وتبقى الكلمة.......

 


              وتبقى الكلمة....(2)

تقديم/ د. حياة جاسم محمد
هذه مجموعة أخرى من قصائد زوجي، الدكتور زكي الجابر، توافي القرّاء بعد رحيله، وهي تتوزّع بين العراقيات وقصائد الحب.

كانت عراقيات زكي في القسم الأول، المنشورة في هذا الموقع في 14-1-2014، قصائد طويلة تعبّر عن التجربة تفصيلاً في متواليات من الصور المادية والشعورية، لتثير في القارئ، اتفاقاً أو اختلافاً، ما اصطخبت به نفس الشاعر حين كتبها. أما في هذا القسم، الثاني، فهناك عراقياته الطويلة وعراقيات أخرى قصيرة لم يُنشر أي منها في القسم الأول.
تعبّر العراقيات القصيرة عن التجربة في صورٍ قليلة بالغة الكثافة والتركيز، لكنّها كافية لتثير في القارئ الكثير من الأفكار والمشاعر، وإن تكن تتطلّب منه جهداً وتركيزاً أكثر لاقتناص ما توحي به هذه الصور، فقد لا تتجاوز القصيدة أحياناً بيتين أو ثلاثة. وفي هذه القصائد  إشارات إلى وضعيات تاريخية قديمة، لكنّها صالحة للتعبير عن وضعيات حاضرة في واقع العراق، عراق اليوم، كما في العراقية المرقمة (2).
إن تسمية هذه القصائد، طويلة أو قصيرة، ’’العراقيات‘‘ لا تعني، ضرورة، أن يرد فيها اسم العراق أو أن تعبّر مباشرة عن وضعيات عراقية، ماضياً أو حاضراً، بل يمكن أن تكون صوراً عامة تُستخلص منها وضعية عراقية راهنة، ويصدق ذلك على العراقية القصيرةالمرقمة (4).
أما قصائد الحب فمكرّسة لاستكشاف العلاقة الإنسانية الخالدة بين المرأة والرجل، وهي علاقة، كما أشرتُ إليه في القسم الأول، يتكامل فيها الجسد والروح والفكر في كلٍ رحب الآفاق، غنّي بالرؤى والتوقّعات.
سيوافي القرّاء، مستقبلاً، مزيد من قصائد زكي، مؤملة أن تجمّع هذه القصائد مع قصائد أخرى سبق نشرها في حياته لتكوّن ديوانه الثالث بعد ديوانيه، الأول المعنون ’’الوقوف في المحطات التي فارقها القطار‘‘ (بغداد: وزارة الإعلام - مديرية الثقافة العامة، 1972)، والثاني المعنون ’’أعرف البصرة في ثوب المطر‘‘ (بغداد: دار الشؤون الثقافية العامة - وزارة الثقافة والإعلام، 1986). ولن أكون في حاجة إلى المزيد من التقديم، وإنما سأترك لكلمات زكي أن تتواصل مع القرّاء بعد رحيله، والكلمة هي، دوماً، الأخلد.

عراقيات

وكان هو الصوت...


(1)
كانت صلواته خيوطاً من الضوء
تمتدُّ بين الأرض والسماء
على ارتجافاتها تتكسّر آهات المعذبين
وآلام الجرحى
ونداءات المظلومين!
وكان صمته العاصفة
تئزّ بها الموجة الهادرة
وتنثال همساً إلى الغابة السادرة!
وكانَ هو الصوت
صوت من لا صوتَ له!
وكانت دموع اليقين تشفُّ على مقلتيه
تشعّان عطفاً على قاتله
القاتل الذي يدري أن هذا القتيل
سيغفرُ له
سيمرُّ بكفّيهِ على رأسه
قائلاً: ’’يا بُنيَّ، إنك لا تدري ما تصنع!‘‘
كان ينتزع الدمَ من فم الذئب
ويقتلعُ اللقمة المحرّمة من بين أنيابه!
 
(2)
بماءِ دجلةَ غسلَ القاتل كفّيه
فارتسمت على لُجّةِ الماءِ بُقعة الأُرجوان
وها هي تتسعُ كلما ارتطمت بها المويجات
وبأيِّ قناعٍ يغطّي القاتل وجهه
ومن خلفِ ألفِ قناعٍ
تطلُّ علينا خفايا الجريمة؟!
هي عار الأبد
واللعنةُ التي لا تزول!


(3)
بسماحة الكلدانيّ
يغسل المطر أدران الأرض
وبطيبة المتعبد
تنشر الشمسُ الضوء والدفء
وبنقاء الخاشع
ينثر القمر حبّات النور على أغصانِ الشجر


(4)
المطران ’’بولص فرج رحّو‘‘*
ما زال هناك في كنيسته
القدّاس
والمصلّون
والتراتيل
والطريق إلى الجلجلة
هو ذات الطريق
لمن شاء أن يرتقي
إلى اللانهاية...!

* اختُطف المطران في أواخر شباط، ووجدت جثته في أوائل آذار من عام 2008.


’’هاي‘‘* Hi
هاي أيها ’’اليانكي‘‘*
لقد عدتَ إلى وطنكَ
فاهتصر تحت أضواء رصيف الميناء
خصر زوجتك وقبّلها بقوة
قدّم لها هداياك
’’مهفّة‘‘ عراقية مطرّزة
وعباءة ’’مبرد‘‘
وجرّة فخار جنوبية
إذرف على وجنتي طفلتك دموع الشوق
ها هي تهرع إليك: ’’هاي دادي‘‘*
أنت بعيد عنها تسعة أشهر
تسع سنين من الغبار والطين والقيظ
طاردتَ فيها شبح ضابط
اختفى كالضبّ في غار الرمال
وقتلتَ، ربّما خطأً،
طفلتين
وأرملةً
وشيخاً يماثل بعقاله هندياً أحمر!
وجندياً، قد يكون والوشم على يده،
مكسيكياً غشاه البرونز!
هاي، أيها اليانكي
غداً أو بعد غد
تداعب الريح على صدرك
شارة الشرف
ونيشان البطولة!
* هاي (Hi): تحية الأمريكيين لبعضهم. اليانكي (yankee): الأمريكي. ’’دادي‘‘ (Daddy): نداء الأطفال الأمريكيين آباءهم.

أوان الرحيل
ليلةً تحت سماء البصرة
كان الهواء يرتشف الرطوبة
والنجوم لامعة كعيون نساء المدينة
القمر الجنوبي ينثر حبات الضوء بهدوء
لينام النهار ملتفّاً بعباءة الليل
والسعلاة العجوز على ظهر سعفتها
تمرّ مسرعة
تنعق الطِيطَوى*
تنثر النسوة ماء الجرار على مسار القمر
وأنا إلى سريريَ مشدود بالبكاء:
"أيتها السعلاة، خذيني إلى سعفتك
آن وقت الرحيل.‘‘
* نوع من الطيور

عبقري من البصرة
يُقال إن رجلاً من الفراهيد*
سكن البصرة
معتزلاً في خربته
قوت يومه كسرة خبز
يغمسها في ماء الباقلاء!
حين مات لم يجد الناس في زاويته
أثراً لكسرة خبز
أو ماء باقلاء
ولكنهم وجدوا قاموساً
ضمّ مفردات العرب
وميزاناً
في كفته اليسرى الشعر
وفي اليمنى كلّ بحار العالم!
* الخليل بن أحمد الفراهيدي، مؤلف معجم العين ومؤسس علم العروض، وفيه بحور الشعر العربي.

(1)
إغفاءة
استلقى على كرسيّ استراحته
يتابع أخبار التلفزيون
أخذته إغفاءة قصيرة
سقطت خلالها بغداد!

(2)
لعلّ
قال طفل عراقي  جائع:
’’يا أمي، إطبخي الحجرْ
لعلّ الخلبفة يطرق الباب!‘‘

(3)
حديقة الإنسان
وراء السور الأخضر
تربض حديقة الإنسان
وفي أقفاصها
أنماط من سلالات البشر
لن تزورها إلا إذا كنتَ قرداً،
أو بإذن خاص!


(4)
القردة
تموت الأشجار واقفة
وتظلّ القردة ترقص
على أغصانها اليابسة!

(5)
الحرامي
في دجلة امتزج الدم والماء
وفي جرار ’’كهرمانة‘‘*
امتزج الخلّ والزيت
فرّ الحرامي الواحد والأربعون
وصار قاضي القضاة
في بغداد!
* من حكايات ألف ليلة وليلة، استلهمها النحات العراقي الراحل محمد عبد الغني حكمت في إحدى منحوتاته التي تزيّن بغداد.

(6)
المزاد
في مزاد بغداد السرّي
بيع الفرات ودجلة
وشريعة حمورابي
بمليون دينار!

(7)
الحارس
قبل أن يسرقوا الخراف
أشبعوا الكلب!


قصائد للحبّ

لم يبقَ غير الحبّ
لم يبقَ غير الحبّ يا حبيبتي
وتلتقي النجمة والسهر
صديقنا القمر!
في ليلة طويلة
وأنتِ تضحكين
أيتها الجميلة!
ويضحك الوطن!
حبيبتي كان لنا وطن
وفوق كلّ نخلةٍ هلال!
وعند كلّ سنبلة
ساقية ترتشف الفرات
وفوق كلّ زهرة
فراشةٌ
فراشة ندية
مثلك يا صغيرتي الفضية!
وتحت كل معطفٍ كتابْ
وشاعر يعذّب العذاب!
حبيبتي، أضاعنا الوطنْ
وضاعْ
في ليلةٍ خضّبت النجوم بالدماء
واختنق البكاء بالبكاء
واحترق القمرْ
صديقنا القمر!

**********
لم يبقَ غير الحبّ يا حبيبتي
يا أنتِ، يا تموّج الغناء
ويا تكسّر الضياء في الضياءْ
يا أنتِ!
يا دجلةُ، يا فراتُ، يا نخيلْ
يا أيّها الهوى
يا صانع المستحيلْ

**********
لم يبقَ غير الحبّ يا حبيبتي
ها إننا نحتضن الشتاءْ
وليلنا ضياءْ
وفوق كلّ نافذة
غلالة
خضراء كالأملْ
بيضاء كالنقاءْ
حمراء كالخجلْ
وثمّ غيمة تطردها الرياح
فترتمي على ذوائب الشجر
وذوّبت خيوطها مطر!
ورفّ نورس
وارتعشت حمامة
وحنّ في ضلوعنا الحنين
للحنين
في نظرة العينينْ
في لمسة الكفّينْ
وهمسةٌ هنا، وهمسةٌ هناكْ
ويولد العراق!
حبيبتي، ما أروع العناق!
 1995

عند شرفة القمر

(1)
لعينيكِ كان الشمالْ
يغنّي القصائدْ
وقد هزّني الشوق في ذات يوم
فكنتُ الشمالْ
وكنتِ القصائدْ!


(2)
كتبنا على دفتر الشوق
بعض الكلامْ
ونمنا
وحين صحونا
وجدنا جواز السفر
على باقة الياسمين
وشعراً
يزيّن صدر البطاقة
وكأساً
وعبر السنين الطويلة
ننام، ونصحو
فنلقى جواز السفر
على باقة الياسمين
وشعراً
يزيّن صدر البطاقة
وكأساً
وبعض الحقائب!

(3)
كنتُ وحيداً عند شرفة القمرْ
ارتشف القهوة
باردة باردة
حتى جلستِ جانبي
فصارت القهوة
ساخنة ساخنة!
وكلما تنضب في أكوابنا القهوة
أترعها القمر
ساخنة ساخنة!

(4)
أوصدنا الباب الغربيّ
والنافذة الشرقية
وبقينا في ذات الغرفة
وعلى مائدة ناصلة الألوان
خبز، وقليل من جبنٍ
وفوق سريرٍ ضيّق
كثير جدّاً
من حبِّ!

(5)
حين يعلو الغبار
فيملأ صدري
ويحجب عن مقلتيّ الطريق
وأسمع صوتاً
فأغمض عيني!
وحين أعيد النظر
أرى ساطعاً
في ثنايا الغبار
ضياء القمرْ
وأهمس شعراً
وتلمس كفاي
وجه القمرْ!
 1998


عالَمان
كان العالم صغيراً جداً
والنجوم أقل عدداً، ولكنها أكثر التماعاً
حين حملنا كسراتِ خبزٍ وآلاف القبلات
وعبرنا ’’الباب الضيّق‘‘
وانتقلت بنا الخطى عبر الأوحال والعواصف
حين انفتحت بوابات الدنيا السبع
كان العالم كبيراً جداً
والنجوم أكثر عدداً، ولكنها خافتة!
البحر ينتهي إلى بحار
والمطار إلى مطارات
والدرب ينشق إلى دروب
ورمال الصحراء تغوص في فيافٍ واسعة
نظرنا إلى بعضنا
شفاهنا جافة
وعيوننا غائرة
أمسكتُ يديك، والدموع تذوب ملحاً على شفتيّ
قلتُ: ’’لماذا لا نقف؟
لقد تعبنا حتى العياء!‘‘
قلتِ: ’’كلا، لِنسرْ
ثمة باب ضيّق آخر
يحملنا إلى عالمٍ أصغر
فيه قلة من النجوم، ولكنها تلتمع بوهجٍ غريب!‘‘
**********
كانت شفتاك رطبتين
وقبّلتُكِ!
 2005


الشجرة ما زالت وارفة
(1)
الشمس
والضحى يمسح خد بغداد
بالدفء والقبل الناعمة
وأنتِ تشدّين معطف الشتاء
على خصرك الأهيف
ولكن إذا انتصف منتصف الليل
ولسع البرد جرار ’’كهرمانة‘‘
تشتعل الغرفة حباً
وفي الركن سرير ضيّق!

(2)
كثيرة هي الأقداح التي ارتشفتُ منها النبيذ
حتى ارتويت!
ولكن وأنتِ أمامي
سيظلّ العطش يحترق
في شفتيّ
وشفتيكِ!

(3)
الشجرة ما زالت وارفة
وإن دبّ الذبول في فروعها
وارتجفت الصفرة على وريقاتها
ولكن الجذع ما زال مكيناً
راسخ الجذور في أعماق الأرض
والشجرة تنظر إلى الأعالي
ضاحكة للشمس

(4)
الهواء الشرقي يزحف كالبطء
بطيئاً، يضيق به النفس
الأصابع تخدّرها الرطوبة
بين حين وحين
يهبّ النسيم رخياً
أتدرين كيف يسكن الفرح العظيم
في الحزن العظيم!

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

774 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع