودخولهم قصور رئاسية في الرضوانية. اعلان وثقته جيوش الصحافة التي رافقت القوات، ونقلت بعض تفاصيله بما لا يثير الشك في حصوله فعلاً.
الاعلام الحكومي يمهد لحالة الهلع
مع هذه التطورات السريعة، وغير المتوقعة من القيادة العامة، وضع وزير الإعلام السيد محمد سعيد الصحاف قيادته في زاوية حرجة إذ ظهر يوم 4/ 4 معلنا أنهم سيبدؤون تنفيذ أعمال غير تقليدية بالضد من الحلفاء اعتباراً من هذه الليلة، ووعد أنها ستكون فاعلة ومؤثرة، دون أن يفصح عنها مؤكداً في ذات الوقت، أنهم قد أوقعوا الحلفاء في فخ المطار، وستباد قواتهم جميعها في هذه البقعة الضيقة.
ان السيد الصحاف الذي اراد ان يعطى بتصريحه المذكور أملاً في الرد المناسب كانت نتيجته سلبية، عندما صحا الجميع في اليوم الذي يلي التصريح أي 5/4، ليجدوا بدلاً من حصر قوات الحلفاء وتدميرها داخل محيط المطار، أن قوة مدرعة منها دخلت بعض أحياء الكرخ، وإن رتلاً من الجنوب وصل الدورة، ورغم ذلك أصر الصحاف أن المطار بات تحت سيطرة القوات العراقية.
إن الأعمال غير التقليدية التي نوه عنها الصحاف، والتي زادت من ارتباك القيادة يبدو أنها تتعلق بعمليات انتحارية كان مخطط لتنفيذها من قبل عراقيين سجلوا أسمائهم أو سجلوا في سجل الانتحاريين، بطريقة الترغيب "المكافئات" والترهيب "الإيحاء العقابي" ومن عرب ألتحقوا أخيراً. وقد انتهت الليلة، ولم تسجل غير عملية واحدة عرض أصولها تلفزيون بغداد لسيدتين، قيل أنهما نفذتا العملية قرب سد حديثة الذي يخضع لسيطرة الحلفاء.
لقد كانت ليلة 6/7 نيسان هادئة في بغداد، وكأن الحلفاء لم يكونوا مستعدين لمواصلة المعركة فيها، لكنهم ومع ساعات الصباح الأولى ليوم 7، دخلوا بغداد الكرخ حتى وصلوا القصور الرئاسية، وساحة الاحتفالات الكبرى، كذلك السيطرة على الرستمية والقتال داخل معسكر الرشيد، مع القيام بعمليات إنزال لقوات المارينز، من الطائرات السمتية في مناطق متفرقة من بغداد الرصافة، ويبدو هذه المرة كان دخول القوات الحليفة شوارع بغداد للسيطرة وحسم المعركة، وليس جس نبض وإرباك الدفاعات كما كان في المرتين السابقتين.
كان يوم 8 نيسان، يوماً حاسماً في معركة بغداد النفسية، زاد فيه القصف شدة على العاصمة، وبعد ان وسعت قوات الحلفاء انتشارها في أحياء الكرخ، أعلنت أنها قصفت مجموعة دور في المنصور خلف مطعم الساعة، عرفت أن صدام ونجليه وبعض القادة يجتمعون فيه، وإنهم لم يخرجوا منه حتى بعد إتمام عملية القصف بقنابل ذكية من طائرة كانت موجودة في الجو، وجهت فوراً لإتمام هذه المهمة التي اعتبرت ذات اسبقية اولى ومستعجلة. وروّجَ الحلفاء بعد العملية الاستخبارية هذه احتمالات مقتل صدام وأعضاء قيادته العليا. وفي هذا اليوم أيضاً توقف البث الإذاعي والتلفزيوني الرسمي، وقُصفَ مكتب الجزيرة، وأبو ظبي، وكذلك فندق فلسطين الذي يقيم فيه الإعلاميون، وظهرت على الجسر القريب منه دبابات الحلفاء.
الهلع الموقفي
بعد ضرب بيوت المنصور وانتشار الحلفاء في معظم أحياء الكرخ، ودخولهم مدينة الثورة من الشرق توقفت الاتصالات بين القيادة العليا، والمستويات التي تلي، ومع الضياء الأخير لهذا اليوم انتقلت كثير من القيادات العليا من الكرخ إلى الرصافة، وتسرب بعضها إلى البيوت، حتى لم يجد كثير من المقاتلين آمريهم وقادتهم في أماكنهم الدفاعية، عندها أضطرب الموقف، وبدأ في لحظتها تدفق القلق بشكل مفاجئ إلى النفوس، فأصابهم الاهتياج، واندفعوا بسببه إلى الهرب نحو الداخل إلى بيت العائلة، والصديق أو القريب كحل وحيد للتخلص من تلك الحالة النفسية التي أسماها علماء النفس بالهلع (17) . لقد أحس المقاتلون في بغداد اختفاء قادتهم أو تبعثرهم، وتلمسوا عودة ما تبقى من منتسبي الحرس الجمهوري التي دمرت أسلحتهم في معارك الأيام السابقة متسربين إلى الداخل قريباً منهم، فعاشوا لحظات صعبة مطلوب فيها اتخاذ قرار، وهم الذين لم يتعودوا الاعتماد على النفس في اتخاذه أثناء عمليات الشحن والتهيئة المسبقة، التي اقتصرت على تنفيذ الأوامر والتوجيهات الصادرة من الأعلى دون نقاش، عندها زادت في داخلهم شدة القلق والتوتر، ومن ثم فقدان السيطرة، واضطراب الإدراك، وشل التفكير "الهلع الموقفي". حالة نفسية تظافرت عدة أسباب لتكوينها بهذه السرعة من أهمها:
1. القطع المفاجئ للاتصال المادي عن طريق الوسائل السلكية، والسعاة بين القائد الأعلى، ومن معه في خط القيادة الأول، وبين مفاصل القيادة التي تلي بالمستويات الوسطى، وبسببها أصيبت بالشلل الفكري، والحيرة في الأمر وربما الصراع بين البقاء واحتمال الموت، وبين الهروب واحتمالات النجاة. صاحب هذا القطع، في نفس وقت حدوثه، توقف التواصل النفسي والشحن المعنوي الذي كان القائد العام، يديره شخصياً من خلال ظهوره بوسائل الاذاعة والتلفزيون بين الجماهير البغدادية أو بالرسائل التي كان يوجهها بصوته أو بالنيابة لأكثر من مرة يومياً، بعد أن دمر الحلفاء تلك الوسائل تماماً، وهذا التوقف الذي تناغم مع قطع الاتصالات، وانتشار خبر قصف بيوت المنصور، وضع المعنيين بالدفاع قادة ومقاتلين في حالة الفوضى والارتباك، قريباً من اليأس شبه المحتوم.
2. الانتشار الواسع لقوات الحلفاء في الكرخ مقر الحكومة، وغالبية دوائرها المهمة، التي أتخذ بعضها مقرات لإدارة المعركة الدفاعية بمستوى القيادات الوسط، كون صدمة أربكت مفاصل القيادة والسيطرة في عموم العاصمة بغداد أو بالأحرى غيبها من الساحة، وما تبقى منها لم يعد يمتلك وسائل السيطرة على المدافعين القلقين.
ان صدمة دخول بغداد من قوات الحلفاء، واصرار القيادة العامة على احتفاظها بالسيطرة على الموقف، وتكذيب الاعلام العالمي الذي ينقل تفاصيل القتال، زاد من حصيلة القلق، الى مستوى احداث حالة هلع، بين صفوف غالبية المقاتلين. هكذا كان الموقف نهاية يوم 8 نيسان، حالة هلع لم تترك خياراً للمصابين بها، إلا الهروب من الموقف "التسرب الشامل" للغالبية في جانب الكرخ، زادته شدة دخول الحلفاء مدينة الثورة التي يتحسس النظام عدائية أهلها للحكومة، والحزب، وتوجه شبابها لملاحقة من تبقى من المفارز الأمنية والحزبية، التي تبعثرت سريعاً في بغداد. وكان المشهد الأكثر إثارة وتأثيراً عبور الحلفاء إلى الرصافة يوم 9 نيسان، وتنفيذهم مشهد إطاحة أكبر تمثال لصدام حسين في ساحة الفردوس، إيذاناً بسقوطه أو بالمعنى النفسي محاولة تحرير العراقيين من سلطة الخوف التي أطبقت على عقولهم لخمس وثلاثين عاما.
الهلع القيادي
كان مشهد اسقاط التمثال تلفزيونياً، مع أحداث اليوم الذي سبقه صدمة لعموم القيادة السياسية والعسكرية، كونت حالة هلع عند غالبيتهم الذين تبعثروا بسببه وتواروا عن الأنظار، وكذلك ما تبقى من المقاتلين القريبين منهم. توجهوا إلى بيوتهم محبطين باستثناء بعض الجيوب القليلة خاصة من بين العرب، الذين جاءوا لمقاتلة الأمريكان دون أن يتحملوا أعباء صدام.
لقد عاش المقاتلون في بغداد أياماً صعبة مثيرة للتوتر والقلق منذ معركة المطار وحتى يوم 8 وقليل من يوم 9 نيسان متمثلة آثارها بقصف شديد متواصل. وتهديد بالموت في كل لحظة. وتذكير بالحيطة والحذر مع كل اتصال يؤمن. ثم توجس من قوى الداخل غير المنظورة. كونت جميعها أفكاراً يغلب عليها الندم وتوقع الأسوأ، سهلت تدفق القلق سريعاً إلى الذات الشخصية، فتوجه المدافعون بسببها إلى التخلي عن أماكنهم بصورة جماعية، فكانت حالة هلع بالمعايير النفسية (18).
إن الإصابة بالهلع، دفعت المقاتلين إلى ترك اماكنهم التي يتواجدون فيها، كمثيرات للهلع دون تحسب لما سيحصل من بعده، ما يهمهم هنا والآن التخلص من الموقف الضاغط. هذا وقد سجلت حالات شديدة للهلع، لم يعد اصحابها يسمعون اقرانهم القريبين منهم. ولم يعيروا اهتمام لنصائحهم ذات الصلة بالانتظار حتى انجلاء الموقف. ولم يمتثلوا لأوامر بعض القلة من الآمرين بضرورة الانتظار. ولم يخشوا أو يخجلوا من سلوك يؤديه بعضهم برمي أسلحتم وخلع ملابسهم ورتبهم العسكرية، والجري لترك المكان. ولم يخفوا استعدادهم لقتل من يقف في طريقهم، ثمناً للتخلص من موقف غير قادرين على تحمل ضغوطه. (19).
الهدم النفسي
إن معركة بغداد التي بدأت يوم 3 وانتهت يوم 9 نيسان، لا يمكن عدها منفصلة عن أحداث معارك أخرى كانت ممتدة على كل مساحة العراق في ظل تغطية إعلامية لم تشهدها حرب من قبل في منطقتنا العربية، وربما في مناطق أخرى من العالم، حتى بات المشاركون فيها والمراقبون لأحداثها، كأنهم يعيشون بعض أحداثها سوية في أرض المعركة الممتدة، وهذا يعني أن البغداديين مقاتلين وسكان مدنيين متداخلين، كانوا يتابعون تطورات الحرب حتى 8 نيسان يوم انقطاع التيار الكهربائي بشكل عام. متابعةٌ يمكن أن تكون مقبولة عن طريق المذياع، وقليل من الفضائيات، وكان غالبية العسكر، والمليشيات يتحسسون الخسارة، ويتوقعون نتائج مأساوية كونت عند القسم الأكبر منهم حالة نفسية فيها المعنويات هابطة. دفعت في أن تكون أفكارهم أقرب إلى التشاؤم منها إلى التفاؤل، حتى دخول بغداد فعلياً، أشعرهم كمقاتلين بشكل مفاجئ، أنهم في موقف خطر لا محالة.
ان الشعور بالخطر في مثل هكذا مواقف، عادة ما يدفع الانسان الى التفكير المثير به أي الخطر "انها كارثة لا محالة"، يصاحبه انفعال نفسي يؤثر عضوياً، بقدر يفضي الى تسارع ضربات القلب، ثم الاصابة بحالة من الدوار، مع مزيد من الأحاسيس الداخلية المضطربة. واتسام الحالة العاطفية بالانفعال، والحالة العقلية بالارتباك، عند البعض قد يكون شديد. اما في الجانب المعرفي فيستمر التفكير باتجاه سلبي "لقد حَلتْ الكارثة- لم أستطع أن أسيطر على مشاعري وأفكاري وسلوكي- يمكن ان أموت أو أصاب بالجنون أو أفقد السيطرة على نفسي ...... وهلم جرا ".
أفكارٌ تعقبها أخرى في تدرج معرفي غير مسيطر عليه في معظم الاحيان مثل" حالتي تسوء – كل شيء يمكن أن يحصل- الموت- الجنون- اذا لم تأتينا مساعدة سأكون قد ضعت". كل هذا يحصل بسرعة كبيرة، ينتقل خلالها أو يتحول سلوك المعنيين به، إلى اضطراب وعدم اتزان مخل بالمعنويات، وهو حصول يمكن أن يتم دون ان يدرك المقاتل تفاصيله أو تدرجاته.
الغموض
واجه العراقيون عموماً ومنتسبو القوات المسلحة على وجه الخصوص في هذه الحرب، موقفاً غامضاً أي مجهولاً أدى الى ان تتصاعد حالة التوتر، وعندما لم يجدوا متسعاً من الوقت لاكتشاف ذلك الغموض بدافع خفض التوتر، وإعادة الاتزان إلى حالته الاعتيادية، زادت مستوياته فوق الاعتيادي بعد ان وجد المقاتلون أنهم في مواجهة موقف أو مجموعة مواقف، عاجزين عن إدراك طبيعتها أو التحكم بنتائجها، عندها عاشوا حالة خوف مصدره غير واضح آنياً، اثر على حالتهم النفسية وعلى قدراتهم في الاستمرار بالقتال، حالةٌ، لو تم النظر الى حقيقتها نفسياً، نجد ان عاملين اساسين قد تفاعلا في حصولها هما:
1. البعد الذاتي. نقصد هنا ما يتعلق بالتركيبة العضوية والنفسية للبشر، وبينهم العراقيين التي تتميز بالتوجس من كل ما هو غير معلوم، كخاصية وجدت مع بداية وجودهم، واستمرت معهم عبر مراحل الحياة حتى يومنا هذا، مؤدية إلى أن يكون لكل فرد منهم خبرته المتراكمة وتصوراته الخاصة عن ماهية الأشياء المعروفة وغير المعروفة، والتي تساهم بشكل مباشر في تحديد طبيعة وردود فعله الذاتية "العضوية والنفسية" في المواقف التي تتسم بالغموض (20).
هذا وبالعودة إلى خبرة المقاتلين العراقيين كطرف في هذه الحرب التي تعاملوا فيها مع الأمريكان والبريطانيين وباقي الحلفاء طرفها الثاني، يمكن التأشير الى أنها خبرة سلبية "مؤلمة" تعود إلى أحداث حرب الخليج الثانية، التي شهدت هي الأخرى حالة انهيار معالمها متشابهة نسبياً مع ما جرى في بغداد إبان الحرب الخليجية الثالثة، يوم خسر العراق المواجهة والحرب، وما صاحبها من خسائر على طريق الانسحاب، وعدم القدرة على مقاتلة العدو المتفوق حتى تمزق الجيش العراقي، بطريقة توزع منتسبوه بسببها أفراداً وجماعات صغيرة غير منظمة بين مدن الجنوب وبساتينها، وعلى الطرق الرئيسة بين عموم المحافظات (21). عندها تكونت أفكاراً وخبرات عن تفوق الحلفاء بقوة دفع اسهمت بإيجاد مستوى شديد من التوجس حد الخوف، وإن لم يكن معلنا بسبب طبيعة الشحن الانفعالي والتوجيه القسري في المؤسسات الحزبية والعسكرية والأمنية العراقية، فكانت صدمة هدم شديدة، توقفت بسببها المؤسسة العسكرية العراقية آنذاك، عن التطور والنمو من نواحي التقنية ونوع التسليح ووسائل التدريب والاتصال على وجه الخصوص مع بعض الاستثناءات القليلة في مجال الدفاع الجوي لم ترق إلى مستوى المنافسة الفعلية مع الغرب والامريكان. صدمةٌ، مهدت الى أخرى جديدة، انهت المؤسسة بشكل كامل. وخوفٌ او توجس كان موجوداً أو كامناً قبل حصول الاشتباك الفعلي في هذ الحرب الاخيرة، سرع من حصوله ثانية واتم عمليات الهدم.
2. البعد الخارجي. إن الخوف مشاعر تتعلق اساساً بالتصور العقلي للمقاتل، لما يمكن أن يحيط به، وبكيفية إدراكه وتقييمه لاحتمالات الخطر الذي قد يصيبه، أثناء تواجده في الموقف القتالي، لكنه خوف لم يحدث أثر لمستوى الإعاقة أو الانهيار، إن لم تكن هناك مثيرات خارجية، يسبب وجودها خطراً، يتفاعل مع تلك التصورات الذاتية التي تنتج الخوف من عدمه. وفي موضوعنا الخاص بالحرب الاخيرة كانت الخبرة عند الكثيرين في الجانب العراقي سلبية "توجس مسبق" عمقته الإدارة المسؤولة عن الشحن الانفعالي والمعنويات، إذ لم تستطع أن تقنع المقاتلين العراقيين أصلاً بأسباب قبولها حرب يتفوق فيها الخصم بشكل حاسم. ولم تتمكن بوسائلها التقليدية من استنفار انفعالاتهم الوطنية، للتعامل معها حرب واقعة لا محالة، وبدلاً من أن تتعامل مع الموقف بشكل عقلاني، تحولت إلى:
آ. استخدام الكلام أسلوباً للاستنفار، حيث العودة بالتركيز على مصطلحات الامبريالية والاستعمار والاحتلال وسرقة النفط، وغيرها مفاهيم لم يعد العراقيون يستجيبون إليها في حالتهم النفسية غير المستقرة، وفي مقارناتهم العقلية بين الماضي والحاضر أو بالمعنى الأشمل، سئموا تكرارها لخمس وثلاثين عاماً أصبحت فيه غير قابلة للتأثير على المشاعر غير المستقرة.
ب. الغيب "الموروث الديني" وسيلة للتعبئة في التعامل مع الموقف، بطريقة تشبه التسليم إلى القضاء والقدر في النهاية شبه المحتومة، وفي مجالها المحدد والحساس تحول الحزب العلماني، ورئيسه المعروف بانحيازه إلى داعية دينية في خطبه، ورسائله الموجهة إلى العراقيين، بينهم المقاتلين في الميدان. وهذا موضوع معقد بالنسبة الى العراقيين غير المتجانسين طائفياً، وغير المؤمنين في أغلبهم بتحولات البعث الدينية أو الاستشهاد من أجل استمراره في الحكم، الأمر الذي دفع إلى التوتر أكثر من التهدئة، التي كانت اجهزة الدولة المعنية تسعى إلى تحقيقها. بضوء تلك التعبئة المشوشة، أبقت الحكومة مجبرة، هامش المجهول واسعاً فيما يتعلق بالعدو الأمريكي. إذ لا يعرف عموم المقاتلين عن ذلك الجيش تسليحاً أو تعبئة أو سلوكاً، وإن عرفوا بعض الشيء بجهود ذاتية فكان منقوصاً. وأبقت كذلك دون وعي منها، الصور العقلية عن أولئك القادمين من الحضارة الأكثر تفوقاً في العالم غير واقعية. وبما أن العقل الإنساني يميل بطبيعته إلى إكمال الصورة حسب قوانين الجشطلت (22) فإن المقاتلين قد أكملوها عقلياً على الأغلب، في ظروف القتال غير المتكافئة، وفي اثناء اكمالها، تلمسوا فيها أن زملائهم يقتلون في كثير من الأحيان قبل أن يشاهدوا أو يتلمسوا الجندي الأمريكي، الذي فرضت أساليب إدارة الحرب من جانب قيادته أن يتم القتل عن بعد، بوسائل متعددة تكمل كل واحدة منها الأخرى، وأدركوا خلالها احتراق وتفجير دباباتهم قبل أن يرصدوا الدبابة أو الطائرة الأمريكية المواجهة لهم، فكانت المعركة في غالبها عمليات صيد مؤلمة، اكتملت على وفقها الصورة عن قوة الأمريكان "في غير صالح المقاتل العراقي" قوامها إن الخصم، لا يمكن مقاومته. وإن مصادر الخطر، لا يمكن تحديدها.... صورٌ عقلية، فيها تهويل نفسي واضح، أنتجت بتفاعلها مع متغيرات أخرى في الموقف الضاغط، خوف من مقاتلتهم.
إن تأثير المجهول على سلوك المقاتلين في هذه الحرب، جاء من تلك الصورة التي تكونت أو اكتملت في العقول أثناء سير معاركها، وكانت في معظم الأحيان مُبالغ فيها بسبب الوضع النفسي غير المستقر أثناء اكتمالها. إذ وعندما يبالغ المقاتل في تصوره للآثار المادية "الخطر" الذي يمكن أن يتسببه الخصم على سبيل المثال، يبقى معظم الفترة التي تسبق الاشتباك بذاك الخصم بوضع القلق والترقب "معنويات هابطة"، وهذه حالة كانت موجودة عند المقاتلين العراقيين في المعركة الدفاعية التقت مع طبيعة العقل البشري الذي يميل إلى المبالغة وتضخيم الأشياء (23)، زادت تعقيداً عندما لم يجدوا وقتاً كافياً لتفسير الخطر، في معركة تجري أحداثها بسرعة وبوقائع تخللتها الكثير من المفاجئات، كما حصل في معركة بغداد حيث الدخول السريع إلى المطار، ثم إلى أحياء مهمة من بغداد، والخروج منها، والقيام بعمليات إنزال بالسمتيات في أحياء أخرى.
احداثٌ سريعة لم يستطع العقل الذي يدير المعركة الدفاعية أن يستوعبها، وكذلك حال المقاتلين في المواضع القتالية، ابقت التخوف من المجهول ضغطاً نفسياً مضافاً أسهم في حدوث حالة الانهيار المعنوي.
صورة القائد المعكوسة
إن الأمر في المعركة التي دارت في عموم العراق باستثناء مدن كردستان، لم تكن هي المعركة التي أريد لها أن تكون من قبل القيادة العراقية، إذ وعند الساعات الاولى للتعرض الى الموقف الضاغط، وبسبب ذلك الشحن الانفعالي الأحادي على مر السنيين، وشدة الخطر الذي كونته قوة الخصم في اللحظة المحددة، بدأ ظهور الأفكار ذات الصلة بالقائد الرمز معكوسة، أي وبدلاً من تكون محوراً للرمز والمنقذ والمخلص الذي يستحق التضحية، استبدلت بأخرى ذات صلة بتسببه البلوى والكارثة، وتحمله النتيجة التي عادة ما تسحب تسلسل الأفكار إلى مقدار الربح والخسارة الاتي من المعركة، والجدوى من الاستمرار فيها، والأمل في النجاة بمغادرة ساحتها، التي تخل جميعها بالحالة النفسية، وتدفع إلى التنحي جانبا عن القتال. انه وضع او صراع نفسي مؤلم عاشه المدافعون عن بغداد، بعد أن ملأ صدام نفسه، مجالات تفكيرهم بالدفاع عنه، وليس القتال دون احتلال العراق وعاصمته بغداد، ومعه طبيعة أفكار استنزفت جل طاقتهم النفسية، ولم تبق إلا القليل من الاحتياطي الذي لم يكن كافياً للتعامل مع بداية الهجوم المدرع على محيط العاصمة التاريخية بغداد. وهذا يعني أن أولئك المقاتلين المدافعين بدأوا يعيشون حالة قلق وتوتر وخوف من النهاية المحتومة، تطورت إلى الشك بقيادتهم وبآمريهم الذين يمثلون امتداداً نفسياً للقائد العام، المطلوب الدفاع عنه في ظرف قتال يائس. حالة عامة شملت عموم المدافعين عن بغداد امتدت الى القوات المحيطة بها، ستة فرق للحرس الجمهوري تكبدت في معارك الأيام 6 ، 7 و 8 خسائر لكل دروعها، حتى أبقت موجودها ليوم 7 نيسان، بما لا يزيد عن مستوى لواء مدرع، وهذا بحد ذاته شكل صدمة كبيرة للقيادة، وكذلك للمقاتلين الذين يدافعون عن بغداد. إذ تسرب إلى داخل المدينة الكثير من منتسبي الحرس الجمهوري الذين نجوا من التدمير، واصبحوا مثالاً لخسارة محتومة في عقول الجميع، أضافت إلى ميزان الصراع عوامل باتجاه التفكير بعدم جدوى الاستمرار بالقتال. وجاء العامل الأكثر تأثيراً على الحالة النفسية لمقاتلي بغداد، من المعركة التي دارت في مطار صدام "بغداد لاحقاً" إذ صحوا على وجود الحلفاء على ارضه، بمستوى من التواجد شكل صدمة بالنسبة إلى الجميع بينهم القيادة ذاتها، والتي حاولت في تهيئة قوة هجوم مقابل في اليوم الثاني، لكنها فشلت مع بداية انطلاقها، حيث التسرب الملموس للمهاجمين إلى داخل المدينة وأحيائها السكنية على طريق المطار، وكان هذا عامل آخر يضاف إلى زيادة التردي في الحالة النفسية المعنوية المتردية. لقد كان الأمر هكذا، خوف يزداد تدريجياً مع ملامح اليأس من احتمالات تحقيق الصمود أمام عدو لم يقاتل بطريقة مفهومة حتى وصوله إلى بغداد، إذ اعتقدت القيادة وربما عملت على أن الحلفاء سيغوصون في مستنقع المدن الجنوبية، فهناك ستة محافظات في طريق الحلفاء قبل الوصول إلى بغداد، اعتقد صدام أنها ستعيق تقدمهم إلى بغداد حتى تفاجئ بأسلوب الحلفاء في الاستمرار بالتقدم نحو مقره بسرعة هائلة، وفرز قوات لا تزيد عن مستوى لواء على الأغلب للتعامل مع كل محافظة مع السعي لتطويق البصرة على اعتبارها المحافظة الثانية بعد بغداد، بالاعتقاد ان تطويقها ثم سقوطها باقل الخسائر عامل تأثير نفسي قوي على المقاتلين في العاصمة، وباقي المحافظات الأخرى.
إن التقدم السريع الى بغداد أربك الدفاعات العراقية، وإن التوقف الذي أعلن عنه الحلفاء وأخرجوه بطريقة توحي بمصاعب في التقدم وخشية من تكبد المزيد من الخسائر، لم يكن توقفاً لإعادة التنظيم كما أعتقد البعض، لأن وحدات الحلفاء لم تتكبد خسائر تلزمها بإعادة التنظيم. ولم تكن كذلك قد خاضت معارك لعدة أيام وأسابيع تقتضي التوقف وتبديل القطعات. ولم تكن للتعامل مع نقص حاد بالتموين والشؤون الإدارية. بل كان أساسه خطة لسحب فرق الحرس الجمهوري إلى معارك برية تتفوق فيها الدبابة الحليفة في المدى والتدريع، مدعومة بالطائرة السمتية الأباچي، وA10 التي أجبرت تلك الوحدات على خوض معارك، كانت عبارة عن قنص أكثر منها مواجهة حقيقية بين الدروع العراقية والحليفة، إلا في حالات قليلة قريباً من كربلاء وسدة الهندية.
ان معارك القنص هذه أخلت بالدفاعات عن بغداد، ومهدت لدخول المطار الهدف الأكثر وضوحاً في محيط بغداد، أو هو الهدف الذي فتح ثغرة في العقل المدافع وجَسدَّ أفكار اليأس وعدم القدرة على الاستمرار. او هو الهدف التعبوي الذي كون صدمة في الجدار النفسي للقادة العسكريين والمقاتلين. لقد احتلوا المطار الدولي "صدام" واستبدلوا تسميته فوراً بمطار بغداد، كنوع من التأكيد على جدية التغيير". وقبل النزول فيه أبقي سليماً لم تقصف مدارجه ومنشآته مثله مثل عديد من القصور الرئاسية، وبعض المنشآت الحيوية، بقصد استخدامها، كمقرات رئيسية لقياداتهم الرئيسية. فالقصر الجمهوري في كرادة مريم، استخدم مقراً للحاكم المدني. وبناية وزارة النفط، قاعدة لإنتاج وتصدير النفط. وكذلك الحال بالنسبة الى بناية وزارة الداخلية التي استخدمت بسرعة من قبل وزارة الداخلية المعاد تشكيلها من جديد، للإسراع بالمشاركة في ضبط الشارع والقتال بالضد من الارهاب. وقد زادت شدة القصف في اليوم الثاني أي 3 نيسان، عندما تمكنت وحدات من الفرقتين الأولى والسابعة الأمريكيتين من عبور نهر ديالى، ودخول بغداد من الجنوب والامتداد إلى الشرق "مدينة الثورة"، وفي الجانب الغربي تحركت قوة مدرعة من المطار في عملية إعلامية أرادت بها ضرب معنويات القيادة والمقاتلين في آن معاً من خلال:
1. إشعار القيادة العراقية التي ما زالت تسيطر على بغداد أن الحلفاء تخطوا أسوارها.
2. إن المعركة ما زالت مع صدام، وإنهم جادون بمتابعة وجوده الرمزي الذي بدأ يتهاوى مع ساعات الوصول إلى المطار.
هكذا انتهت معركة المطار، ممهدة لانتهاء معركة بغداد في اليوم الثاني، وكذلك باقي مناطق العراق التي تهاوت قبلها بقليل، إذ دخلت القوات المحتلة مقرات الدولة. وأسقط التمثال بطريقة ترمز لسقوط الحاكم، الذي ترك موقعه القيادي، وترك معه باقي القادة مواقعهم، وسبقهم في عملية الترك عموم المقاتلين، فترنحت القوات المسلحة وأجهز عليها بريمر بضربة قاضية تمثلت بأمر حلها، واعادة تشكيلها من جديد.
للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة:
http://algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/thaqafawaadab/30017-2017-05-16-19-54-50.html
1384 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع