رواية تيه الجنوب / الجزء السادس ، ثنائية حفل رئاسي
اكتمال العدد
حل الصباح ندياً فيه نسمة هواء عذب، ساعدت على الخروج من قاع النوم دون ملل، ودفعت بالشيخ شعلان لأن يؤم الرجال في صلاة فجر جماعية مع ركعتين دُعاء بوصولنا سالمين. نجح في إتمامها وإن كان البعض لا علاقة له بالصلاة. أمر بعد ركعتها الأخيرة تقديم الفطور، من انتاج مزرعته التي تكاد تكون مكتفية ذاتياً لما يتعلق بالفطور. ومن بعده وقف وجميع أفراد عائلته، لتوديعنا جالسين في سيارة الفولفو قاصدين السير في طريق المجهول.
الواقفون ومعهم مزهر ومزعل، كانوا يلوحون في منظر توديع مهيب لصديق عزيز وعائلة أحبوها خلال تواجدها معهم ليلتين.
نظرت الى ايديهم وهي تلوح، شاهدتها رخوة، وشاهدت عيوناً تدمع خوفاً من المجهول. اعتقد بعضهم أنها النظرة الاخيرة سواء تم النجاح بعبور الحدود، أو صار الوقوع بيد السلطة وأجهزتها اللعينة واحداً من الاحتمالات.
كان الطريق الموصوف فيه قدر من المجهول، يثير القلق، حاولت إخفاء القلق ما استطعت الى ذلك سبيلا، فمن معي لا يتحملون آثاره، المهم مسكت بدايته طريقاً طويلاً، وبعد أقل من ألف متر داهمني شعور بالثقة في قدرتي على إكماله حتى النهاية، متكلاً على الله في سيري باتجاه حلم مازال موعوداً. سرت عليه وقد أكثرت سرف الدبابات المنسحبة على سطحه المزفت قديماً من الحفر، لم أعد أهتم بالحفر، ولا بالسيارة التي أركبها، كأني وضعت استخدامها لمرة واحدة مثل قفاز طبيب متمرس، وهي كذلك لا تبالي تلك الحفر والمطبات، كانت متينة، وكانت الشمس على يساري تتابع حركتي متكئة على حافة السماء، تسللت بعض خيوط أشعتها الى داخل السيارة، فانتفضت عند دخولها الذاكرة كطير بليل، قلّبتُ صفحاتها، كمن يقلب صفحات فيها طلاسم تقي من شر الأفاعي، والوحوش التي تخيلتها ماكثة على هذا الطريق.
توقفت عند آخر يوم لي في سجن أبو غريب، وصباح لاحت فيه زمجرة الصافرة الخاصة بالتجمع، كانت مختلفة هذه المرة، لم تكن خشنة ممتدة طويلاً مثل كل مرة، حضرنا جميعاً بالسرعة ذاتها وفي مخيلة الواحد منا خوف من الجَلد اذا ما تأخر قليلاً، مثل ذاك الذي يطبق تماماً على مرتكبي الزنا أيام زمان.
كانت الصافرة هذه المرة ناعمة ومتقطعة، وكأنها تنبئ بشي غير الأشياء التي كانت تعبر عنها من قبل. تجمعنا نحن الباقين على قيد الحياة في هذا القاطع المشؤوم من سجن خاص يعج بالقسوة والأسرار، كيف لا وقد أصبحنا مطيعين، نتصرف آليا بعدما تعلمنا الامتثال نتيجة التعرض المستمر الى عقاب التدجين؟. بتنا نستجيب كما قال سمير فيما بعد لما يطلب منا، مثل كلاب (بافلوف) عالم النفس الروسي الذي علمها الاستجابة الشرطية لفعل يريد حصوله لمجرد تعريضها لمثير يحدده هو.
قال الضابط بلغة ملؤها اللطف غير المعهود:
- توجهوا الآن الى الحمامات، أحلقوا ذقونكم.
قال سرمد الواقف الى جانبي بصوت خافت، أشم رائحة شؤم غير معهود.
أكمل الضابط توجيهاته طالباً من فالح السجين الملقب (بالزعرتي )، حلاقة الجميع، حلاقة نظامية هذه المرة في صالون أعده في الفراغ الباقي من الحمامات، يحوي على صفيحة معدنية(تنكة) جلبها سامر من المطبخ حُسبت كرسياً. كان الجلوس عليها مريحاً، بل تفوق الراحة الناتجة عن الجلوس على أي كرسي وفير، يحوي أيضاً ماكنة حلاقة يدوية، انقرضت منذ ستينيات القرن الماضي، ومقص لجز الشعر أكل الصدأ جزءاً من نصله، ونصف مرآة، عندما جاء دوري ونظرت فيها لأول مرة تعجبت من شيخوخة داهمتني مبكراً، لكني لم أعر لها اهتماماً، فالشيخوخة في هذا القاطع لا تعني شيئاً.
سألت حليم بعد خروجنا من هذا المكان الذي اسموه بالصالون، عمّا يجري، وهل يعقل ما يجري؟، وقبل أن أكمل أسئلة مازالت تملأ مخيلتي أجاب:
- كل شيء في عالمنا يعقل وقد لا يعقل، وما الذي نملكه في دنيانا هذه سوى أن نعقل.
هي لحظات وإن مُلِئت بالشك والتوجس، لكنها مسكت بصيصاً من الأمل لما احتوته من تغيير في صب جام الغضب، والتعذيب، والاهانة، والشتم التي كانت سائدة. عدت في مخيلتي الى نصف المرآة فتذكرت أني قد فقدت من وزني الكثير، وان الابتسامة غابت عن وجهي، وظهرت التجاعيد قبل أوانها وكذلك الشيب، يا لها من مهزلة يحدث كل هذا في سجن طالما تمنيناه لأعدائنا.
فقلت لنفسي أين هم الأعداء، لقد وضعت العداوة في قوارير الصداقة، وانقلبت من على طاولة الدولة التي أقمناها دولة عداوة بقوالبنا الثورية، فأختلط العجين ولم نعد نعرف أصولها.
لقد أقفلت السرعة التي جاوزت المائة كيلومتر في الساعة، بوابات الذاكرة مؤقتاً، أعادتني الى الواقع لأقلل منها، لكنها سرعان ما انفتحت من جديد، لتقذف على سطحها صور النصف الغائب من الزملاء الأربعة عشر الذين أزهقت أرواحهم في السجن بأمر من رئيس الدولة، وربما اجتهاد من رئيس الجهاز، فالحكم بالموت إبان فترة السجن من صلاحيتهم حصرياً. صور الموت لا تمحى، والحسرة وكيف كان الواحد منهم يرخي عضلاته في أثناء الاحتضار، استعدادا للموت، وإن كان بطرق مختلفة، كذلك لا تنسى، ومعها لقطات لعبد الرزاق الذي أعادوه في إحدى المرات محمولاً، وقد غطت بقعة كبيرة من الرطوبة "بجامته" من الأمام والخلف، مؤشرة أنه ومن شدة الضرب، وجسامة الخوف فقد السيطرة على عضلات مثانته، وكذلك على تلك التي تتحكم بالتغوط بعد أن خربها چاسب بعصاه التي دسها في المؤخرة، وأدارها دورة كاملة عدة مرات، ليخرجها أخيرا منقوعة بالدم، قال سرمد الذي يشاركه الزنزانة:
- لقد رميَ على أرض الزنزانة، فكان كوم من لحم، محموم يهذي من شدة الاحتضار، حتى أني تصنعت النوم خوفاً من خطورة المشهد، وعندما لم يمت في ساعتها فتحوا فمه بمشبك حديد، ووضعوا في جوفه حبة (ثاليوم) أماتته قبل نهاية اليوم، فأكتمل العدد المطلوب لهذا الشهر.
كنا جميعاً نعلم عن اكتمال العدد المطلوب اماتته حتى أنهم، وقبل اماتة عبد الرزاق أوهموني قبل يوم من هذا اليوم الذي مات فيه، أنهم سيعدمونني لإكمال العدد، وطلبوا مني أن أتمنى أمنية واحدة. صدقتهم، فتمنيت أن تثبت براءتي من الاشتراك في المؤامرة، فأعادوني الى الزنزانة فاقداً الوعي.
تنبهت الى نفسي ضاغطاً على دواسة الوقود من دون وعي مني، كمن يريد استعجال الوصول الى الهدف الذي عد من المجهول، أو التخلص من موقف لا يمكن تخيله ضرباً بالعصي أو وخزاً بأعمدة الحديد، وتسميماً بمشبهات الادوية، وايلاجاً بالخوازيق المحلزنة في الأدبار أو حرقاً بألسنة اللهب الآتي من سعف النخيل، وخنقا بالتهام الفضلات. لكن السرعة محذورة من أهل بيتي الموجودين في السيارة، وكأنهم يحتجون على لسان أُم شيماء التي قالت:
- ألم تر أنك تزيد السرعة أكثر من اللازم، لقد بدأتُ أرتجف رعباً. ثم عاودت الكلام مع البنات عن الريف، وبيت الشيخ شعلان بهدف تقليل التوتر الناجم عن السرعة.
لقد خففتها وتأسفت على السرحان دون قصد. حاولت ملاطفة نجلاء التي تسعى طوال الوقت الى مغادرة مكان جلوسها بين أخواتها في الحوض الخلفي، والانتقال الى الأمام حيث تجلس الحبيبة الى جواري.
.....................
بات الطريق مكتظاً، نحس كل خطوة نخطوها عليه بتدافع العسكر وتسارعهم في السير الى جميع الجهات، ونقاط السيطرة المنصوبة لتنظيم ذاك التدافع. تخيلت السائرين مشياً من الجنود والمدنيين الفارين حجيج في وادي منى، لكن الحج هنا مختلف، لا يرفع أصحابه الأيادي عالياً بقصد الدعاء، ولا يبتسمون لملاقاة الرب، كانوا غاضبين، تعلو وجوههم مشاهد الانكسار من حرب أخرى:
سيارة تقطر عربة طويلة، فوق العربة كومة جنود، وفوقهم في السماء تحلق نسور.
دبابة احترقت فوق مقطورتها الطويلة، واحترق في داخلها طاقم جنود، تحوم حولها كلاب.
جنود يسيرون دون انتظام على حافات الطريق، يترقبهم ثوار، وهم كذلك يراقبون الثوار.
قادة يتسابقون ابتعاداً عن عيون الثوار وعن مسامع الرئيس، لا يعيرون اهتماماً لما يجري،
كأنهم لا يعرفون ما يجري، وما يجب أن يكون، محنتهم كبيرة.
معسكرات قريبة مازالت تشتعل في منشآتها النيران من قصف الحلفاء، وأخرى أغار عليها الثوار، وأشعلوا فيها النيران.
مشاهد لا تسر الناضر اليها ماشٍ في الرواح أو في المجيئ، وسطها بقيت سيارة الفولفو تسير مسرعة صوب الحلم الموعود، لا تأبه لمشاعر الانكسار، لأنها في الأصل حزينة ولا مجال في وعائها العقلي لمزيد منه في هذا النهار. كانت العائلة داخلها كما قال مزهر جواز مرور جيد، وهوية النائب ضابط جاهزة لاستخدامها في السيطرات التي تعترضها فجأة من قبل الثوار، وخبير الكهرباء هي الأخرى فاعلة في تلك التي يسيطر عليها رجال الجيش والأمن العام، أسهمت في مرورها من دون عقبات حتى المفرق الذي يؤدي فرع منه الى جسر الناصرية، والآخر الى الجسر الهولندي، القريب منها.
اقتربت من أماكن يصعب التعرف على من يتحكم بها، فطلبتُ أن نكون جميعاً حذرين، وأن لا يتكلم أحد غيري، خشية الخطأ غير المقصود. رَدت نجلاء بشقاوة واضحة، وما معنى أن نكون حذرين أني لم أفهم ما تقصد؟.
- الم اقل اسكتوا، وانتِ أول من عليه السكوت.
- سأسكت، لكني سأطالب بحقي في أن أفهم، بعد ان ترفع عنا المنع، وتأذن لنا بالكلام.
- حاضر سيدتي، المهم ان تسكتي، وسأجيب عن اسئلتك جميعها لاحقاً.
................
كاد الطريق ينشطر نصفين، نصفه الأول فرع الى مدينة الناصرية والآخر اتجاه الى سوق الشيوخ، يقف على ناصيته قبل الانشطار ضابط برتبة رائد، رتبته صحيحة، ووقفته كذلك صحيحة، رغم أن حرب الثمان سنوات مع إيران، وهذه التي أتت من بعدها بلا فواصل زمنية كانتا كافيتين لتجاوز غير الصحيح. واثق من نفسه ومن أوامره بعدم المرور من هذه النقطة التي ينتصب عليها قائداً بلا منازع، لا يسمح لاحد بالتوجه صوب الجنوب، ماشياً كان أو راكباً سيارة من أي نوع تكون.
أشّر بعصاً كان يتأبطها كمن يقف في ساحة تدريب لجنود مستجدين، طلب التوقف على الحد الفاصل بين الجيش والعصاة "هكذا وسم المنتفضون بالعصاة". وأدار سهم عصاه قليلاً الى اليسار مسترسلا في كلامه:
ـ إنهم هناك، مواقعهم لا تبتعد عنا سوى مئات الأمتار، إطلاقات قناصتهم تصلنا بين الحين والآخر، المكان جداً خطير، وغير مسموح الوقوف فيه ولا المرور من عنده بأي من الاتجاهين، ثم عدّل وقفته وأدار عصاه قليلاً الى اليمين، ذاك هو السبيل الوحيد من أمامكم عودة من حيث أتيتم وفي الحال، ومن ثم أكد التأشير بيده اليسرى إشارة تعني الاستدارة والتحرك من هنا على الفور، وعندما أدرك عدم استجابتي لأوامر أصدرها لازمة التنفيذ، حاول تكرارها بلغة مختلفة هذه المرة، فيها قدر من الخشونة، طالباً العودة بالعائلة حالاً وعدم تعريضها الى التهلكة.
عاد الى عصاه، أومأ بها الى مجموعة بيوت مهدمة سائلاً الم تر تلك الخرائب؟، وأجاب إنها المكان الذي يتواجد فيه العصاة المخربون، يطلقون النار باتجاهنا، وكذلك على من يسلك الطريق راجلاً أو في سيارة، وأكمل كلامه طالباً تركيز النظر على سيارة نيسان صالون على بعد خمسمائة متر، مازال الدخان باق يتصاعد من بدنها المحترق، قائلاً:
- لقد أصر صاحبها الخائب على المرور باتجاه الناصرية، لإنقاذ زوجة له داهمها المخاض، لكنهم قُتلوا جميعاً بقذيفة (RBG7) أُطلقت على سيارتهم من تلك الخرائب. أخذ نفساً عميقاً ثم أكمل:
- لا نريد تكرار المأساة، ولا يمكن السماح بتكرارها.
لم يبق من بد سوى الترجل من السيارة، والتوجه صوبه قائداً وحيداً في المنطقة. فعلتها بهدوء، أخذته جانباً بطريقة حاولت الايحاء بسرية المهمة التي جئت من أجلها. وانا في الطريق اليه أخرجت هوية الخبير في الكهرباء. كلمته بصيغة تقترب من الرسمية. عرفته بنفسي خبيراً في الكهرباء، أرسلتُ من قبل السيد الوزير، وبأمر من السيد الرئيس القائد. قلت، حفظه الله ورعاه، قولاً يعزز صفتي موظفاً في الدولة، هكذا جميعهم كانوا يقولون عندما يَرِد اسم الرئيس، وأكملت:
- جئت من أجل تشغيل محطة كهرباء الناصرية التي توقفت بفعل القصف المعادي للأوغاد، سبقني اليها في الأمس خمسة فنيون معهم أدوات احتياطية.
من هيئته تأكد حدسي من أن ذكر الرئيس كان كافياً لإثارة مشاعر الريبة من الوقوف بالضد، ويكفي للغوص في أعماق الخشية من العقاب. سألته:
- ألم تر الفنيين التابعين لدائرتنا وقد مروا من هنا؟. فأجاب:
- إني لم أكن موجوداً هنا في الأمس، كل دقيقة تتبدل فيها المواقف والأحوال وكذلك المسؤوليات.
لمست من كلامه استجابة ايجابية، ومن هيأته قدر من الاطمئنان في موقف، عادة ما يكون موسوم بالشد والتوتر العصبي العالي، عندها أبديت قدراً من التأييد، واستغلال الفرصة بالقول:
- ألا تعلم سيدي الرائد إن الفنيين المرسلين لم ينجحوا في تشغيلها حتى الآن، ما استوجب حتمية تدخلي لأني الخبير المختص. لقد جلبتُ العائلة معي لأغراض التغطية فيما إذا مررنا في مكان يتواجد قربه العصاة، وكان هذا بأمر من السيد الرئيس. بإمكانك الاتصال لاسلكياً، "حفظه الله" يُدخِل في حساباته أدق التفاصيل.
قلتها وأنا واثق من توقف جميع الاتصالات في حرب طرفها الجيش العراقي الذي توقف نموه التقني، وحربه الالكترونية بشكل كبير منذ الحرب مع إيران، حتى أعتاد القتال تقليدياً، وطرفها الثاني أميركا الدولة الأولى في العالم تقنياً، وعلى هذا أوقفت حتماً كافة الاتصالات، وإن لم تفعلها فقد شوشت عليها، وكان حدسي في محله، حيث أجاب الرائد منفعلاً:
- أي أتصال تتكلم عنه، والحلفاء أوقفوا كل اتصالاتنا، وبات كل واحد منا في هذا الجيش تحت نجمة تطوف سابحة في الفضاء دون اتصال مع الارض.
لقد تحولت لهجته من الجد في موقف عسكري حازم، الى التسفيه مما يجري، وكأن في كلامه غضب يريد إخراجه، لِما آل اليه حال جيشه الذي تمنى بقاء صورته كما هي عظيماً في كل الأزمنة والأوقات. وتحول الحوار من بعد هذا الى تبادل انفعالات فيها تواصل بالمشاعر قريب، وفيها احتجاج مبطن على ما يجري، لأننا وكما أعتدنا منذ سنين لا يمكن أن نتبادل الاحتجاج الفاضح في مواقف الحياة، بسبب خوفنا الشديد من الرئيس وأجهزته الأمنية. هكذا بدا لي الموقف ملائما لمزيد من الاستثمار، الى صالح عبوري الذي أضحى قريباً من المنال، فقلت الله في العون، ومع هذا لا مجال للتراجع عن مهمة يحددها السيد الرئيس "حفظه الله"، حتى لو ضحيت بنفسي والعائلة فداء له وللوطن العزيز. عند هذه الجملة بالذات بارك خطوتي، واصراري على الوصول الى المحطة والاسهام في تصليحها بصفتي الخبير المختص، وعلق على هذه الخطوة قائلاً:
- لو كان لدينا عشرة من أمثالك لكان العراق بخير.
- لدينا الكثير سيادة الرائد، وأنت أولهم بطل يقف بمواجهة العصاة، سأشرح هذا الموقف للسيد الوزير، وبالتأكيد سينقله الى السيد الرئيس.
قلت هذا عارفاً بمقدار الرغبة في نفوس الضباط، غالبية الضباط من أجل الوصول الى الرئيس وكسب رضاه، فالوصول اليه تحول قد يحصل في الحياة، غناً في المال، وترقية أعلى في كل الأحوال، قلتها مزهواً بنجاحي في ادارة الحوار واقناعه بحتمية المرور باتجاه المجهول. فأشار عليَّ ضرورة السير نحو الجسر الهولندي. نصح بالانحراف الى اليمن ومن هناك الى المحطة، مع اشادة ثانية بالإصرار على تنفيذ المهام الوطنية في هذه الظروف الصعبة.
...........................
اتخذ جنود بعد انشطار الطريق بمسافة لا تزيد عن الأربعمائة متر وضع الانبطاح، وآخرين أياديهم على الزناد، اصطفوا في أنساق قريباً من حافة الطريق اليسرى. طلبوا بإشارة من أسلحتهم المشرعة وأياديهم التي رفعت أصابعها من على الزناد، أن نتوقف على الفور، آمرهم الملازم كان هو الأجرأ، والأكثر حرصاً فقد نهض من وضع الانبطاح، وتقدم نحو السيارة، سائلاً بعصبية بينة، وبلهجة بغدادية واضحة عمن سمح لنا بالمرور على هذا الطريق الذي وصفه بالخطير، وأسماه "طريق الهلاك الأكيد"، وقال عن سالكه مفقود والناجي منه مولود، ثم طلب بصيغة الأمر إبراز هوياتنا، والجهة التي نقصدها، ثم ختم حديثة بعبارة المرور من هنا ممنوع حتماً، ولأي سبب كان.
كنت هنا أكثر قوة وثقة بالنفس مما كنت عليه قبل قليل في حضرة الرائد، كان لدي أساس أستند اليه هو موافقة الرائد، فأجبت دون الحاجة الى التفكير بصياغة الإجابة المناسبة، من أني هنا بمهمة رسمية تستحق المجازفة بالمرور من على هذا الطريق، وان وصفته بطريق الهلاك. والرائد مجيد المتواجد في المفرق له علم بكافة التفاصيل، وكل شيء يهون أمام الواجب المقدس.
- ماذا تقول؟.
- الذي أقوله أمرٌ من السيد الرئيس، بحتمية تشغيل محطة الكهرباء المتوقفة عن العمل قبل الضياء الأخير ليوم غد.
عاود السؤال هذه المرة عن اللغة العسكرية التي اتقنها بشكل واضح؟، فأخبرته عن خدمة لي سابقة ابتكرت صفتها ضابط احتياط في اللواء الرابع والأربعين، تسرحت بعد الانتصارات التي حققها جيشنا العظيم في القادسية العظيمة. تعمدت التعظيم سبيلاً الى تقريب المسافة النفسية بيني وبينه، التي سهلت بالفعل الحصول على موافقته بالمرور... موافقته مشروطة على أن تكون نتائجها على مسؤوليتي الخاصة. فبادرته الرد من أن تحمل المسؤولية واجب وطني في هذا اليوم الحرج، وقلت:
- ان خدمة الوطن بتشغيل محطة الكهرباء أمر يستحق تحمل المسؤولية.
وقبل الشروع بمغادرتي المكان أكد الملازم على ضرورة الانتباه، لأن العصاة موجودون على الطريق بعد مائتي متر من هذا المكان الذي هو وجنود الفصيل قائمين عليه، وضرورة اجتيازه بأعلى سرعة ممكنة لكي لا تعطى فرصة التصويب بدقة. قلت وفي محاولة مني بلع اللعاب الذي تجمع في حلقي، وبصوت غير مسموع من أن كل شيء يريدون اتمامه بسرعة، وتذكرت على الفور كلمة السرعة التي أرادها مانع ضابط أمن المخابرات الذي أشرف على تدجيننا سبيلاً لتنفيذ إطلاق السراح بالعفو الخاص، مما تبقَ من سني الحكم بالنسبة لمن قاوم الموت منا في زنزانات القاطع الخاص، حتى إنه قرأ العفو بوقع سريع، وتعالى الهتاف بحياة القائد الأوحد بوقع سريع، وقدم الايجاز بالانتصارات الفريدة في الحرب الدائرة مع إيران كذلك بشكل سريع. لحظات لا يمكن نسيان تفاصيلها وان كان وقعها سريعاً، لأنها واضحة بل أوضح من مجريات هذا الطريق المليء بالمفاجآت خاصة تلك اللحظة التي بدأت باستلام بدلة السفاري، ولبسها بسرعة دون التدقيق بالقياس، كان القياس متقارباً بحسب أوزان لا يتعدى الأوفر حظاً فيها خمسين كيلوغراماً في أحسن الأحوال.
تحيرت لحظتها من أمري ومن تداعي الأفكار في ذاكرتي، فأصابني الذهول. مسكت قلبي خوفاً من توقفه حيرةً. تحسست دموع قد انهمرت من اعتصار الأسى، وصور من مات بين يديّ أو في حضني، ومن المرات التي فضلت فيها الموت، داخل الزنزانة التي تقترب من ان تكون ثلاجة في الشتاء، وفرناً لشواء الصمون في الصيف. قلت مع نفسي لم أكن وحدي من فضل الموت على البقاء تحت رحمة رفاق في أجواء ربيع، أجزم اننا سكنة هذا القاطع جميعنا تمنى الموت طوال ذاك الوقت الموحش. وقلت أن الموت قبل ذاك العفو الذي أصدره الرئيس في صحوة ضمير قبل النوم، كان حلماً طالما تمنيناه مكرمة خلاص من فعل التعذيب. لكن الحال قد اختلف اليوم واختلفت معه الاحلام والتمنيات، حتى أن السير مع العائلة على هذا الطريق الموسوم بالهلاك وبكثرة المفاجآت غير السارة لا يقترب من تمنيات الموت، بل وعلى العكس، أحس الرغبة هنا قوية بالحياة من أجل إثراء الحياة، وتحقيق الحلم الموعود بالهروب، وتجنيب العائلة صدمات أُخرى في هذا المجتمع الذي خُلق لتكوين الصدمات.
أسير مسرعاً، أقف متوتراً ومع هذا أشعر وكأن الحال قد تبدل، أرى بعقلي ومضة أمل في الخلاص تتدحرج على بساط الاعتقاد، بان الأسوأ من الحال سينتهي في القريب عند حافات الحدود. خليط عجيب من المشاعر والاحاسيس، ومع هذا لا خيارات متاحة، سوى الاستمرار بالاتجاه المرسوم الى آخر المشوار، وإن تخللته إطلاقات تأتي من هذه الجهة أو تلك.
........................................
أسموه الجسر الهولندي، لا علاقة لشكله الحالي بهولندا من قريب أو من بعيد، وهو يلوح في الأفق كئيب، غير راضٍ عن حاله يجثم على ضفتي نهر واطئتين يغطي البردي مساحة واسعة منهما، ولا علاقة له بما يحدث قريباً منه بعد ان بات حداً فاصلاً بين السلطة والثوار المنتفضين، ضفته المقابلة سقطت بأيديهم منتفضين، يصرون مد سيطرتهم الى الضفة القريبة بهجمات أصبحت متكررة في اليوم الواحد عدة مرات.
اقتربتُ من موقعه حذراً بعد توقفات متكررة، نجحت فيها إقناع العسكر السماح بالمرور. لا مجال الا السير توجساً، وقبل بلوغ مقدمته جسراً أصم بمائتي متر ظهر جنديان، وقد خلعا أحذيتهما العسكرية، يمشيان ببطء شديد، كأنهما اجتازا بشاكلتهم هذه المسافة طويلة، لم يتناولا خلالها طعاماً، ولم يتمتعا باستراحة تكفي لتجاوز حالة الاعياء. أشرا بكلتا يديهما إشارة توحي، وكأنهما يتوسلان من يجنبهما الموت، إذ لا يقويان على المسير. توسل الأكبر عمراً انقاذهم من هذا الحال الذي هم فيه، وذلك باصطحابهم في هذه السيارة المكبلة بحمولة تزيد عن القياس، لأنهم لا يقويان على السير، وقد تركا وحدتهما التي تبخرت في الصحراء، هم هكذا منذ يومين، يسيران راجلين باتجاه سوق الشيوخ. أجبت:
- لكن سيارتنا ممتلئة كما ترون، ولا مجال في داخلها لطفل رضيع.
توسل الثاني لاصطحابهم، ولو بالجلوس فوق بعضهم بعضًا لأنهم سيموتون من التعب، وجوعاً إذا ما تركوا هكذا ساعة أخرى. ومن جانبها توسلت عطفاً أُم شيماء، مؤكدة رغبتها في اصطحابهم، وترجلت من مكانها في الأمام متجهة الى الحوض الخلفي من السيارة. حشرت نفسها مع البنات سابعة لهم في مكان صمم في الأصل لثلاثة أشخاص، وقبل أن يأخذ الجنديان مكانهما حشراً في الأمام، ناولت كل واحد منهم صمونة مليئة بلحم الدجاج، كانت قد أعدتها للبنات متاع طريق، التهماها بلمح البصر من شدة الجوع.
كان الجسر الهولندي عند محاولة اعتلائه مقصوفاً من الحلفاء، بعض حديد التسليح يشاهد واضحاً بعد تفتت الحصى والاسمنت نتيجة العصف القوي للقصف. قالت شيماء لهذا السبب هو كئيب. سيارة صالون هوت الى الماء عندما حاول سائقها العبور، فقدم حياته ثمناً للمجازفة. منظر يدفع الى الحذر وكذلك الخوف الشديد، فتقدمتُ نحوه ببطء شديد. وقفت على بدايته. نظرت الى حجم الخراب نظرة صقر جارح، وكذلك فعل الجنديان، فاتفقنا على استحالة عبوره بسلام إذا لم نُعَدِل اعوجاج بعض أذرع الحديد الظاهر، ليبتعد عن جزء من الرصيف هو المتبقي صالحاً لاستخدامه في المرور من فوقه بقدر مقبول من المجازفة. عند هذا الاتفاق بالرأي، واتمام مهمة تعديل أذرع الحديد الظاهر تم الشروع بتنفيذ العبور بتأنٍ شديد بعد أن أصبح الجميع في مركب نجاة واحد.
كان أحمد الجندي الأصغر سناً يمشي قافلاً الى الخلف، وجهته السيارة، يؤشر بكلتا يديه، قليل الى اليمين، كفى مثله الى اليسار، استمر بالتقدم كما أنت الآن. في الوقت الذي يمشي فيه مسعود خلفها، يضرب على غطاء صندوقها، إذا ما أقترب الإطار من حافة الرصيف المهشمة أكثر من اللازم، أما البنات والأُم فقد ارتفعت أيديهن الى السماء، يرددن دعاء السلامة مع كل متر يتم اجتيازه بأمان. وتم الاجتياز بأمان، وتصاعد عند إتمامه الحماس، وشكر الله، وتعززت الثقة بأنه هو من سخر هذين الجنديين للمساعدة في اتمام العبور، وزاد الاطمئنان باجتياز الحاجز الاخير الى باب النجاة، سوق الشيوخ.
هنا في هذا الجانب يحكم الثوار المنتفضين قبضتهم على الطريق، يقيمون سيطرة عند كل خمسمائة متر. طلب آمر السيطرة الأولى الهويات، أعطيَّ الهوية الموجودة في الجيب الأيمن نائب ضابط، ففعلت فعلها، حتى نقطة السيطرة الأخيرة التي يديرها رجل بلحية سوداء كثة، يقف الى جنبه شاب متحمس، طلبا الهويات بصوت فيه قدر من الشك الواضح. أدخلت يدي في الجيب الأيسر بطريق الخطأ، فظهرت هوية الخبير. حاولت إعادتها الى مكانها سريعاً لإظهار الأخرى من الجيب الأيمن نائب ضابط، لكن الرجل الملتحي لم يسمح بإتمام الحركة التي لا تخلوا من الارتباك، وطلب على الفور الاطلاع على ما باليد، مصمماً على الاطلاع. قرء بصوت فيه نشوة فرح، فتعالى صوته دون تمحيص:
- ما شاء الله خبراء التصنيع، أعوان حسين كامل في ساحتنا، إنها من علامات الساعة.
عندها ضاقت في نفسي الدنيا وماتت كل الاعذار، ولم يبق الا كلمات قليلة لأغراض النكران، أي ورطة هذه التي وُضعت فيها. التفتُ الى من حولي، فلم أجد سوى وجوه قد اصفرّت وكأن إله الخوف قد طوقها بعباءته الصفراء، قلت:
- أي حسين كامل تقصد؟. أنا رجل أعمل في وزارة الكهرباء خبير، ما علاقتي بحسين كامل.
قلتها بصوت يشوبه الارتباك بشكل واضح، وباقي الثوار يتحركون رواحاً ومجيئاً حول السيارة المأسورة، كأنهم يطوفون في حضرة إمام معروف بالشفاعة، كانوا قد طلبوا منه في زيارة سابقة اماتة حسين كامل، وعادوا الى زيارته بعد ان حقق لهم ما ارادوه.
قال أحدهم وهو يطوف، نعم إنه مساعد حسين كامل.
وقال آخر، هذا من أعوان الرئيس.
وثالث أكد بحس أمني إعتقده لا يخيب، أنه مرسل للتجسس على الثوار.
وقبل ان ينتقلوا الى مرحلة الفعل الميداني كما اعتادوا ان يفعلوا قتلاً للمشكوك بهم، حسم قائدهم الملتحي الأمر، بعدم التسرع في اتخاذ أي اجراء، لوجود عائلة في الوسط، ولابد من عرض موضوع الأسير، مساعد اللعين حسين كامل على السيد قاسم في سوق الشيوخ.
لم يكن السير بهذه السيارة هيناً، بعد جلوس شخصين من الثوار على غطاء محركها الذي يزأر من شدة الضغط على دواسة الوقود. ومن فرط الحمولة أضحى جسدها الهالك، وكأنه يلامس الأرض. المنظر من خارجها وباقي الثوار من حولها وخلفها، يتحاورون ويكبرون بما حققوه في جهادهم لهذا اليوم، بدا وكأنه زفة عرس لأحد جنود الحرب عاد سليماً منها بأعجوبة.
في خضم هذه التطورات المتسارعة بؤساً سكت الجنديان، ربما بسبب شدة الصدمة التي لم تكن في الحسبان، أو نتيجة الشعور بالحرج من تلقيهم المساعدة عطفاً من مساعد حسين كامل وهم في هذه الحال، ولربما قالا لبعضهما أن تقديم المساعدة لهم جاء لأغراض التغطية على أصل الهوية، وهم على هذا في حل عن تبعاتها. الله أعلم فالقول مباح في ظروف الشدة، وتغييره وارد في مثل هكذا مواقف، بل وفي أسهل منها يجري التغيير.
تمتمت أُم شيماء بكلام يكاد لا يسمع، فهمت منه فقط " قومٌ كم يستسهلون فعل التغيير".
ظهرت المسافة الى الحسينية قريبة، وبان الوصول اليها دافعاً لإيقاف التشعب في القول، وبانت الزفة وسط ضجيج المشهد فرحاً، فرصة ملائمة استغلها الجنديان للتسلل هرباً من المكان، ذهبا بعيداً دون أن يسأل أحد عن وجودهما مثل فص ملح ذاب، كما قالت ام شيماء بعد فشل محاولتها الاستجارة بهما شهود عيان من أهل المنطقة على النوايا السليمة للمجيء، وأكدت أن الملح في الطعام الذي التهماه بسرعة لم يغزر بهما.
يتبع.....
722 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع