الاحتفال بمئوية شيخ العراقيين محمد مكية

   

إبراهيم الحيدري:اعتدنا نحن العرب تكريم العلماء والمفكرين بعد وفاتهم والأجدر أن نحتفل بهم ونكرّمهم في حياتهم.

والمعماري الفنان الدكتور محمد مكية (بغداد 1914)غني عن التعريف. إنه قامة شامخة قدّمت للعرب والعراقيين كثيرا من المآثر والخدمات والإنجازات المعمارية والثقافية، وخاصة ديوان الكوفة بلندن، الذي جمع شمل العراقيين المتعدد والمتنوع والمختلف في "بيت عراقي" جعل لهم منه وطنا ثانيا في المهجر.تعرفت على أستاذنا مكية عام 1995 في لندن. وكان قد دعاني إلى إلقاء محاضرة في أربعاء ديوان الكوفة. وأجبت الدعوة. وقد شارك مكية في المناقشة التي أعقبت المحاضرة وقدّم ملاحظات نقدية قيمة كانت إضافة فكرية مثيرة جعلتني أكتسب ثقته وأكون قريبا منه.
مكية فنان تشكيلي قبل أن يكون معماريا ينظر إلى الفن برؤية كلية غير مجزءة، تنطلق من نظرة اجتماعية جدلية للمعرفة والفن والعمارة، لأنه لا يفصل بين النظرية وبين الممارسة العملية، ولهذا نراه يربط العمارة – الفن بالواقع المعاش وبالمكان والزمان، في محاولة للموازنة بينهما، وبخاصة في العلاقة مع التطور العلمي-التقني المتسارع الذي يشهده العالم، الذي يطرح مشكلة الهوية والانتماء الزماني والمكاني، الذي أفرز صراعا اجتماعيا وحضاريا بين القديم والجديد وبين التراث والمعاصرة.
 يردد مكية دوما: "الجغرافيا تصنع التاريخ"، وربما هي التاريخ نفسه، وأن التقييم المعماري لا يقدم كتاريخ بقدر ما هو تعامل مع الآخر وتوافق مع المسرح الجغرافي. ومع أن هذه المقولة تعبر عن حتمية جغرافية، وقد لا يوجد اتفاق حولها، إلا إن التراث الفني التشكيلي والمعماري في العراق على وجه الخصوص يجد صدقية فيها. ففي العراق ثالوث جغرافي، كما يقول مكية، صنع تواريخ مختلفة، ولكن كل منها يكمل الآخر ويغنيه. فالسهل الجنوبي تاريخ حضارة سومر وأكد وبابل ومهد أقدم الحضارات، والوسط تاريخ حضارة عربية إسلامية مزدهرة، وكذلك مرتفعات الشمال، حضارة الكرد والآشوريين، كل منهم يكمل الآخر ويتواصل معه، منذ فجر التاريخ الحضاري.
والعمارة عند مكية، هي أم الفنون، لأنها عمران حضاري وإبداع إنساني في الزمان والمكان. وإن وفاء مكية للجغرافيا ينطلق من وحدة التنوع وعدم فرض هوية واحدة، لأن لكل هوية خصوصيتها، وهي في الأخير وسيلة وليست غاية بحد ذاتها، وهذه إذن فلسفة مكية الأنثروبولوجية.
خلال وجودي في لندن أصبحت قريبا من مكية في كثير من أفكاره وتطلّعاته وكنت أزوره وأتحدث معه وأحاوره وأستمتع بآرائه النقدية. كما أجريت معه حوارات وقمت بتسجيل حوار مطول معه حول ذكرياته في بغداد وحول جامعة الكوفة وحول محنة العراق والعراقيين وكذلك حول الفن والمجتمع وسوسيولوجية العمارة الإسلامية ومدى توافقها مع تعاليم الإسلام وروحه، في محاولة لتحديد مفهوم " فقه العمارة الإسلامية " وغيرها من المواضيع. هذه العلاقة الحميمة جعلتني تلميذا من تلامذته. وبالرغم من مشاغله وكبر سنه فقد قدم لي ملاحظات منهجية وإضافات معرفية، هي دليل على عمق خبراته واتساع تجاربه التي تعدت الفنون التشكيلية والعمران البشري إلى شتى حقول المعرفة الأخرى.
والواقع، يجب الاعتراف بما قدمه مكية وما يزال لوطنه، وبخاصة " ديوان الكوفة " الذي لا يمكن فصله عن محمد مكية. ولولا جهوده لما كان هناك ديوان الكوفة - بوابة عشتار في لندن، التي أصبحت جسرا للتفاهم والحوار، ومحطة للألفة والمحبة ومركزا ثقافيا وحضاريا هاما للجالية العربية وحلقة وصل بينهم وبين الوسط الثقافي البريطاني.

  


جمع ديوان الكوفة كل العراقيين ومن كل الاتجاهات، وقدّم نشاطات وفعاليات ثقافية وفنية متنوعة لم تستطع أية مؤسسة ثقافية عراقية أو عربية القيام بها. ويعود الفضل في ذلك إلى شخصية مكية وفكره المنفتح وديمقراطيته، منطلقا من مبدأ أنثروبولوجي يؤمن به ويمارسه. وهو "التعرف على الذات قبل الدفاع عنها". وهو ما يميزه عن الآخرين الذين يجلسون في أبراجهم العاجية والمتقوقعين على ذواتهم في تضخمها وسلبيتها ونرجسيتها.
كان مكية يحلم بتأسيس " أكاديمية عراقية " تلم شتات العلماء والمفكرين والمبدعين ويجمعهم في مجمع علمي يليق بتاريخ العراق وحضارته وتراثه وإبداعات علمائه وكتّابه وفنانيه، ولكن محنة العراقيين هي في تشتتهم وعدم وعيهم الكافي بتمزقهم، وإن الوعي بواقعهم هو أساس التغير والتغيير، وهو هدفُ إذا اقتربنا منه نستطيع أن نخطو خطوة إلى الأمام.
وبالنسبة للحداثة، فان مكية يعتقد بأن نظرة الشرق إلى الحداثة هي نظرة أحادية الجانب ومحدودة وضيقة، وأن تأثيرها الخارجي كان وما يزال الأكثر تأثيرا. فمنذ الاتصال الحضاري مع الغرب في بداية القرن الماضي اندفع البعض نحوها برغم التخلف الاجتماعي والاقتصادي وأصبحت نظرته إلى التراث رجعية وإلى الجديد تقدمية، وهو ما دفع بأغلبية المعماريين إلى الاستهتار ببيئة المدينة العربية -الإسلامية وبأسواقها وميادينها وآثارها، وهو ما سبّب مشاكل عديدة من أهمها قتل روح المدينة وأصالتها وحيويتها والتعامل مع العمران البشري بشكل جامد وجمالية ساذجة. وعلى سبيل المثال نجد أن مدينة بغداد أخذت تفقد بالتدريج طابعها ورونقها وجمالها وأصالتها، وكذلك المدن العربية والإسلامية الأخرى، مثل صنعاء ومكة وغيرها.
 يقول مكية، بأن المدينة العربية القديمة قامت على تقسيم واقعي للعلاقات الاجتماعية التي تأسست على عقيدة دينية وقيم اجتماعية وكذلك على تكامل اجتماعي. أما المدن العربية الحديثة فهي اليوم مدن أخطبوط وفوضى، إنها مجرد أبنية متصاعدة عاموديا ليس فيها حياة ولا جمال. وإذا فقدت هذه المدن هويتها وجماليتها فإن المشكلة تبقى أعمق من ذلك بكثير، بسبب الهجرة والنزوح الريفي وامتداد المدن إلى خارج حدودها وكذلك تبعيتها الفنية والتكنولوجية، إضافة إلى أنظمة الحكم الاستبدادية المتخلفة التي لا تعي ما يجري من تشويه وتدمير للبيئة. والواقع، فإن العمارة الحديثة في المدن العربية والإسلامية تخلق أجواء غير شخصية وعلاقات اجتماعية غير حميمة، ولهذا نجدها لا تعكس منظومة القيم الاجتماعية التي كانت تسود المدن العربية القديمة. وبسبب تمزق المدن العربية الحديثة وفقدانها هويتها وجماليتها اندفع مكية إلى استكشاف التراث العربي -الإسلامي واستلهام قيمه الروحية والجمالية وليس تقليده، ومن ثم تطويره لما فيه الأفضل والأجمل، وذلك عن طريق المزج الواعي بين فن العمارة الإسلامي وبين فنون العمارة الغربية الحديثة وتكنولوجيتها المتقدمة، وهو ما دعاه أيضا إلى ضرورة العودة إلى التراث والانطلاق منه لبناء عمارة جديدة تستمد قيمها من البيئة والثقافة والعلاقات الاجتماعية وكذلك من الحداثة.
هذه بعض الأفكار التي وجهها مكية إلى فن العمارة في الشرق الأوسط الذي أساء فهم الحداثة، كما مارسها عدد من المعماريين ، داعيا إلى تشكيل عمارة ذات شخصية مستقبلية تمزج التراث بروح الحداثة وليس بأشكالها الخارجية وتتعامل مع الجغرافيا والبيئة والمحيط الاجتماعي تعاملا جدليا. وقد عبرت أغلب الأعمال والمشاريع الفنية والمعمارية لمكية، إذا كانت في العراق أو في الدول العربية والإسلامية، عن هذا المزج الواعي الذي يحقق قيما إنسانية عالية يمكن أن يتعامل معها الإنسان مثلما يتعامل مع الجغرافيا وخصوصية المدينة الشرقية وطابعها الجمالي. ومن هنا فإن مكية، لا يتعامل مع العمران البشري كأشكال مسطّحة وهياكل جامدة ذات جمالية ساذجة فحسب، بل ينطلق من استيعاب شامل له، وفي مقدمته المضمون الاجتماعي والخلفية الحضارية والعلاقة التي تربط بين الداخل والخارج، وربطها بالعلاقات الاجتماعية. إن هذا النوع من التعامل السوسيولوجي مع العمارة يضع مقياسا إنسانيا جديدا لا يقوم على نظرة منطقية جامدة، كما في المعادلة الرياضية: واحد + واحد = اثنان، وإنما ينظر إلى وحدة الأشياء والأضداد، وتصبح المعادلة: واحد + واحد = واحد، بلغة التوحيد. هذه المعادلة الصعبة تجعل الإنسان لا يقلد الآخر وإنما ينافسه. وبهذا الطريق فقط يستطيع الإنسان أن يبدع نوعية أخرى أكثر أصالة، فالمنافسة مصدر الإبداع والآصال نوعيته.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1335 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع