تلك هي - رواية للدكتور سعد العبيدي / الجزء الخامس و العشرون
رنين الهاتف المحوري
لم يتوقف رنين الهاتف المحوري طوال الليل وبقية النهار في مكتب عضو القيادة القطرية علي حسن المجيد، المسؤول الاعلى للمنطقة الشمالية، القابع في مقره الحصين قريباً من قيادة الفيلق الاول، وسط المعسكر الدائم في كركوك. يشعر بسببه وتطورات الموقف بالاعياء، وقلة الحيلة في الرد على استفسارات الرئيس عن الموقف في السليمانية واربيل ودهوك، ومن بعد في كركوك. يحاول التملص من الاجابة بطريقة التمني التي يتقنها في التعامل مع الرئيس:
- سيتحسن الموقف سيدي الرئيس.
- يبذل الرفاق جهدهم وكذلك الضباط القادة.
- أستشهد أثنان من أعضاء الفروع، وأربعة من أعضاء الشعب، وعدد غير قليل من الرفاق، فداء للسيد الرئيس.
- انها مؤامرة دولية تستهدفك قائداً للامة العربية سيدي الرئيس.
أجاب الرئيس على تمنياته:
- نعم وبعد.
- سيدي قيادات التمرد الكردية، جزء من المؤامرة الامريكية.
ردعليه:
- انهم هكذا طوال الوقت.
عندها حصل على قليل من الجرأة وقال:
- سيدي، الجنود في الجيش النظامي لا يقاتلون. سقطت مقرات الأجهزة الامنية جميعها دون أن يستسلم أحد من منتسبيها. لقد استشهدوا وهم يهتفون باسم القائد العظيم.
- أي نعم هؤلاء النشامى، سيخلدهم التاريخ.
- أننا صامدون، سنقف لهم بالمرصاد.
- ستبقى رايتك مرفوعة باذن الله.
حاول الرئيس انهاء المكالمة بتوجيهات يصدرها مباشرة:
- اسمعني علي، منطقتك خط أحمر لا يمكن الاقتراب منها، لا أريد رفيقاً حزبياً باقٍ في مقره جالساً خلف مكتب، وزع الجميع على الوحدات العسكرية، وقواعد الجيش الشعبي، ادفع بهم ليكونوا في مواقع القتال بالمقدمة هكذا علمنا الحزب، لا أريد سماع بعثياً ترك موقعه وأنسحب، نحن جميعاً مشاريع أستشهاد لهذه الامة المجيدة. هذا يومكم.
لم يقوَّ المجيد في البقاء قريباً من جهاز الهاتف، عند تلقيه خبر سقوط أربيل أواخر الليل الفائت، خشية اللوم الخشن من الرئيس الذي طمأنه قبل ساعة ووعده بالصمود، وهو العارف جيداً أن رئيسه أو بن عمه، لا يغمض له جفن في مثل هذه الايام، وان له ألف عين تنبؤه بما يحصل كل لحظة تمر.
حاول تلبس دور الرئيس والتحول الى موقف اصدار الاوامر الفورية:
- الرفيق جمال، تولَّ مهمة الرد على الهاتف المحوري الآن، لأني سأبدأ بجولة تفقد على القطعات العسكرية، والمقرات الحزبية، الامر خطير للغاية، لا يتحمل التأخير.
يجيب الرفيق:
- واذا ما أتصل الرفيق القائد.
- انت أعرف بالرد من غيرك، فسبق وان خرجت من مواقف أتصال أصعب.
- لا أعتقد رفيقي أننا قد مررنا بالأصعب مثل الذي نمر به اليوم منذ العام 1968.
- المهم أن تعرف القيادة والسيد الرئيس أني أفتش القطعات.
هم بالخروج من مكتبه الى دار الاستراحة غاضباً، لعن الاكراد والتركمان والعرب في الجنوب، ومن لم يقاتل من العسكريين والحزبيين، دفاعاً عن مبادئ الحزب والثورة، قابل الرفيق حكمت عضو الفرع في الباب، عند رجوعه تواً من مهمة أرسله لها قبل ساعة لرفع معنويات المفارز ونقاط الحراسة في حي الشورجة ذي الغالبية الكردية. وجده مرتبكا. فسأله:
- رفيق حكمت ما الأمر.
- رفيق علي الموقف ينذر بالخطر، اذ شاهدت بنفسي تجمعات شبابية عديدة بملابس كردية، وقوفهم وحركتهم تنبئ ببوادر عصيان.
رد مؤنباً بشدة:
- لماذا لم تبدهم جميعاً، انهم خونة لا يستحقون الحياة. أطلب لي الرفيق جابر. تأكد هل عاد من جولته التفقدية لحي التسعين.
أجابه الرفيق بصوت متقطعة أوصاله:
- لقد وصل الرفيق، هذه سيارته تدخل الشارع.
الاجابة التي جاء بها الرفيق جابر مشابهة قوامها:
- الوضع رفيقي أكثر من خطير، حركة غير أعتيادية في الحي الذي تسكنه غالبية تركمانية، مجموعات تقف في رأس كل شارع، كأنهم ينتظرون فعل التمرد على الحزب والثورة.
ينهره بقوة:
- ماذا فعلت الشعبة الحزبية في الحي؟. ماذا فعلتم أنتم القادة الذين يعتمد عليهم الحزب؟.
أين الرفاق والانصار؟.
أجابه الرفيق ماسكاً أعصابه وهي تغلي في مرجله الداخلي:
- كلهم موجودون، يحملون أسلحتهم، سيقاتلون الى الرمق الاخير.
- طيب عد الى الشعبة الحزبية في هذا الحي اللعين، أبق هناك، لحث الرفاق على القتال،
عليك أن تكون في مقدمتهم أثناء القتال، البعثي دائما في المقدمة، رأسه مرفوع عالياً لشجاعته في القتال.
لحق الرفيق جمال بالرفيق عضو القيادة أثناء توقفه في الباب، أخبره عن اتصال تلقاه في التو عن سقوط المقرات الحزبية في أقضية الدبس وطوزخورماتو، وأضاف:
- لقد سيطر المنتفضون الاكراد والتركمان عليها.
عشرة ايام انقضت على انتفاضة البصرة، عضو القيادة الرفيق علي وبضوء التقارير والاتصالات التي وردته يشم رائحتها في كركوك، وكذلك باقي أعضاء قيادته، كل واحد منهم يشم بطريقته الخاصة، لايستطيع البوح بما يشمه لرفيقه الواقف الى جانبه، لانهم جميعا يمتلكون خبرة الوشاية المحتملة من الرفيق القريب عند البوح بما يشمه، رائحة لا يستطيبها الرئيس. ساعات الليل باتت ثقيلة، كأنها لن تنتهي أبداً، مسلحون يقدمون من أربيل يقتربون من كركوك، يقيمون الليلة على جبل زاكروس من جهة الشرق، بانتظار الدخول فجراً الى المدينة. يأتي الفجر يمطرون وسطها بقنابر الهاونات، يركزون رميهم على مقر القيادة والقاعدة الجوية المجاوران لوسط المدينة.
لم ينم الرئيس الليلة، وان تعود اخذ كفايته من النوم على كرسيه الوثير في مكتبه الواسع، قضاها ليلة صعبة في الرواح والمجيئ مشياً قلقاً، عجز عن تأمين الاتصال بالرفيق علي المؤتمن على أمن الشمال. انفعل بشدة، شتمه باللهجة التكريتية العابرة، (عجل وين صار هذا الكلب)، حَمّلَ الاستعمار كل الذنوب، ما حصل منها وما سيحصل. وهو كذلك ماش يرتعد دقت الساعة التراثية في الركن المقابل لجلوسه الرابعة صباحاً، بعثَ على الفريق طه عضو المكتب العسكري، سلمه رسالة كتبها بخط يده، طلب تسليمها الى الرفيق علي، الغائب عن خارطة الاتصال. أكد على طه بالقول:
- رفيق طه، خذ أحدث سيارة رئاسية، انطلق على الفور، أريد اطلاع الرفيق علي على المحتوى قبل شروق الشمس، أخبره بضرورة الصمود أو الموت.
أجاب الفريق الواقف بوضع الاستعداد:
- نعم سيدي، سأغادر الآن.
لم تشرق شمس كركوك التي تغلي بخليطها السكاني الغريب، قبل سقوط قنابر الهاون على كل ارجاء المعسكر، وقبل أقتراب مسلحين من أسيجته السلكية المقابلة الى احياء المدينة.
اقترح قائد الفيلق على الرفيق عضو القيادة، قائلاً:
- رفيق علي، أرى أن ننسحب الى مقرنا البديل، لنتمكن من الدفاع بكفاءة، نعيد تنظيم قواتنا ومن بعدها نعاود الهجوم لطرد العصاة من المدينة، المعركة في الداخل ومع سكان محليين يتمتعون بهذا الزخم المعنوي القوي، وكما تعرف، معركة من وجهة النظر المهنية خطيرة وشاقة.
أوقفه وسط الكلام، لا يريده أكمال الفكرة العسكرية التي لا يستسيغها:
- ماذا تقول فريق حاتم؟. عن أي انسحاب تتكلم؟. البقاء هنا، والقتال هنا حتى الموت. أبق في مقرك تابع قطعاتك التي باتت تتهاوى واحدة تلو الاخرى.
لقد توقفت المناقشة في الوسط، وبدلاً من اتمامها سعيا الى التوصل لافضل حلول تلائم الموقف العسكري والامني المتداعي، ركب سيارته المرسيدس مع شخصان من حمايته وعشرة توزعوا على سيارتين أخريين من نفس النوع.
التفت صوب القائد القريب منه وقال:
- حاتم، دافعوا عن موقعكم. أو تموتوا، فالحزب وقائدنا العظيم يستحقان التضحية. سأقابل الرفيق القائد، وسأشرح له الموقف بالتفصيل، سأطلب تعزيزات من الحرس الجمهوري الخاص.
أدى القائد العسكري التحية قائلاً:
- نعم سيدي.
رد الرفيق علي التحية متوتراً، أعطى إشارة التحرك من يد تؤشر حركتها السريعة كم القلق الموجود في داخله. كانت الساعة تقارب السادسة صباحاً، وصل الفريق طه الى مقر الفيلق، شهد بنفسه الارتباك، وجد عضو القيادة المسؤول الذي قصده بمهمة رسمية بأمر الرئيس، قد ترك موقعه قبل عشرة دقائق فقط. شعر بالضيق والحرج، لان المهمة التي أتى بها تتركز على تسليمه الرسالة باليد مهما كلف الامر.
تمتم بكلمات لم يسمعها أحد غيره:
- كيف سأسلمها؟. ماذا سأقول للرئيس الذي لا يمكن الاطمئنان لردود فعله اثناء الغضب؟.
اقترب منه الرفيق حكمت، همس باذنه:
- لقد اتجه الى بغداد، سمعته يسأل سائقه فيما اذا كان الطريق باتجاه الحويجة آمنا، أعتقد أنه سيسلكه، لان الطريق عبر طوزخورماتو خطير بعد سقوطها بيد الغوغاء مساء أمس.
معركة كركوك
كانت البوابة الخلفية لمعسكر كركوك آمنة، اتجه الفريق طه صوبها، سأل مفرزة عسكرية، مازالت ترابط في مكانها عند تقاطع الطريق المؤدي الى الحويجة صلاح الدين:
- هل مر من هنا موكب الرفيق علي.
أؤكد الملازم نمير بالقول:
- ثلاث سيارت مرسيدس تجاوزتنا مسرعة باتجاه الحويجة قبل ربع ساعة، أعتقد انها موكب الرفيق عضو القيادة.
فكر الفريق بالخيارات المتاحة فوجد الخيار الوحيد، اللحاق بالرفيق المسؤول السياسي والعسكري الاعلى في المنطقة، الساعي الى الابتعاد عن معركة كركوك ذات الاهمية الاعلى للمنطقة، وتسليمه الرسالة التي صار وجودها معه هماً يوازي هم البلد الذي توهنه الجراح، خاصة وانه فهم من الرئيس أنها تحمل تعليمات عن حتمية الصمود حتى وصول النجدات التي تحركت بطائرات سمتية مع الضياء الاول، وهي الآن في الطريق.
كلم السائق الرئاسي الذي تعود الاستماع الى الاوامر ودقة تنفيذها:
- رحيم، إسرع، لم يعد لدينا وقت كاف، لابد من اللحاق بموكب الرفيق علي قبل مغادرته المنطقة.
أجابه بثقة عالية:
- عد عيناك سيدي.
أشر عداد السرعة في السيارة مائة وخمسون كيلومتراً في الساعة، وما زالت المسافة بينهما بعيدة، طلب زيادة السرعة أكثر. لمحَ السيارات المقصودة من بعيد، حث رحيم بطريقة التشييم العراقية على مضاعفة السرعة، فالجسر المؤدي الى صلاح الدين، قريب، يريد أن يصلانه سوية، فوصلاه فعلاً وحال الوصول أشرَ بيده اشارة التوقف لامر هام، لم يعيره الرفيق الغاط بالتفكير اهتماماً.
طلب من رحيم اجتيازه الى نقطة السيطرة القادمة، والتوقف عندها، وعند التوقف قال:
- دعني أترجل وأَلوّح له بيديّ عساه يراني، إنه يعرفني حق المعرفة.
توقفت السيارة السوداء الرئاسية وسط الطريق، وما زال محركها يدور، استعداداً للوثوب، فيما اذا فشلت المحاولة، ترجل منها الفريق مسرعاً، أخذ مكانه وسط الطريق منتصباً، رفع يده التي تمسك بالرسالة معطياً أشارة التوقف.
أبطأ موكب الرفيق علي، فتح شباك سيارته من مكانه في الخلف، سأل بعصبية:
- طه ماذا حدث؟. أجابه بسرعة:
- عندي رسالة مهمة لك من السيد الرئيس القائد حفظه الله.
- طيب هيا أنتقل الى سيارتي.
فتح الرسالة بيدين ترتجفان، نوه بكلمات باهتة:
- لقد فات الاوان.
لا جدوى من إرسال قوات محمولة جواً، فالعصاة الاكراد دخلوا المدينة، وربما المعسكر، لقد أنتهى كل شيء بناه الحزب بربع قرن من الزمان.
تدخل الفريق بالقول:
- سيدي، الذهاب الى بغداد مجازفة في هذا الوقت، خاصة وان السيد الرئيس يعتقد ويتأمل صمود القيادة في كركوك.
قولٌ لا يستسيغه الرفيق علي فرد باكتئاب:
- البقاء في كركوك بالنسبة لي غير صحيح، لان الموت أو الاسر...
توقف عن الاسترسال في الكلام ليعاوده مصححاً:
- الموت طبعاً لاني لا أقبل الوقوع بالاسر، فهو إحراج للقيادة في هذا الوقت العصيب، خاصة وان كركوك ستسقط حتما مثل اربيل والسليمانية والبصرة والكوت، هذا ما يريده الاستعمار.
- رفيق طه، إن الذهاب الى بغداد ونقل الحقيقة المرة الى السيد الرئيس حفظه الله ورعاه، ومن ثم البقاء الى جانبه ومؤازرته هو الأسلم والأهم، وما عداه لا شيء يستحق التمسك به حتى كركوك.
أشرقت الشمس في كركوك قبل السابعة بنصف ساعة، دخل المسلحون معسكرها الذي وصف بالقلعة الحصينة، انسحب القادة العسكريون والحزبيون من بابه الخلفي، تاركين كل شيء حتى اسلحتهم الشخصية، في الوقت الذي انتظر فيه الجنود وهم في مواقعهم مذهولين، فسلموا أسلحتهم، وأخلوا المكان، كل بالاتجاه الذي يعتقده أميناً.
أصبحت كركوك، مدينة الذهب الأسود بعد الشروق بدقائق خارج سيطرة السلطة المركزية، احتفلت الاحياء الكردية في المدينة بالانتصار، ومثلها الاحياء التركمانية، في حين عاش العرب قلقاً من النوع غير المسبوق، ظهر وسطهم الشيخ حميد في محاولة لتجميع الشتات، شكل مع بعضهم دوريات لحماية الاهالي والمساكن، فشل مسلحون في اقتحام الحي العسكري ذي الغالبية العربية، بقيَّ الحال على ماهو عليه، كانتونات تحاول الدفاع عن نفسها بقدراتها الذاتية.
للراغبين الأطلاع على الجزء السابق:
https://algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/thaqafawaadab/49218-2021-05-24-06-25-13.html
3931 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع