تلك هي - رواية للدكتور سعد العبيدي / الجزء الثالث و العشرون
ارتجال قصيدة
تنتفض النجف عن بكرة أبيها، يسيطر الثوار على قاعدتين للجيش الشعبي، يعتقلون جميع منتسبيها في مدرسة الحكيم، يُضيِفون اليهم آخرين، يصبح العدد أربعمائة بعثي حشروا في صفوفها المتفرقة، تفتح محكمة ميدان شرعية بنفس المدرسة، تحاكم خمسون بعثياً في اليوم الواحد، أحكامها بالاعدام تنفذ في ساحة الاصطفاف المدرسي في الحال، والافراج كذلك ينفذ في الحال، لا أحكام بالسجن، لا استئناف للحكم الصادر، لا تصديق على صدور الحكم. تقتضي الثورة تنفيذاً فورياً للحكم، وجثث المحكومين تنقل بسيارة البلدية المخصصة لجمع النفايات الى مزبلة تقع في بحر النجف. تتنقل الوحدات العسكرية بحرية معقولة في أطراف المدينة لا أحد يقترب منها، ولا أحد منها يحاول أفتعال أشتباك قريب، تطلق أحدى كتائب مدفعيتها قذيفة باتجاه وسط المدينة دون هدف مقصود سوى الانتقام، تسقط في مدرسة الحكيم المتخذة معتقلا. تعم الفوضى، يعقبها هدوء غريب.
يستغرب العشرون المتبقون، كآخر وجبة معتقلين لم يتسن سوقها الى المحكمة، ذلك الهدوء وفي مخيلة كل واحد منهم أمل ضعيف بالنجاة.
يتبرع المفوض مجيد في الخروج وجس النبض قائلاً بصوت مشوب بالخوف:
- سأستطلع الموقف، وسأزودكم بالتفاصيل على الفور.
يتحرك. يتكلم. يكلم نفسه، بصوت عال يداري خوفه الشديد، يستطلع المكان، يعود مسرعاً ليخبر الرفاق:
- لا أحد في المكان، لقد ترك الجماعة المدرسة من وقع القنبلة التي أنفجرت قبل قليل، قد يكون الجيش قام بهجوم على المدينة.
- لملموا أنفسكم. أخرجوا على الفور، كل واحد يخلص نفسه، قبل أن يعودون الينا.
يتركون المكان. يدخل بعضهم الصفوف الاخرى بحثاً عن رفاق لهم محجوزين، يجدون كومة جثث لآخر وجبة حوكمت، لم يسعف الحظ نقلها الى المزبلة، اطلاقة المدفع حالت دون ذلك.
يقف المفوض مجيد، ورائحة الموت تزكم أنفه، يرى رأس أحدهم يتحرك، يئن طالباً الرحمة، يتدخل ومعه أثنان آخران، يرفعانه من بين جثث بعض جراح اصحابها تنزف دما لم يتخثر بعد.
- أنه معاون آمر القاطع.
يلفون جروحه الغائرة في خاصرة البطن، بقطعة قماش انتزعت من بدلة زميل له فارق الحياة. يخرجون من المدرسة، يتملكهم الذعر كل في اتجاه، لا يعرف احدهم الخطوة القادمة. انها فرصة ضئيلة للنجاة، ومع هذا تستحق المجازفة لانهم أصلاً من الاموات.
الموقف في مناطق أخرى من النجف مختلف تماماً، السيطرة فيه لصالح المنتفضين.
تعقد المحكمة الشرعية الثورية جلستها في الصحن الحيدري، يتحتم على القادم اليها مغفوراً من البعثيين أن يمر عبر صفين من الرجال المسلحين بالعصي والقامات. يصل المحظوظ منهم مجلسها مغطى برشقات بصاق تعينه على تقبل حكم الاعدام، وغيره من المعروفين على وجه التحديد، يتلقى ضربات من العصي وطعن بالسكاكين، لا تساعده في الوصول حياً ليسمع حكم الاعدام.
وهناك في القريب تلقي الجماهير الغاضبة القبض على شاعر القادسية الشعبي فلاح عسكر، تنهال عليه الضربات من كل مكان، يرتجل قصيدة في مدح الانتفاضة كآخر أمل للنجاة من قبضة الانفعال مطلعها:
هذه ثورة الاحرار... احرسها يبو السجاد. لا تشفع له كلماتها التي خرجت مع أنفاس متقطعة.
لا يستطيع اكمالها بعد أن تقدم نحوه شاب بلباس أسود يمسك سكين، كأنه قصاب متمرس، خاطبه بلغة الثوار:
- أخرج لسانك القذر هذا.
يجيبه بتوسل:
- أنا دخيلكم اليوم.
فيرد عليه:
- نسيت شعرِك في مدح الطاغية وتمجيده، ألم تكن شاعر القادسية؟. يوخزه بالسكين في صدره، ثم يمد يده اليسرى في فمه، يساعده أثنان آخران كانا يشتمان بحرقة. يوَسعُ فتحة الفم بسكينه الحاد لتصل الى أرنبة الاذنين، حسبها كافية لمسك اللسان جيدا ويكمل حديثه:
- هذا لسانك العفن، سأقطعه الآن لتكون عبرة لغيرك.
يقطعه مثل لحمة ظهر يشفيها قصاب متمرس لعميل خاص، يضعه في فمه النازف، يطلب مضغ قذارته.
يدخل الحلبة شاب آخر، يسكب في جوف الشاعر المعروف بانتهازية مدح الرئيس ما تبقى من وقود في سيارته. يشعله بعود ثقاب، يتعالى الهتاف بنهاية أيام القادسية السوداء.
الجرحى بالمئات، بل بالآلاف، يختلطون في ردهات المستشفيات التي أبقيت أبوابها مفتوحة، يصعب التفريق بين الراقدين على أسرتها، المحسوبين على الجيش الشعبي والشرطة والحزبيين وبين الثوار المنتفضين. جميع الاصابات جروح ناتجة عن طلق ناري، توجع اصحابها لنقص في المورفين، حتى لم يعد أحد يتذكر ان الراقد بجنبه عدو مسؤول عن الاصابة التي جلبته الى هذه المستشفى أم صديق ساهم باخلائه اليها.
كان ملازم الشرطة زيد المنسوب الى شرطة الدوريات، يتلوى من جرح فرغ الطبيب من خياطته تواً في الفخذ الايسر، تقف على رأسه الممرضة الشابة رضاب، تحاول ملاطفته على أمل التخفيف من ألمه، يستهويه الحال سعياً منه الهروب من خوفه، وربما التقرب اليها بدوافع الغريزة الشبابية.
يبادلها الحديث بود أكثر بعد ان وجدها من مدينته قائلاً:
- أنتِ من الحلة أيضا؟.
- نعم من محلة الجامعين، شقيقي حسام، رحمه الله، كان ضابط شرطة، قُتل في عملية تعقب لعصابة تهريب آثار في السنة الاولى من تخرجه.
يجيبها بثقة:
- حسام على جواد؟.
- نعم انه هو.
- كان رحمه الله من دورتي في كلية الشرطة، وكان شجاعاً بكل معنى الكلمة.
تقترب منه تهمس باذنه:
- لا تذكر وضعك الوظيفي ولا رتبتك، لان الظروف غير طبيعية، ولا أحد يمكنه الاطمئنان للآخر.
هَمسَتُها كانت وهجاً حاراً أشعل في داخله رغبة في الاستمرار معها في الكلام. تركته ساعة، أتت من بعدها بصحن من الرز، وصمونة من اليوم الفائت.
ابتسمت، قائلة:
- أكيد لم تتناول أي طعام منذ دخولك المستشفى صباحاً.
- صحيح.
عاشت يداكِ على هذه الالتفاتة، خبريني رجاءً من أين لك هذا الطعام والمستشفى لا تقدم مثله للمرضى الراقدين.
تجيب:
- هذه حصتي جلبتها من المطبخ الخاص بالكوادر الطبية.
- كُل بسرعة، وحاول أن لا تثير انتباه القريبين منك.
مد يده في الصحن، وبدأ الاكل بسرعة أعتادها في كلية الشرطة، فوجدها من الوجبات التي لا ينسى لها طعم.
دنت منه، فحصته، طمأنته على الجرح الذي لم تمس فيه الرصاصة عظم الساق، وتركته للتمتع بالراحة على أمل العودة لاحقا.
صخبٌ يقترب من المستشفى، تتلقف رضاب طبيعته بغريزة الانثى الذكية، تتجه مسرعة الى الردهة التي يرقد فيها زيد، تجمع ملابسه العسكرية المركونة على سريره، ترميها وسط كومة ملابس تغطيها بقع دم متناثرة، تجري سريعاً الى صالة العمليات، تخطف جلابية نظيفة، خلعها صاحبها قبل دخوله الصالة، تلبسه اياها بارتباك بادٍ على وجهها الاسمر المستدير، تحثه على الاتكاء على كتفها القوي، لا تجيبه على استغرابه، تكرر طلب الاتكاء وتَحمُل الالم، تسير به خارج الممر المؤدي الى الردهة الرابعة.
يعترضها قريبا من الباب الداخلية، أحد الثوار بيده قائمة من الاسماء، يسألها:
- ماهو اسم المريض؟.
تجيبه بلهجة الواثق من نفسه:
- انه محمد بن السيد جواد، اصيب بطلق ناري في ساقه، عن طريق الخطأ، اصابته بسيطة، أصر على ترك المستشفى ليُفرغ المكان الى جرحى اكثر حاجة للعلاج، سأوصله الى سيارة السيد التي تنتظره في الباب، وسأعود على الفور، المجاهدون المصابون بحاجة الى المزيد من جهود التمريض.
يخاطبها وجها لوجه:
- وردتنا معلوات عن وجود خونة من الجيش الشعبي والاجهزة الامنية والبعثيين، يتعالجون في هذه المستشفى.
ردت وقلبها يرتجف:
- أقترح الذهاب الى الادارة، لديهم سجل بالاسماء، لتسهل عليك الامور، لاننا ممرضات نساعد في العلاج فقط.
- أذهبي وعودي بلا تأخير.
وصلت البيت الذي تقيم فيه مع صاحبتها الممرضة البغدادية بسرعه، ساعدها زيد الذي أستجمع قواه في مواكبة السير السريع بعد سماع الحديث. تفتح بابه مع التفاتة خفيفة الى الوراء، يصفر وجهها الشاحب، وكانها قد عملت عملاً لا يمكن النجاة من عقابه:
- ابق هنا، أسلم لك من المستشفى، سأتدبر سيارة تقلك الى الحلة، قبل عودة زميلتي من نوبتها في المستشفى التي تستمر الى المساء، واذا ما حضرت لاي سبب كان، قل لها أنك ابن عمي وقد أصبت اصابة بسيطة، وتنتظر الوالد لاصطحابك الى الحلة.
دخل آلاف الشباب شوارع المدينة من جهة المقبرة "وادي السلام"، يطلقون النار على أي هدف يرتدي الزيتوني، مواجهات عنيفة بين حزبيين يحسون طوق الموت يلف رقابهم، وبين شباب منتفضين يحكمون الطوق.
جثث في الشوارع، لا يجرؤ أحد على دفنها وان قضت قريباً من المقبرة، يحكم الخوف سلوك الانقاذ، والدفن، والتجوال، والاتصال. لا أحد يجرؤ على رفع جثة أحد أو مصاب فاقد الوعي، خشية ان يكون بعثياً.
جموع تركب سيارات متنوعة، ترفع أعلام متنوعة، تتجه الى الكوفة، تجد مظاهرة قد خرجت قريباً من مسجدها الكبير، تنبؤها بانتهاء حكم الظالم الى الابد.
تتعالى الهتافات والزغاريد، وتُطلق العيارات النارية في الهواء، يفر منتسبو الجيش الشعبي الى بساتين الكوفة المحاذية للمدينة.
تنتهي السلطة في الكوفة تماماً، وتتم السيطرة بوقت قياسي لم يزد عن النصف ساعة. يُجلب القائمقام وأمين سر الشعبة الى المحكمة الشرعية المستمرة في انعقادها داخل الصحن الحيدري طوال الليل والنهار، لم يستطيعا الهرب مثل باقي الرفاق بسبب هول المفاجأة، واحكام الطوق على مكانهما من قبل الثوار.
يظهر صوت من وسط الضجيج الساري في شارع الكوفة الرئيسي، ينادي:
- عليكم التفتيش عن السجون السرية في المنطقة، هناك واحد تحت مرقد الصحابي كميل بن زياد.
يتغير اتجاه الجمهور، يركضون جميعاً صوب المرقد، يفتشون الجدران والارضيات، لم يجدوا، شيئاً.
يُصر الداعى على وجوده تحت المرقد قائلاً:
- لقد سمعت عنه من عامل لحام، صنع له الابواب، قبل سنة من الآن.
طالبه البعض من الجمهور بتسمية العامل.
يظهر أحدهم كان سائراً في المظاهرة مؤكداً بالقول:
- أنا هو، أتبعوني.
يسبقهم الى مدخل جانبي في بيت يقع بعيداً عن المرقد بمائة متر، يدخلون منه يوصلهم الى المطلوب، تكسر ابواب الزنزانات بسرعة فائقة، يخرج شيخ كبير، غطت لحيته البيضاء صدره العاري.
ينطق أولا بسؤال:
- ماذا حل بالبكر؟. هل تم القضاء عليه؟.
كأنه حجز في هذا السجن بداية حكم البكر عام 1968.
يتجول المنادي بين الزنزانات. يركض بذهول. يُخرج كل الموجودين، يبشرهم بالحرية، يصل الاخيرة، يصاب بالخيبة، والده ليس من بين المساجين. يترك المكان بعد آخر سجين يجر قدميه جراً، كانه مشى بشكل متواصل ليومين مستمرين. يحل المغيب. تقام الصلاة، يعلن فيها السيطرة التامة على عموم المحافظة.
يتقدم رجل ملتحي من حاكية المؤذن، يطلب من النجفيين بصيغة الأمر عدم ايواء البعثيين، لابد من تقديمهم الى المحاكمة، فالمحكمة الشرعية باقية في حالة انعقاد، التخلص من آفة البعث واجب شرعي.
يتنبه كريم للوضع، يخاطب الحاج حمزة:
- حجي، لقد مضى على وجودنا في النجف يومان، ولم نحظ بمقصدنا، النجف قد أنتفضت والتحقت بباقي مدن الجنوب والحمد لله، فلا نعتقد أن الظرف يسمح لنا بالبقاء أكثر.
يجيبه بهدوء:
- هذا عين العقل، اتركوا الوصية لي، سأبلغها عندما تسنح الفرصة، وسأرسل من يبلغ الجواب الى السيد في البصرة عند حصولي عليه، لا تهتموا بهذه الامور البسيطة.
يتقدم منه كريم قائلاً:
- شكرا لك، ضيافتك طوقت أعناقنا بالامتنان.
- أبداً، كان لكم فضل في المجيء وتحمل المخاطر، فأنتم مثابون ان شاء الله. ابلغوا سلامي الى السيد، وخبروه أن يتصرف بما تمليه عليه الظروف، هو مخول بما يتخذه من قرارات، والبركة فيكم تقفون الى جانبه.
للراغبين الأطلاع على الجزء السابق:
https://algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/thaqafawaadab/48263-2021-03-17-08-56-44.html
3619 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع