رواية - حفل رئاسي /قال الرئيس
محيي عبد الحسين المشهدي، تآمر على الحزب، ليس من بيننا من يتآمر على الحزب، قالها الرئيس، وأعطى الاشارة للسيد المشهدي أن يتجه الى المنصة، يوضح أبعاد المؤامرة، وطبيعة النوايا وأسماء المشاركين.
اتجه الى المنصة مثقلاً بأحمال الهموم، ومشاعر الخوف المكبوت، ووعود لا يثق بصدقها. هيئته العامة، وجهه الذي شاخ سنوات بيومين تعلوه مسحة ارتباك، ملامحه توحي بتعرضه الى ارهاق شديد. كان شاحباً بعينين ذابلتين تعانيان أرق الخيانة، تؤشران نوبة اكتئاب شديدة، قد ألمت بصاحبهما.
تمايل محيي في مشيته قليلاً، لم يكن هو ذاك الذي عرفه العراقيون "محيي". إنه ليس هذا الشخص السائر نحو المنصة ذابلاً، بوجه مليء بتجاعيد الكهولة الشابة، كأن الزمن عبث بهيئته، فتح أخاديد في وجهه العابس، لم تكن موجودة بالأمس، أضاف الى عمره الزمني، عمراً نفسياً بسنوات عديدة، قفزت به فجأة الى الشيخوخة، وهو في عمر الشباب.
مشى شارداً، غير مبالٍ لتلك النظرات التي تحاول التهامه نيئاً من رفاق الأمس، اقتربت منه النظرات، وجدت وجهه الكهل قد اقترب من الصفرة المائلة للسواد، البدلة التي يرتديها، كأن قياسها قد تغير، بات أكبر من ذي قبل، وباتت ربطة العنق الزرقاء متراخية حول العنق، يتراءى لناظريها، كأنها سوداء تعكس حزن صاحبها الأسود، وقلق الحضور.
إن ما أراه ليس محيي الذي أعرفه، منذ عملنا سوية في التنظيم الحزبي الطلابي، قال عزام همساً لصاحبه رمزي، وأكمل بنفس الطريقة، لقد تغير كل شيء فيه، حتى صعب عليّ تبيان شخصه، لولا بعض الملامح التي لم تزيلها عذابات اليومين الفائتتين.
قصد الزاوية اليمنى.
المصابيح الوهاجة أثارت في داخلة قلق من النوع الهائم، ومجموعة "الميكرفونات" وكاميرات التسجيل زادت من شدة القلق.
تعثر في مشيته قبل وصوله اليها، كاد أن يسقط، وقبل ملامسة يداه الأرض استعاد توازنه وعدل خطاه.
وقف خلف المنصة مشدوهاً، لم يتكلم، لكن وجهه الهرم نطق نيابة عنه، كان جسده النحيل عبر لغته الخاصة يقول، أني خائف عليكم، سيتعرض بعضكم على أيدي اللئام مثلما تعرضت، هتكاً للإنسانية، قلقٌ على مصير حزبكم، الذي وضعه الجلادون بين فكي وحش مفترس، وقلقٌ على ضميرٌ، شرع يعذبني قبل النطق بالأسماء، زوراً كما أرادوا. إني مُكره على ما سأقول، لقد عذبوني، هددوني، وعدوني بإعفاء من حكم الموت، إذا ما قلت ما يريدون قوله، على هذا المسرح، وفي هذا الحفل الكبير.
نظر الى الرئيس، كمن يريد الارتداد عن الاتفاق المبرم، لكنه لم يرتد، ففي داخله غصة من فعل التهديد.
بدأ حديثه مشوشاً، وَجهَ الاتهام أولاً الى السيد محمد عايش، عده الرأس الذي خطط للمؤامرة وقادها، قائلاً:
"وأيضا طرح محمد عايش بصيغة.. تقريبا بس أقل شوية...أيضا ما معناه خلي يراجع موقفه.. ويعيد النظر كان هذا هو الهدف منه لخاطر يأجل موضوع الرفيق أبو عدي... ومحد حچه طبيعي.. حچه أيضا عدنان حسين.. المجرم عدنان حسين وكان حديثه طبيعي.. مغلف يعني تغليف.. ما اعرف شنو يعني ما اع.. نعم".
كلام لم يفهم الحاضرون من نهاياته شيء، ولا من بدايته أي شيء، خرج من بين شفاهه المتيبسة من دون انتظام، كأن الدنيا غامت في عينيه، وأشتعل الغضب المباغت في صدره.
عدّلَ من وقفته قبالة الرئيس، بلل ريقه أملاً في ترطيب تلك الشفاه، ومع هذا لم يستطع الهروب من خواء في داخله، ولم يفلح في اخفاء وجه، بات ينث إرهاقاً وخوفاً بشكل واضح، وعينان محمرتان.
قسّم نظراته بين رفاقه والرئيس، كمن يستفسر عن صحة تمثيل الدور، فيأتيه الرد من الرئيس بصيغة أمر في أن يُكمل. فيكمل بالطريقة المشوشة ذاتها:
" بتوجيه خارجي بالضبط.. يعني مثل.. انو هذا رأي الأسد ...... فلذلك صار بالاجتماع من طرح".
يصمت لحظات.
نظرَ حائراً الى سقف القاعة، التي جلس الرفاق المحتفلون على كراسيها، في حالة ذهول غير مسبوقة، ثم عاود الحملقة في السقف، وكذلك في الوجوه. أراد قراءة شيء ما علّه يكون قادراً على التخفيف، ولو قليل من الألم الذي مزق داخله... ألمٌ ظن سيقتله، قبل التمتع بالعفو الذي وعد به الرئيس، مقايضة بحسن الاعتراف، وقراءة الأسماء المطلوب اشراكهم في سيناريو المؤامرة. وبدلاً من قراءة ذاك الشيء عاود الكلام متلكئاً بوقع أكبر:
"من... طرحت.. أني انو.. على. أبو.. الرفيق أبو هيثم.. انو يعيد النظر يعني بموقفه"
يصمت للمرة الثالثة في مشهد يبدو أنه لم يتمرن عليه، ثم أعقب ذلك سيل من الشهيق والزفير، يتدافع مثل زحام في موقف باص نهاية الدوام الرسمي.
نظر الى المنصة التي وقف أمامها، كأنه يقرأ من ورقة وضعت عليها قبل اعتلائه لها ثم أكمل:
" صار يعني وجود الرفيق أبو عدي على.. ال.. على رأس المسؤولية الأولى من شأنه، يعني يفشل كامل المخطط، وإذا أستمر الرفيق أبو هيثم بالوضع اللي المعروف وهو ما راغب يعني.. وتعبان يسهل عملية يعني.. يسهل عملية الاتصالات والتواصل ... يعني عملية مفيدة"
يتلعثم في الكلام، أراد مدداً بالاتجاه الذي يفترض أن يتكلم فيه. فجاءه المدد بكلمة واحدة "أكمل".
" في الحقيقة إن المجرم محمد عايش كان جالساً إلى جانبي وكتبت له ورقة كتبت ورقة في الدفتر واعتقد إن اقرب واحد منا شاهد ما حدث هو الرفيق حسن علي العامري"
رد الرئيس قائلاً على الفور:
"أنا أيضا كنت منتبه عليكم ... عيني عليكم".
نعم كنت منتبه، وعاود الاسترسال في الكلام قائلاً:
" فقلت له في الورقة... يبدو إنني أنا المقصود بشكل خاص والظاهر نحن"
يكمل الرئيس العبارة الناقصة في الحديث أو يستعجلها لأمر ما:
"تم كشفنا".
نعم. وأكمل حديثه:
"گتله إذن إني هسه والورقة بخط أيدي .. إني هسه راح أقدم استقالة.. أقدم استقالة من الـــ من ... من المجلس وهاي الشغلة منكم تره تورطت فقال متقدم استقالة ولا تتورط.. لا تستعجل.. على كيفك هسه.. يعني لتستعجل. "
يقاطعه الرئيس بالقول:
كنا نقرأ في قلوبنا صفحات التآمر قبل ان نمتلك المعلومات عن طبيعته.
دعك من القول، لقد فهمنا نوايا التآمر الخسيسة.
عليك تزويد الرفاق بأسماء المشاركين في هذه المؤامرة القذرة.
......................................
نظر مفزوعاً في ورقة بيضاء سُطرت عليها مجموعة أسماء بقلم حبر أحمر. أنتقل في نظره الى جمهور المجتمعين، كمن يستنجد بهم كي لا يقرأ. لم يجد فيهم من يستطيع تقديم النجدة في موقف هم أحوج فيه الى النجدة.
حاول القراءة، وقبل أن يبدأ، فكر في إطلاق صرخة يقول فيها أني مجبر على التكلم دون ارادتي. لكن الخوف الذي أشتد في داخله حال من دون ذلك. وبدلا من الصراخ سار مع النهج محاولاً القراءة، بسرعة مثل شاة تستعجل موتها على يد ذئب أشهب. كأنه يريد الانتهاء منها، مهمة عدّها سبيلاً وحيداً، لتجنيب الزوجة تنفيذ ذاك التهديد بالاعتداء على شرفها... مهمة وخز لضمير مهان، لا مفر من أدائها كما هو مطلوب.
كاد يغمى عليه هروباً من هذا الموقف الذي يقدم فيه الرفاق، قرابين احتفال أراده الرئيس، فاتحة عهد جديد، لكن عقله الباطن أصر على أن يبقى على خيط من الوعي يربطه بالرئيس، الذي وعده شخصياً بالعفو.
بدأ القراءة بهيأة معلم التحق تواً بالتدريس، في محاولة منه تلقين صف من طلاب المدرسة الابتدائية، مادة مقررة في درس الحساب.
توقف عند السطر الثالث، نطق اسماً كُتب خطأ عبيد الرحمن، حيّره اللفظ، أنتظر قليلاً، أدار وجهه صوب الرئيس، يستجدي التصحيح بطريقة أضحكت الرئيس، ضحكة نصر فيها قدر من التشفي، وفيها دفع باتجاه طلب الاستمرار، بعد تصحيح اللفظ الى عبد الرحمن. ومن بعد هذا التفت الى المقدم رباح، تذكر تفاصيل الوعد، وطريقة التهديد بالاعتداء على الزوجة التي يحب، في حال عدم الامتثال الى ما يراد قوله، ثم استمر بالقراءة. تلى أسماء المشاركين، خاف نطقها بطريق الخطأ، أو خاف عبور إحداها نتيجة عدم التركيز. استعجل أحياناً، وأبطأ أحيانا أخرى، كأنه يعرف تماماً، ما وراء القراءة من خطوات، تحدد مصير بات محتوماً لا محال.
كل من يرد اسمه في الاعتراف، يردد الشعار، ويترك القاعة فوراً، قالها الرئيس، أمين سر القطر، القائد العام للقوات المسلحة، الراعي الأوحد للاحتفال.
أنا بريء.
اقسم بالله العظيم بريء.
لم ألتقِ محمد عايش من قبل، قالها محمد سمير عضو فرع البصرة، حال ورود اسمه على لسان السيد محيي. فطلب الرئيس من أفراد حمايته المنتشرين بين صفوف المجتمعين، وبعد افتعاله حالة غضب شديد بالقول:
حماية، اخرجوه من القاعة، لعنة الله على هذه الشوارب.
تحت حراب الذل، ووقع الأخامص القوية لبنادق الكلاشنكوف الروسية الصنع، تلاقفه الغلمان، وأبناء العشيرة القادمين في الأمس، متعطشين لتنفيذ أوامر التصفية الخاصة بالحساب، كأنهم يحملون تراكم قرون من دوافع تصفية الحساب. وبعد ان يأس من ايصال حقيقة عدم معرفته بالمؤامرة، هتف بحياة الرئيس، آخر وسيلة انقاذ، فزاد النزف من نتوءات شرايين، وأوردة كانت بارزة أعلى يديه.
اقترب حاله من الاغماء، وقبل اكتمال الاغماء، وتسليم الروح الى عزرائيل الذي أخذ له مكاناً في آخر القاعة الخاصة بالاحتفال، قال بصوت غير واضح "والله بريء"
يتذكر الرئيس أمراً، فيقاطع القراءة الخاصة بالأسماء قولاً:
"من أكثر الرفاق اللي مكتشف هاي الزمرة هو الرفيق طاهر" ويكمل كلاماً عن الرفيق الذي اكتشف المؤامرة حسب ادعائه:
"كان حتى مرات يثقل عليهم زايد.. إحنا نلومه.. يخابرهم بالتلفون يگللهم ترى تكتلكم مكشوف وتآمركم مكشوف ونطلب منه بأنو يتريث في التقييم"
يتحدث عن رسالة من أحد الرفاق حسب وصفه، تتعلق بالمؤامرة الخطيرة فقال:
"ربما الرسالة قبل ثمن تشهر إحنا كنا ما چنا مكتشفيهم"
نهض الرفيق طاهر عضو القيادة، نفى بطريقة مهذبة أن تكون الرسالة حاملة، معلومات خطيرة فقال: "الرسالة... رفيق أبو عدي تتعلق بغبن أصاب الرفيق ليس إلا، ليس فيها معلومات خطيرة ولا شيء أخر تتعلق، ليش إنْقلْ من ايران إلى بغداد ........ ومن ... وهاي هي".
يرمقه الرئيس بنظرة غضب. لم يكن الرد بهذا الوضوح متوقعاً من الرفيق الذي عده قريباً من محيط دائرته، بعدما سار السيناريو الخاص بالمؤامرة، كما هو مرسوم.
هذا كلام رهيب، يعني عدم وجود علاقة لما قيل باكتشاف المؤامرة. جملة وشوش بها عزام صديقه رمزي، بصوت خافت لا يكاد يسمعه.
نعم، ماذا قلت؟ لا، سأقول لك ما في قلبي لاحقاً.
تضج القاعة بالتصفيق، فقطعت على عزام وصال الحديث، وجعلت الرئيس يدرك أن الحضور لم يتنبهوا لما قاله طاهر، فعادت ملامحه سريعاً الى سابق عهدها، مغمورة بنشوة الانتصار على أعداء، اعتقد تآمرهم عليه أو وثق أنهم سيتآمرون عليه.
هذا آخر المشتركين، سيدي الرئيس، قالها السيد محيي، وعينيه باتجاه الرفاق ساعية للاعتذار، وكأنه يريد القول لقد حدث هذا كله في لحظات ذهول وإكراه، حدث من جانبي وسيحدث من غيري، كوابيس لا يلبث الواحد أن يستفيق متخلصاً منها، ساخراً من طبيعتها إلا ويقع في مطباتها. ألم يكن هذا المآل قائما في عراق الماضي وعراق اليوم؟. نعم سيبقى وستبقى أبواب التلفيق في ربوعه مفتوحة، ما بقيَّ الرئيس على قيد الحياة.... هكذا تداعت في عقله الكلمات وهو ماض الى حتف مجهول.
4093 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع