باموك:أبطالي هم فيرجينيا وولف ووليم فولكنر وبروست ونابوكوف
ترجمة: لطفية الدليمي
القسم الأول
لا يزال ( أورهان باموق ) يعيش في مدينة إسطنبول التي ولد فيها عام 1952 لأسرة جنت ثروة من بناء السكك الحديدية في حقبة الجمهورية الأتاتوركية . انضم باموك إلى كلية روبرت العريقة حيث اعتاد أطفال الأقلية الإسطنبولية الثرية على تلقي تعليم علماني على النمط الغربي المعهود وأظهر منذ صباه شغفا ملحوظا بالفنون الجميلة ،لكن بعد أن التحق بالكلية لدراسة العمارة قرر الكتابة ، ويعد اليوم الكاتب التركي الأكثر مقروئية في تركيا . نشرت روايته الأولى ( جودت بك و أبناؤه ) عام 1982 ثم أعقبها ( المنزل الصامت) عام 1983 و ( القلعة البيضاء ) عام 1985 ثم ( الكتاب الأسود ) عام 1990 و ( الحياة الجديدة ) عام 1994 . حصل باموق على جائزة IMPAC الأدبية الدبلنية - المرموقة عام 2003 عن روايته ( اسمي أحمر ) المنشورة عام 1998 التي تحكي عن قصة غموض يلف جريمة قتل تروى بشخصيات متعددة و حصلت وقائعها في إسطنبول القرن السادس عشر ، و تستكشف الرواية الثيمة الأثيرة بين ثيمات باموك المنثورة في كتبه : التعقيدات المصاحبة للهوية في بلد ينتمي إلى الشرق والغرب في ذات الوقت والتنافس بين الأقارب و قيمة الجمال و الأصالة و القلق المصاحب للمؤثرات الثقافية ، ثم جاءت رواية ( ثلج ) المنشورة عام 2002 لتعالج موضوعة الراديكالية السياسية والدينية لتكون الرواية الأولى لـ( باموك ) في مواجهة التطرف في تركيا المعاصرة . يحكي كتاب ( إسطنبول : المذكرات و المدينة Istanbul :The Memories and the City ) المنشور عام 2003 عن صورة ثنائية لشخصية في طوري الطفولة و الشباب جنبا إلى جنب مع الخلفية الإسطنبولية التي عاشت هذه الشخصية وسطها .
أجري هذا الحوار مع باموق على جلستين متصلتين في لندن وتواصل لاحقا عبر المراسلات . تم الحوار الأول في الشهر الخامس من 2004 بالتزامن مع نشر الترجمة الإنكليزية لرواية ( ثلج ) . فقد هُيـئَت غرفة خاصة في سرداب فندق لندني مضاءة بأنابيب الفلورسنت و تعج بالضوضاء الصادرة عن أجهزة التكييف الخاصة بالفندق . حضر باموق اللقاء مرتديا جاكيتة قصيرة ضيقة من المخمل المضلع سوداء اللون فوق قميص خفيف الزرقة مع بنطلون فضفاض داكن اللون ،وكان تعليقه الأول على المكان " يمكن جدا أن نموت بصمت هنا و لن يكون بمقدور أحد أن يجدنا " . انزوينا في ركن هادئ على درجة معقولة من الأناقة في ذلك المكان و تحاورنا لثلاث ساعات متواصلة لم نتوقف خلالها إلا لتناول القهوة مع سندويتشات دجاج.
عاد باموق إلى لندن عام 2005 لنشر كتابه ( إسطنبول : المذكرات والمدينة ) و استطعنا الالتقاء في ذات المكان من الفندق ثانية و تحدثنا لساعتين كاملتين .
الحوار
* كيف ترى مسألة إجراء حوارات معك؟
-: أشعر أحيانا بتوتر لأنني أجيب إجابات غبية عن أسئلة غير ذات هدف محدد ،حدث هذا سواء تحدثت التركية أو الانكليزية. أتكلم في العادة بتركية سيئة التركيب و بجمل ركيكة لذا صرت هدفا للهجوم في تركيا بسبب حواراتي أكثر بكثير مما أتعرض له من هجوم بسبب كتبي. المتحذلقون السياسيون المحبون للجدل و كتّاب الأعمدة هناك لا يقرؤون الروايات.
* لقيت كتبك استجابة طيبة في أوروبا و الولايات المتحدة . كيف تصف قبولك في تركيا ؟
- انتهت السنوات الاولى الطيبة الآن . عندما كنت أنشر كتبي الأولى كان الجيل السابق من الكتاب يتلاشى و يبهت ،لذا تم الاحتفاء بي كثيرا ككاتب شاب واعد .
* عندما تقول " الجيل السابق من الكتاب " ، من تقصد من هؤلاء؟
- أعني الكتاب الذين يعون مسؤوليتهم الاجتماعية الذين يدركون أن الأدب يعلي من شان المثل الاخلاقية و السياسية. أرى ان معظم الكتاب كانوا واقعيين مسطحين و لم يكونوا تجريبيين حالهم في هذا حال الكثير من الكتاب في البلدان الفقيرة الذين يبعثرون مواهبهم الثمينة في الكتابة عما يتصورون أنه يخدم أوطانهم فلم أشأ أن أكون مثلهم لأنني منذ صباي المبكر أعجبت بفوكنر وفيرجينيا وولف و بروست و لم يلق النموذج الواقعي - الاجتماعي الذي مثله شتاينبك و غوركي أي هوى في نفسي . بعد منتصف التسعينات عندما بدأت مبيعات كتبي تتجاوز ما حلم به أي كاتب تركي قبلي انفرط عقد شهر العسل بيني و بين الصحافة التركية و الطبقة الثقافية التركية أيضا .ومنذ ذلك الحين كان سيل النقد الجارف هو رد الفعل المتوقع على شهرتي و مبيعات كتبي المتصاعدة حتى قبل الاطلاع على قائمة المحتويات التي تضمها تلك الكتب . أنا الآن كاتب معروف على نطاق واسع بسبب تعليقاتي السياسية المستلة من حواراتي العالمية بعد ان تجري عليها الصحف الوطنية التركية تعديلات محددة و بلا خجل يذكر بقصد أن أبدو شخصية أكثر تطرفا و حمقا سياسيا من حقيقتي
* إذاً يوجد رد فعل عدائي على شعبيتك؟
- قناعتي الحاسمة ان هذا الفعل العدائي هو عقاب لأرقام مبيعاتي الكبيرة و آرائي السياسية المعروفة لكنني لا أرغب في ترديد هذا القول دوما حتى لا أبدو في موقف المتحفز للدفاع عن نفسه و ربما أسأت قراءة المشهد كاملا .
* أين تكتب ؟
- لطالما كانت لدي قناعة راسخة أن المكان الذي تنام فيه أو الذي تتشارك فيه مع رفيق حياتك ينبغي أن يكون معزولا عن المكان الذي اعتدت الكتابة فيه لأن الانشغالات و التفاصيل المنزلية غالبا ما تكون قاتلة للخيال : إنها تقتل الشيطان المبدع الكامن في داخلك . الانشغالات المنزلية تدجن الكاتب و تجعل من عالم آخر يبتدعه الخيال مسألة تخفت حتى تذوي منطفئة بعد حين ، لذا كان لدي دوما مكان للكتابة خارج المنزل الذي أقيم فيه في العادة ، دعني أروي لك هذه الحكاية : حصل مرة أنني كنت أقضي فصلا دراسيا مع زوجتي السابقة في الولايات المتحدة التي كانت تحضر لنيل شهادة الدكتوراه PH.D في جامعة كولومبيا العريقة و كنا نعيش معا في واحدة من الشقق المخصصة للطلبة المتزوجين و لم يكن متاحا لي مكان منفصل للكتابة فكان علي أن أنام و آكل و أكتب في ذات المكان . كان كل شيء يذكرني بالتفاصيل المنزلية الى حد أقلقني و أفسد مزاجي الكتابي ،لذا ابتكرت حيلة صغيرة : كنت كل صباح أغادر الشقة و أودع زوجتي كمن يذهب الى العمل ثم بعد عدة جولات مشيا على الأقدام أعود الى الشقة و كأني أدخل مكتبي المعد للكتابة . عثرت قبل عشر سنوات على شقة جميلة تطل على البوسفور و تمنح المرء إطلالة رائعة على مدينة اسطنبول القديمة وربما كان لها أفضل إطلالة على اسطنبول بأكملها و هي تبعد نحو خمس و عشرين دقيقة مشيا على الاقدام عن منزلي حيث أقيم و تمتلئ بالكتب و تطل منضدتي الكتابية فيها على أفق اسطنبول الساحر . أمضي في المعدل عشر ساعات يوميا في الكتابة في هذه الشقة .
*عشر ساعات في اليوم ؟!!!
- نعم ، فأنا مثابر للغاية و أحب عملي جدا . يقول الناس عني بأني جامح الطموح و ربما كان شيء من الحقيقة في هذا القول ،لكنني أعشق ما أفعل ،أبتهج كثيرا بالجلوس إلى منضدتي و الشروع في الكتابة مثلما يبتهج طفل بلعبته إنه عمل جاد بالأساس لكنه متعة وألعاب مسلية أيضا .
*يصف السارد في روايتك ( ثلج ) نفسه كموظف يبتدئ عمله في ذات الساعة كل يوم . هل تملك ذات الانضباط و الصرامة في الكتابة ؟
- كنت أشير في هذه النقطة التي ذكرتها إلى الطبيعة الصارمة والمنضبطة التي يملكها الروائي التي تشبه طبيعة الموظفين المسلكيين شديدي الانضباط في مقابل الطبيعة الرخوة لدى الشاعرالتي لها تقاليد تبجيل واسعة في تركيا ، أن تصبح شاعرا في تركيا يعني انك ستصبح شخصا معروفا و محترما لأن معظم السلاطين العثمانيين و رجالات الدولة معهم كانوا شعراء و لكن ليس بالطريقة التي نرى عليها الشعراء اليوم . ظل السعي لأن تكون شاعرا في تركيا و لمئات من السنوات وسيلة لإثبات كونك مثقفا و كان هؤلاء الشعراء يجمعون شعرهم في مخطوطاتهم تدعى ( دواوين ) ،وقد أنتج قرابة نصف رجالات الامبراطورية العثمانية دواوينهم الخاصة بهم . كانت تلك طريقة غاية في التعقيد و مهذبة في الكتابة عن الأشياء بكثير من القواعد و الشعائر و تعج بالتقليدية و التكرار لكن الحالة تغيرت بعد أن تغلغلت القيم الغربية في المجتمع التركي حيث تمازجت هذه التركة مع الفكرة الحديثة و الرومانسية التي ترى في الشاعر شخصا يحترق في طلب الحقيقة و هو ما جلب وزنا إضافيا إلى ( بريستيج ) الشاعر.على نقيض هذه الصورة عن الشاعر فإن الروائي هو أصلا و بطريقة أساسية جدا شخص يقطع المسافات الشاسعة بصبر وتأن ٍ مثل نملة تدب دبيبا على الارض ،لذا فهو يعبر عنـّا ليس عبر رؤيته الرومانتيكية و شيطانه الشعري بل عبر عمله الصبور فحسب .
*..هل ترى أن الكتابة النثرية أصبحت أكثر يسرا و طواعية لك مع مرور الوقت ؟
- للأسف كلا ، أشعر أحيانا بأنني ينبغي أن أحشر الشخصيات في مواضع لا أعرف كيف أحشرها فيها . قد أكون امتلكت ثقة أعلى بالنفس مع الوقت و لكن هذا الشعور قد يصيبك بغاية الخذلان أحيانا لأنك عندما تكتب مع ثقة جارفة بالنفس فإنك حينها لا تجرب شيئا جديدا بل تكتب كل ما يرد على رأس قلمك و حسب . منذ ثلاثين سنة و أنا أكتب الرواية و أظن انني قد تحسنت بقدر ما و مع ذلك قد أنتهي احيانا نهايات مريرة حيث أعيا عن إيجاد مكان مناسب لأضع شخصياتي . تذكر أن هذا يحصل بعد ثلاثين سنة من خبرة الكتابة شبه اليومية .إن تقسيم الكتاب إلى فصول مسألة في غاية الأهمية لطريقتي في الكتابة ،عندما أشرع في كتابة رواية و أنا أعرف مقدما القصة الكاملة -و يحصل هذا الأمر غالبا - فإنني أقسم الكتاب الى فصول و أفكر فيما عسى أن يحصل من تفاصيل في كل فصل و ليس من الضروري أن أبدأ بكتابة الفصل الأول ثم تليه الفصول الأخرى حسب الترتيب و إذا ما حدث و تعثرت في أحد الفصول - و هو ليس بالأمر المحزن لي أبدا – فإنني أباشر العمل بكل ما يبدد حيرتي . يحصل أحيانا ان أبدأ بكتابة الفصول الخمسة الأولى من كتاب ما و إذا وجدت نفسي غير مستمتع إلى حد كافٍ فقد أقفز إلى الفصل الخامس عشر و أبدأ الكتابة من هناك.
861 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع