جراح الغابة - الجزء الرابع

           

           جراح الغابة: الجزء الرابع / د.سعد العبيدي

ما أجمل أن يوقظك خیال امرأة رشيقة القوام بوقفتها أمام السرير الراقد على الطرف البعيد من الردهة، وما أروع أن تنعشك نبرات صوتها بموسيقاه الساحرة وهي تسأل عن الحال، وعن علامات نحول بانت بجسم راغب في الاستراحة، على سرير يكسوه البياض بأرضية خضراء، بين مجموعة أسرة في مستشفى بريطاني، شهد آلاف الحالات من الموت والحياة لعشرات مرت من السنين.

جميع الراقدين يعانون مشاكل قلب مزمنة، وقد اقتربوا من الشيخوخة أو اقتحموا مرارة سنيها الأخيرة إلا هي، الحورية التي شاخ قلبها بعمر الشباب، دخلت المستشفى وسط مدينة تعج بالمستشفيات، وبزوار السياحة الطبية، الوافدين من جميع البلدان العربية، الغنية بالنفط..... بلاد بعيدة، ترقد بها متأملاً، وبلاد أبعد، ولدت بها مهموماً، وأخرى تفتش فيها بطريقة تركت أظافرها جروحاً لم يتوقف منها النزف، ورفعت كلتا يديها إلى الأعلى صائحة (الله أكبر).
منى في حالة ذهول، تقترب من فقدان الوعي، ربما فقدت الوعي، شذى مازالت تحافظ على تماسكها، وكأنها تنتظر مصيراً اقتنعت أن لا مفر منه، وان لا داعي لأن تعطي انطباعاً للمعتدين بتوسلات غير مجدية، انهم في الأصل صنف من البشر، وإنهم في موقف الغل هذا منتصرون.
توقف متأزماً حائراً لحظات، استجمع خلاله ما تبقى من قواه التي ضاع نصفها في المشي المتواصل ساعات حتى وصوله هذا المكان في الغابة، واستنزف نصفها الآخر في التفكير بالانتقام، وهموم الحياة التي أضحت من وجهة نظره بلا معنى ولا تفسير، عاود بنظره صوب الانسان الذي مازال مطروحاً في مكانه ساکناً، مستغرباً حكاية يصعب تصديق وقعها الذي يقترب من الخيال، في هذا الوقت من النهار، وبهذا المكان النائي الموحش من الغابة الخضراء
عن عيش ميسور لما تبقى من عمر غطاه صدأ السنين.
أنت بين الاقامة وحلم العودة، مشطور نصفين.
نصفك الغارق في الأبوة مشتت بين البلدان، يسافر إلى الأحبة في هولندا، وألمانيا، والسويد، وآخرين في العراق الحزين، ونصفك الهرم مثقل بهموم العيش في عالم بلا نهايات، وتطلعات الاستقرار في أرض يتناثر بأجوائها الضباب طول الشتاء وبعض من الصيف.
أية مفارقة هذه؟
تقف بالمواجهة مبتسمة، اعتذرت عن قيامها عرضاً، بقطع سلسلة الأفكار، التي لا تنقطع في جو يخلو من صخب الشارع، وأصوات التفجيرات، وأنين الأمهات الثكلى أول النهار.
أربعينية في عمر الشباب، قمة الشباب، أنيقة كعارضة أزياء برداء صممَ بسيطاً، لربيع بغداد في عهد أبي نؤاس، روحها مرحة، ربما كان لحسنها الواضح الفضل في بث هذه الروح، قوية بطبيعتها، لم يخذلها الاحساس بالقوة مرة في حياتها، وجهها معجون بقليل من حمرة الغرب، التي توحي وكأنك تخيلتها في أيام المراهقة فتاة أحلام وحيدة، أو تأملت وجودها في بغداد قبل الخراب، سائحة تعبر شارع الرشيد إلى سوق الصفافير، تلاحقها نظرات شباب، تخيلوها مثلك فتاة أحلام.
بغداد حلمك، أيها الشهرياري النائم وسط مرضى هم من غير أهلها:
لماذا هجرتها أصلا، وتركت الوظيفة، ومستقبلك وكل شيء وراءك، وحملت تاريخك وحاضرك، أحلامك وأمانيك، وركضت وراء سراب؟
ستبقى تدور في أوهامه، من دون أن تتعلم من تجارب عمرك الطويل، أن هناك أحلام في الحياة لا يمكن تحقيقها، بل من المستحيل تحقيقها في مثل هذه الأيام، لأنها سراب، كلما اقتربت منها خطوة ابتعدت عنك ألف خطوة.
لماذا تركتها إذن؟
ولماذا تضيّع وقتك باتباع الأوهام؟
ها أنت تحن إلى ماض كان هو الآخر سراب.
من أي البلدان أنت؟
والى أي البلدان تسير؟.
باد عليك الارتباك، في كل خطوة تأخذها، والمشاعر الحزينة في داخلك قد هزها النبض العاجز للقلب، وبعثرها انقسام الرغبة ما بين الانتظار في بقایا ذكرى، والرحيل بحقيبة سفر فارغة من أية ذكرى، ليكون المستقبل حقيقة، تقتلك القطوع التي تحصل في السلسلة الممتدة من حاضره إلى خزين الماضي المملوء بالذكرى، هذا هو الثمن الذي ستدفعه، سيأتي اليوم الذي تتوسل العودة إلى الماضي، ولن تجد فيه ما ينفع لرتق قطوع السلسلة، ولن تحظى بمن يتذكر.
سامر، عكسك تماماً، لا يحن إلى الماضي، ولا يتطلع إلى المستقبل، سوى من فتحة ضيقة جداً في باب الانتقام، لقد انتهى من ذهوله، وتذكر أن العراقي الذي أرسله عبد الجليل، وقد ناداه مرة واحدة بأبي عبيدة يعود من مهمة الانتظار في باب الدار، مصطحباً شاباً بعمر مقارب:
(هذا عائد من جهة المحل الخاص بالبقالة، بيده أشياء، أشك أنه سامر، لأنه كان ماشياً باتجاه البيت، لقد استوقفه المجاهدون، وحققوا معه، فكان مرتبكا. جلبته إلى هنا لتقرر أنت الحكم المطلوب).
لم يكترث لمجيئه عبد الجليل، بل وعلى العكس من ذلك زادت حماقته، بعد أن عرف أن القادم قسراً هو غير المطلوب، وإن وجوده يزيد الموقف تعقيداً، وربما خطورة، فقرر إبقاءه، وأمر أبو عبيدة أن يعود إلى مكانه، وأن لا يجلب أحداَ سوى سامر، ثم التفت بنظره الى القادم الجديد ملوحاً بالسيف في وجهه الذي يرتعد خوفاً:
ما اسمك ومن أين أنت؟.
عمر عبد الكريم، طالب في جامعة الانبار، جئت من الفلوجة مع والديَّ وأشقائي الأربعة، للإقامة عند عمي، بعد أن تهدم بيتنا قصفاً من الطائرات الأمريكية في معركة الفلوجة الثانية، أعمل بعد الظهر في محل لبيع الأقمشة في المنصور، عدت منه تواً بسيارة اجرة أنزلتني بداية الشارع، وها أنذا أتجه إلى البيت الذي يبعد شارعين من هنا، لقد حل الفطور وهم ينتظرونني الآن.
يشك الأمير، الذي يطمح بدافعيته العالية ليكون أمير الأمراء، في دولته الإسلامية الموعودة، بكل ما قيل، يطلب تأكيداً، يثبت صحة الاسم عمر، وانه من أهالي الفلوجة، ثم أشار الى السوداني الواقف إلى جانبه للقيام بتفتيشه، فوجد في جيب سرواله الخلفي هويتي أحوال مدنية، شرع بقراءة إحداها بصوت عال (حسين علي الموسوي) ثم توقف كمن أصيب بصعقة كهربائية.
تدخل الأمير الذي لم يعط الضحية فرصة لتبرير الاسم الذي يوحي أنه من الشيعة، وبدلاً من انتظار الجواب، صفعه بقوة أسقطته أرضاً، أكملها بركلات متكررة على الرأس بحذاء عسكري عتيق، جعلت عمر صاحب الحظ العاثر يتلوى ألماً، واضعاً كلتي يديه على وجهه البريء، لحمايته من تبعات الركل المستمر.
أقسم بالله العظيم وبكتابه الكريم انه عمر، وانه طالب في جامعة الأنبار، وان هويته الثانية أصلية، وللتأكد من صحة القول طلب مراجعتها، أو ارسال أحد إلى البيت للاستفسار من الوالد، والعم اللذين ينتظرانه على الفطور، لقد تأخر في عودته خوفاً من أن يخطفه حاجز، وحمل هذه الهوية المزورة خشية أن يذبحه أدعياء دین، نصبوا عدة نقاط سيطرة وهمية قريباً من نفق الشرطة، وداخل حي المنصور.
(إجابات شائعة عند الوقوع في مأزق هذه الأيام، لم تقنع السياف، ولا جماعته الموجودين، والظرف لا يسمح لهم بالتقصي).
ما شأنهم به، والوقت يمر بسرعة؟
المهم، مواصلة العمل لتأمين الغاية التي حضروا من أجلها اليوم، وما ينتج عرضاً، خسائر جانبية مقبولة، سواء ضاع فيها عمر أو علي من الشباب، لا تقف عثرة أمام إقامة الدولة الاسلامية المطلوب إقامتها .... غاية أبقت عمر على حاله يتلقى المزيد من الضربات، وقد تلطخت ملابسه بدم لم يتخثر بعد للدكتور عامر، وحذاء عبد الجليل، الذي لم يمر على جلده الصبغ الأسود من يوم شرائه، أو من ساعة الاستحواذ عليه من أحد الضحايا العسكريين، باق على الرأس مستمر في تحريكه ضغطاً بكل الاتجاهات.
لا بأس سنختبرك اختباراً بسيطاً للتأكد من أصولك، ومدی التزامك بالشريعة الاسلامية اللازم تطبيقها من الجميع .... أمامك ثلاث مرتدات اختر إحداهن، نم معها أمام المجاهدين، هنا والآن، وستكون من الطلقاء.

للراغبين الأطلاع على الجزء السابق:

https://algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/thaqafawaadab/52236-2022-01-07-11-16-56.html

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

710 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع