طرق الهروب
كان حلول الصباح بهيجاً بعد سهرة امتدت قريباً من حلوله. غاب في ربوعه طائر الحجل، وصوته الجميل في مناداة ذكوره للإناث، وقد اعتاد التقرب من أطراف البيوت الممتدة على طول مزارعها بداية الصباح، كأنها تخاف أزيز الطائرات التي تحلق الآن بكثافة فوق هذه المنطقة، قاصدة ضرب أهداف لها في بغداد.
نهض مزهر قبل غيره، تناول رغيف خبز من على التنور الذي تعلو ناره لتهيئة الفطور، وأخذ سيارته التويوتا قاصداً الديوانية، ساعياً جلب العائلة من هناك الى بيت الشيخ شعلان في هذه النقطة التي عُدّت أساساً للانطلاق في تنفيذ خطة الهروب.
سألت شيماء والدتها حال سماعها خبر التهيؤ للذهاب الى الدبوني:
- لِمَ هذه المغادرة المفاجئة، وَلَمْ يعد لنا في بيت العم جابر سوى ليلة واحدة؟. وما معنى الذهاب الى بيت العم عاشور، ونحن لا نعرفه ومن معه في البيت أصلاً؟. وكيف لنا قضاء الوقت في ريف لم نفهم عادات أهله؟. حتى لم يسبق أن التقينا بأي من بنات جيلنا في هذه المنطقة التي تكاد تكون وكأنها معزولة عن حضارة بغداد.
هذا ما أراده الوالد، انا لا أعرف أيضاً، قالت الوالدة بالتياع حزين، فردت عليها بعصبية:
- بلى تعرفين، لقد سمعتك تتكلمين بطريقة تشبه تبادل الأسرار مع الوالد عندما عاد من الدائرة مستعجلاً في إرسالنا الى الديوانية، وبقيَّ هو في بيت خالي ببغداد لأمر ما، لم أفهمه. فأجابتها بهدوء كعادتها:
- أكثر العائلات قد تركت بغداد خوفاً من القصف، ونحن مثلهم تركناها، ومن حقنا التفتيش عن مكان نأمل فيه راحتكم لفترة من الوقت، عساه أن لا يطول.
- لكني لم أقتنع.
- ليس المطلوب أن تقتنعي، المهم ابقي قريبة من أخواتك، لا أريد المزيد من الأسئلة، ستعرفين كل شيء، وسوف لن نكتمك سراً إذا ما كانت هناك أسرار كما تخمنين، أنت أبنتنا الكبيرة.
ومضت في ذاكرتي فجأة وأنا في الطريق الى ديوان الشيخ شعلان لتناول الفطور معه وأولاده الكبار، هيئة العريف عودة محمد شنيار ساكناً في قرية الكرمشية ضمن قضاء سوق الشيوخ، وخدمته سائقاً لسيارتي العسكرية عشر سنوات، قررت الذهاب الى هذه المدينة التي تحاذي الهور والصحراء في آن معاً، لاستطلاع الطريق، واستمزاج رأيه بما يستطيع تقديمه لتنفيذ الحلم الموعود. أيدني الجالسون على الفطور، وطلب الشيخ اتمام تحضير السيارة، وانتظار عودة مزهر من الديوانية.
تم تحضير السيارة، وصل مزهر قريباً من صلاة الظهر، فشرعنا الثلاثة في سفرة الاستطلاع وجس النبض، شقينا الطريق المرسوم وسط أرتال عسكرية كانت مكسورة، تنسحب مبعثرة بين نقاط للسيطرة أقامها الجيش، وقنص من بعيد للثوار المنتفضين. تلك السيطرات لم تهدأ ومن يقف فيها من جنود الانضباط العسكري كانوا متوترين يطلبون هويات العابرين بعصبية، جميع العابرين، فالشك بالإنسان المار من هنا لم يدع مجالاً للاستثناء. والشيخ شعلان جاهز لمبادرتهم بسؤال بات يتكرر بعد أن ثبت فاعليته في تبديد الشك:
- ألا يكفي هذا العقال هوية للنشامى؟. فيبادرونه بالترحيب:
- تفضلوا، أهلاً بالعمام.
حل المساء في ناحية النصر لتكون المحطة الأخيرة لهذا اليوم الشاق، فالوقت قد اقترب من العاشرة ليلاً، لا يساعد على الاستمرار في السير على طرق موحشة باتجاه سوق الشيوخ.
طرق مزهر باب السيد موسى الذي يناديه بالخال، أعاد الطرق بإلحاح، تأخر الرد فالظلام قد أمسى والثوار يجوبون المنطقة، ورجال أمن الحكومة المندسون يجوبونها أيضا. بعدها انفتحت الباب عند تكرار المحاولات دون كلل، فجاءت كلمات الترحاب متوالية لتخفف من ذنب التأخير، فلمزهر مكانته الخاصة، وللضيوف حقوق، أقلها أوامر صدرت بإيقاد النيران، ونحر الذبيحة طعاماً للعشاء إكراما لهم، عادة قِيَميّةَ لأهل المنطقة المعروفين بتمسكهم الشديد ببعض العادات.
جَهزَت الوجبة فخمة في الساعة الرابعة صباحاً، قال عنها مزهر:
- شيء جيد أن يكون العشاء فطوراً للمتعبين، علينا التوجه الى النوم ساعتين بغية التهيؤ لمشوار الغد، والغد مشوار مجهول.
حل الغد وبات مشواره رفقة زاد فيها موسى، لنكون أربعة، ويكون هو السائق والدليل الى سوق الشيوخ.
هنا نهاية الدولة العراقية الحالية التي بدأت تتآكل يومياً، هذا مدخل المدينة الذي تنتصب فيه سيطرة عسكرية تمثل السلطة الرسمية لهذه الدولة المتآكلة، ما بعدها يتمركز الثوار المنتفضون الساعون الى اسقاطها بعد اتمام تآكلها، وفي الجهة الغربية أقام الأمريكان معسكراً لهم يشتمل على مستوصف صحي، يقدم الخدمات العلاجية لمن يريد. ايجاز قدمه موسى، وهو باق في مكانه خلف مقود السيارة.
هذا يكفي لنعود الى الدبوني، العبور مع العائلة لهذه السيطرة أمر ليس بالمستحيل، قلت هذا وعينيَّ على جندي من السيطرة اتجه الى السيارة الواقفة على أمتار، سأل وقد هيأ نفسه لتوجيه الاتهام بالتجسس على الدولة لصالح الثوار الذي وصفهم بالغوغاء:
لمَ أنتم واقفون في المكان الممنوع؟. فتكفل بالإجابة على اسئلته الشيخ شعلان بعد أن ترجل من مكانه في الحوض الخلفي للسيارة، لتنتهي المقابلة بسلام، وتمنيات من قبل الجندي بوصولنا الى الدبوني بسلام.
سألت الشيخ في طريق عودتنا دون توقف عن الحوار الذي دار بينه وبين الجندي، فأوجز قائلاً:
- ان هذا الجندي هو ساجد بن مريوش المحمد من عشيرة البو محل، التي نرتبط واياها بنسب قريب.
بعدها غط في نومه طوال الطريق، وفعلت مثله نصف هذا الطريق الذي تبادلتُ السياقة على طوله مع مزهر.
.......................
قلت بعد وصولنا البيت موجهاً كلامي الى زوجتي والبنات:
- تعالوا الي الغرفة التي أقيم بها.
- اسمعوني جيداً، سنخرج في الصباح الى سوق الشيوخ، نذهب هناك لنقيم عند عمكم عودة في قريته حتى انتهاء الحرب التي ستنتهي حتما بعد أيام، قالت شيماء:
- إذا كانت الحرب ستنتهي حتماً وبعد أيام كما تقول، لماذا نترك مكاناً نأمنه كل يوم؟، وكأننا في ترحالنا هذا نشبه قبائل الغجر.
تكلمت بعصبية، معطية الحق الى نفسها في أن تقول، كما ان علاقتها بيّ تسمح لها بتوجيه الأسئلة، وقول ما تريد قوله دونما حرج، فأجبت:
- أنا منذ البداية أردت الذهاب الى هناك، لمعرفتي أنه المكان الأكثر أمانا لنا، لا تكثري في الكلام، أنا أدرى بمصلحتكم.
- هكذا تقولون جميعاً أنتم الرجال، وكأن لا رأي لنا نحن البنات، ولا من يمثلنا في الوجود.
- ماذا تقولين؟.
- لا أقول شيئاً مهماً والدي العزيز، كنت أكلم نفسي عن نفسي، وعن أخواتي اللواتي يتطلبن جهداً لجهوزيتهن الى الطريق ومن ثم المكان الجديد، عله يكون الأخير في رحلة السندباد.
................
تدافعت النسوة في محيط الدار، طوال عمل لإعداد الطعام مطبوخاً على الحطب، مثل خلية نحل في ربيع مزهر، خوينة، الزوجة الثالثة للشيخ شعلان عادت الى التنور بعد أن تقاعدت منذ أشهر، تقديراً لمناسبة توديع فريدة من نوعها، فهي مشهورة ببراعتها في الخبازة بالتنور، لقد بات هو العشاء الأخير في هذا المكان الذي شكل قاعدة مهمة لتحقيق الحلم الموعود.
الرجال من جانبهم منهمكون بتفاصيل الكلام عن الأمس الذي أوجد كل هذا الدمار.
عن الحروب التي شنها الرئيس وأخطائه في ادارة الدولة التي كونت كل هذا الفجور.
عن الغد غير المضمون وما بين السطور.
عن الهروب وشكل الخوف طوال الطريق ومخاطره، وبقية الأمور.
كلٌ يفتي من عنده.
يقدم اقتراحاً كذلك من عنده.
تكلم الشيخ شعلان أولاً فسكت الآخرون احتراماً فهو الكبير بين القوم، وشيخهم الجليل أكد أولا عن أهمية اللبس العربي ووضع العقال فوق الرأس كجواز عبور مضمون، عزز رأيه بالقول:
- أنه هيبة، وإن الجنود القائمين بمهام التفتيش، والحراسة في السيطرات ينحدرون غالباً من أصول ريفية تحترم بل تقدس العقال، تَحسبُ لمن يضعه فوق رأسه ألف حساب.
ذكرّهم كيف كان له وقع السحر على أولئك الموجودين في نقاط السيطرة يوم أمس، وأضاف اقتراحاً بارتداء الحجاب للبنات، عامل حشمة ووقار.
خالف رأيه كاظم، الذي يعتقد أن الواقع مختلفٌ تماماً، فاللبس المدني التقليدي من البدلة وربطة العنق، وقميص أبيض يعطي انطباعاً بأهمية الشخص وصلته بالحكومة، وهذا مهم باتجاه فتح المجال للمرور من دون عناء. أما مزهر الذي تعمدَ أن يكون الأخير في الكلام، رجحَ سهولة المرور دون هذا أو ذاك، معتقداً أن الموقف برمته لا يحتاج كل هذا التعقيد، والعائلة بوضعها الحالي، وتكوينها من البنات خير جواز للمرور.
تذكر شعلان أمراً، أراد الكلام ثانية فهو في المعتاد يتصدر المتكلمين في الدواوين والجلسات، يهتم دائماً في التفاصيل، فإنه يرى قراءة سورة الواقعة لضمان المرور الأكيد، مقترحاً قراءتها قبل الوصول الى نقطة السيطرة بعدة أمتار، وإذا ما تم الانتهاء من القراءة عند الوصول الى الجندي المعني في النقطة سيكون العبور أكيداً دون عقبات.
أكمل مقترحه بثقة عالية قائلاً:
- جربتها عندما هربت من وحدتي العسكرية التي كانت تعسكر قرب الفاو في العام 1986 بعد احتلالها من قبل الايرانيين في أقسى معركة ابان الحرب التي دارت معهم لثماني سنوات، إذ وصلت الى الدبوني من تلك المنطقة الملتهبة بنيران القصف المتبادل ومحاولات هجوم مقابل بلغت من جانبنا عشرات المرات. وصلت دون اعتراض أو إعاقة من أحد طول الطريق، رغم كثرة السيطرات والتشديد والتدقيق والاعدام الميداني للهاربين، لقد نفذت من بينهم مثل شبح في ليل.
أبو مساري، قلت مقاطعاً:
- أنا لا أحفظ من القرآن سوى سورتي الفاتحة، وقل هو الله أحد، حتى أني عندما وجدت نفسي في مقدمة الصف الواقف أمام المحكمة التي حاكمتني ومجموعة من الزملاء بتهمة المشاركة في مؤامرة محمد عايش كما كانوا يسمونها، معتقداً مثل الآخرين، أننا سنُعدم، حاولت أن أتذكر سورة من القرآن لأرددها، فلم أجد سوى الفاتحة. يبدو أن أي شخص لحظتها لا يتحمل ضغط الوقت الذي فيه توقعاً للموت، فيحاول لا ارادياً إشغال نفسه بشيء ما، وأنا شغلتها آنذاك بقراءة سورة الفاتحة، وعند الانتهاء من قراءتها، كررتها مرة ثانية، وثالثة من دون سيطرة من نفسي على نفسي الى أن نطق رئيس المحكمة بالحكم سبع سنوات.
كان الى جانبي سرمد الذي شغل نفسه بترديد نشيد الجيش سور للوطن، ذلك النشيد الذي كان يردده طلبة الكلية العسكرية في مسيرات الاستعراض. لقد فعل هكذا، للأسباب الخاصة نفسها بالتعامل مع ضغط التوقع العالي للموت. أما في الجانب الآخر مني فكان فيه ستار يرتجف، لأنه لم يشغل نفسه بشيء يجتاز بواسطته وقتاً ينبئ بالموت، يمر بطيئاً مؤلماً على النفس الخائفة من حياة مجهولة ما بعد الموت. يا لها من لحظات صعبة لو قارنتها بتلك التي مرت عليّ وأصحابي داخل زنزانات السجن، أجد أننا فيها لم نعد نخاف الموت، بل جميعنا تمناه في بعض الأوقات، لأن ألم التعذيب كان أكبر من خوف يتعلق بحياة أخرى، واثقين أن الله سيغفر لنا فيها كل أعمال لنا ارتكبت دون قصد.
التفتُ الى وجوه الموجودين، وجدتهم جميعاً ينصتون اليّ بشغف الاستماع الى حكواتي أيام زمان، فأكملت مستغرباً موقفي في تلك الثواني الحرجة من وقت المحكمة، التي انتصب وسطها عضو القيادة القومية نعيم حداد رئيساً، ومجموعة من أعضاء القيادة القطرية أعضاء. كان الغريب فيها وأنا واقف قلق من أحكامها التي لا تُطَمئِن، تصوري ولو للحظات أن الموجودين على المنصة هم الانقلابيون، وإن البكر وصدام قد قتلوا ضحايا هؤلاء الانقلابين، على الرغم من وجود برزان شقيق صدام واقف على جنب، وكأنه المسؤول الأول والأخير عن ما يدور.
عدلت جلوسي في المكان نفسه، واسترسلت في الشرح، مثل معلم مجبول بالإطالة في الإيضاح، وأكملت:
- أعتقد ان تصوري هذا يرجع الى شدة الذهول، وربما الى علاقة الصداقة التي تربطني بالرئيس آنذاك.
لكني وعندما أدركت أن المستمعين لهذا الشرح تفاوتوا في الاستجابة لملاحظتي هذه، رفعت من وتيرة صوتي عندما قلت عبارة:
- كم كنت يومها مغفلاً، وكم أعمتني المبادئ. أنا الآن أفقد ثقتي بالمبادئ، وبالوحدة العربية التي وضعها الحزب أولى أهدافه، وعدم امكانية تحقيقها ودعاتها أفاقون، وبالحرية التي لا معنى لها وسط أساطير الطغاة، وبالاشتراكية وَهمٌ لا تأخذ تطبيقاته بالاعتبار حاجة الانسان الى التملك والتميز والاستحواذ. جميعنا على هذه البقعة من الأرض مغفلون.
قلت هذا وكأن في قولي رغبة لتجاوز محتويات الموقف غير المرغوبة منهما، مما دفعني الى تغيير الموضوع الى آخر صادفته يوم كنت عضواً في المسؤولية السياسية عام 1969، يتعلق برئيس أركان الجيش السابق اللواء الركن ابراهيم فيصل الانصاري الذي كان معتقلاً في مكتب العلاقات العامة، بتهمة التآمر يوم جاءني ابن أخيه الرائد نزار الخزرجي شاكياً من قساوة تعذيب عمه في المكتب المذكور دونما مبرر فقلت:
- لقد أخذته بنفسي الى رئيس المكتب آنذاك سعدون شاكر، الذي تربطني به صداقة قديمة، وقام من جانبه بعد الترحاب منقطع النظير بإحضار الانصاري، بملابس نظيفة وهيئة محترمة. جلس معنا لدقائق، وشرب وإيانا الشاي، وعندما سأله سعدون فيما اذا عذبه أحد أو ضغط عليه في سياق التحقيق أي من الضباط؟. أجاب:
- لا، لم يمد أحد يده عليَّ، بل وعلى العكس من هذا كانت المعاملة من الجميع ممتازة، وانا ممتن لك ابا رعد كرئيس للمكتب، وأدعو لك في الصلاة التي هداني الله الى أدائها في أوقاتها الخمسة منذ وصولي اليكم.
لقد خرجت من مكتب سعدون غاضباً، وبجانبي نزار، أنبته بشدة على تصديقه الاشاعات المغرضة ضد الحزب والثورة. وبعد، قال الشيخ شعلان. فقلت:
- البعد يا سادتي، زيارة قمت بها الى الانصاري حال خروجي من أبو غريب، كانت الأولى لشخص أعرفه، إذ وبعد أن رحب بيّ سألته، يا سيدي، لماذا قلت يومها لم يعذبني أحد في مكتب العلاقات ونحن قادمون لزيارتك خصيصاً، ولهذا الموضوع بالذات؟. فأجاب بالحرف الواحد:
- لقد هددوني، وعلى الرغم من قولي ما اتفقوا معي على قوله مسبقاً، إذ وحال خروجكم زاد عليَّ التضييق، وارتفع معدل التعذيب. لقد أغرقوا أرض الزنزانة بالماء، وسحبوا البطانية التي كانت موجودة كفراش وغطاء في الشتاء، لم يفتحوا الباب إلا مرة واحدة لخمس دقائق لأغراض الخروج الى الحمام، علقوني ساعة يومياً الى السقف مقلوباً من الساقين، استمروا بضربي بشكل يكاد يكون يومياً. جماعتكم الذين يدعون العفة والعدالة وبناء دولة الوحدة، هم أشد الناس عداوة للمبادئ وتمزيقاً لأواصرها، وهم أكثر الساسة خروجاً عليها، وخرقاً لها، إنهم يطبقون على نزلاء السجن كل نظريات التعذيب والحرمان من الماء والطعام لعدة أيام، وأكمل:
- ثم يا أخي حتى لو قلت لكم نعم إنهم يعذبونني، فلا أعتقد انكم ستصدقون، كيف تصدقون وقد أعمت الثورة بصيرتكم؟.
لقد كان الانصاري خير من تكلم عن عمى المبادئ في الأحزاب الحاكمة، وبشكل دقيق.
لم يترك الشيخ شعلان الموقف ليمر عابراً، زفر بحرارة، وهو يعلق بألم مريب:
- ربك سبحانه يمهل ولا يهمل، الآن هم يعيشون أقسى الأيام، ومن يدري قد يحاكمون في الغد، وربما أنتم من يحاكمهم.
اتفقت معه وقلت:
- أن هذا صحيح، وتأييداً لكلامك أبو مساري، فإن طاهر الذي اشترك بحكم عبد الخالق السامرائي شنقاً حتى الموت قبل سنوات، وقف معه وإيانا في هذه المحكمة وحكم عليه بالإعدام، وتم تنفيذ الحكم بكليهما متجاورين في الزمان والمكان ذاتيهما.
مفارقة قال عنها مزهر، وأضاف أنه من غير الممكن تفسيرها إلا بضوء حكم الله سبحانه، وإمهال البشر عسى أن يتوبوا.
.................
لقد استمتع الجميع بنباهة عالية، وكأنهم في صف مدرسي طلابه ملتزمون، نطقوا جميعهم بعبارة واحدة (ونعم بالله)، وأنا بمواجهتهم مكلوم في حزن يحز بداخلي كجؤار الموت، دافعاً الخزين المكبوت في خلايا عقلي الموجوع، الى إخراج المزيد من آهات أحملها بين ثناياها ذاكرة مبعثرة فقلت:
- الجعبة مملوءة، فيها الكثير من المفارقات التي يندى لها الجبين في هذا الزمن اللعين، فطاهر الذي كلمتكم عنه قبل قليل كان صديق الصبا والشباب لسعدون شاكر رئيس جهاز المخابرات السابق وعضو المحكمة. صداقتهم تُضرب بها الأمثال داخل الحزب وخارجه وفي محلة الفضل ببغداد، كما إنهما عملا معاً في مكتب العلاقات العامة، وَعُرفا معاً بجديتهما في مجال عملهما. إذ وبعد أن حُكمنا وبدأنا الخروج من قاعة المحكمة بالرتل المفرد، وصل طاهر بمواجهة سعدون أقرب صديق له كما قلت، فخاطبه بالقول:
- لماذا أبا رعد، حكمتم عليّ بالموت بتهمة حيازة أسلحة وجدتموها في بيتي؟. قلتم أنها جلبت لأغراض المؤامرة، وأنت تعلم جيداً أن المسدس من بينها كان عندك مثله، وقد استلمناهما معاً من القيادة القطرية، هدية الرفيق القائد آنذاك، والبندقية هي الأخرى سلاح تابع الى المكتب، ومسجل ذمة على اسمي، فهل هذا جزاء الصداقة والملح؟.
وماذا كانت الاجابة في تلك اللحظة الحرجة؟ سأل مزهر.
- سعدون لم يكن قد تحسب لهذا الحرج، كان العتب بالنسبة له مفاجأة، وكان الرد من قبله، يداً هوت بصفعة قوية مثل مطرقة حديد نزلت من أعلى، بعثرت ما تبقى من شعر أشعث كان لطاهر، وأدمت أنفه، صاحبها سيل من السباب انتهى بعبارة (أسكت ابن الكلب، كيف تتطاول هكذا على المحكمة والحزب والقائد؟).
كان النقاش هنا وفي هذه الليلة الأخيرة لا يقتصر على الرجال، فالبنات أيضا منشغلات بحديث ذي شجون داخل غرفة تقترب من أن تكون معزولة عن بقية غرف البيت، يتحاورن كذلك بشأن هذا الوضع الغريب، وعن فك اللغز الذي يزداد تعقيداً مع مرور الوقت، ومع هذا فإن اثنتين من بنات الشيخ شعلان يتفرجن على هذا النوع من النقاش غير المألوف في بيئة أهل البيت، وفي الغرفة نفسها تتنطط نجلاء آخر العنقود كما كانت تفضل تسميتها الوالدة، تخرج منها وتدخل أخرى، فهي الوحيدة التي تتمتع بالحرية المطلقة، ومعها أخريات من عمرها لا علاقة لهن بما يجري بعد أن اجتمعن عند نوع من اللعب البدائي، عدَّ القاسم المشترك بينهن أطفال من بيئتين مختلفتين.
...................
لم تصل الفرق المتحاورة بجلالة قدرها الى نتيجة في جميع المواضيع التي أثارتها، ولم يحض أي منها بقدر من القبول الجماعي، ولو بالحدود الدنيا، شأنهم شأن السياسة في عراق يقال عنه حديث، لا يتفق أهله على شيء وان كان موضوعه مطر من السماء لا اختلاف على طريقة نزوله، على هذا بقيَّ الجدال بينهم ماضياً بالوتيرة ذاتها بعد أن تعددت الآراء، وكثرت الاجتهادات.
هنا وفي ذروة الاختلاف، وكثر الاجتهاد والاعتداد بالرأي، توقف النقاش فجأة عند دخول النقيب محمد حسين بلباس الميدان ماراً بالمكان، وهو في طريق الانسحاب مع عشرين جندياً هم المتبقون من فوج مشاة بعثره الانسحاب، يعمل فيه مساعداً لآمرٍ تركهم وذهب الى جهة مجهولة، قال أحد الجنود لقد ذهب الى أهله في ضواحي مدينة كركوك، وقال آخر، إنه قد التحق بصفوف المنتفضين، لأنه كان ناقداً للنظام، وقال الثالث، هناك معلومات ترجح انتحاره، لأنه كان ممتعضاً من الهزيمة. عارضه الرابع بالقول، لا أحد ينتحر في هذا الزمان.
عندها فُتحَ موضوع جديد للنقاش والاختلاف، بان خلاله النقيب منهك القوى، جائعاً وكذلك جنوده المنكسرين.
تذكر مزعل وسط هذا النقاش العقيم أنه لم يُعَرِف الجالسين بالنقيب فبادر بالقول:
- إنه النقيب محمد ابن عمنا، شخص موثوق به، جاء سالكاً الطريق الذي نتناقش بشأن كيفية اجتيازه الى سوق الشيوخ، دعونا نشركه معنا.
لكن النقيب وبسبب الجوع أو التعب، لا أحد يستطيع الجزم فقد حدد النتيجة التي فتشوا بحواراتهم عنها لساعات بدقيقة واحدة، ودون الحاجة الى التوسع بالنقاش، سأل أولا:
- هل لديك صورة شخصية؟.
تعجبت من السؤال، ومع هذا أكدت وجودها في المحفظة التي أخرجتها من جيب بنطالي، سلمتها له غير مصدق بما يجري، كأنني أحلم، أو صحوت تواً من حلم، أو انتقلت من حلم الى حلم آخر. ومن جانبه لم يعر اهتماماً لعجبي، وكأنه كان واثقاً من كونه وكيلاً للآمر الذي غاب مفقوداً.
بعث جندياً من جنوده المنكسرين الى السيارة العسكرية التي تحمل محتويات المكتب، طالباً جلب أنموذج هوية مع ختم الوحدة، قال الصورة مناسبة، وضعها في المربع الخاص، سأل عن الاسم، قال:
- لابد أن يكون قابل للتذكر، سأضع اسمك الأول وعليك اختيار الأب واللقب.
وأخيراً كتب بخط يده في الانموذج (النائب الضابط شامل)، فأكملت من عندي مجيد علي الربيعي.
ختمه بالختم الخاص بالوحدة، ثم عزز هذا التعريف بنموذج اجازة مطابق للاسم ذاته، نافذ من قبل حصول الانتفاضة، وحال تسليمهما قال ستنفعك في الطريق الذي تود سلوكه، بعد أن وزعت عليه السيطرات العسكرية في أكثر من مكان.
عند هذا الحد نهض منتشياً، ومعه بقية جنوده، بعد أن حصلوا على الطاقة اللازمة، وجبة عشاء كافية، توصلهم نشطين كما هو مطلوب الى معسكر التاجي، محطتهم التي يفترض بلوغها قبل ظهر الغد حتماً.
**********
يتبع
808 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع