ليلة اعتقال عبد الجبار فهمي مدير شرطة بغداد
في بستان كبير يطل على "نهر دجلة" الى الجنوب من نهر"ديالى" في منطقة "التويثة" يمتاز بلطف هوائه وحسن اجوائه اضافة الى ابتعاده عن الجلبة والضوضاء..
وقد قيض لهذا البستان ان يكون موئلاً لاستقبال كبار المسؤولين وغير المسؤولين ووجهاء بغداد وحتى اصدقاء العائلة صاحبة البستان الذين يؤمون العاصمة لاشغال تجارية وغيرها. واعتاد هؤلاء القوم على تمضية سويعات المساء للترويح عن النفس والاستراحة من عناء النهار وتبادل الاحاديث التي تهمهم.
أمر الوزير
وفي تلك الايام ازدادت حركات التسلل الى "العراق" من "ايران" خاصة من منطقتي" بدرة" و "زرباطية" ولهذا الغرض تقرر وضع مراكز الشرطة في حالة انذار تحسباً لما قد تتطور اليه الامور وللحيلولة دون المزيد من هذا النوع من العمليات.
وعلى الرغم من ان "عبد الجبار فهمي*" مدير شرطة لواء بغداد، كما كان يعرف انذاك، كان مهتماً بالموضوع بحكم اعمال وظيفته
الا ان "صالح جبر" وزير الداخلية في حكومة "توفيق السويدي" التي كانت تالفت اوائل عام 1950 طلب منه الاشراف شخصياً على حركة المراقبة.
اين المفوض؟
ونظراً الى ان "فهمي" كان من عداد المسؤولين الذين اعتادوا على زيارة البستان من وقت لاخر،فيبدو انه اثر القيام بجولة تفتيش لمراكز شرطة "ديالى" بسيارته الخاصة ومثل هذه الزيارة في حينها تعني الكثير وخاصة ان يقوم فيها شخص مثل عبد الجبار فهمي والمعروف لدى ابناء العراق وتحدث الزيارة من دون مرافق.
وفي مركز "ديالى" كان يوجد مفوض من طراز مخرم مضت عليه سنوات طويلة وهو يشغل هذا المنصب ويعرف باسم "المفوض شعبان " وهو معروف بين ابناء المسلك حتى الان. كما ان له شقيقاً اخر يدعى "المفوض رمضان" ومن الطبيعي ان الاخير كان في مكان اخر في اثناء وقوع الحادث.
اوقف "فهمي" سيارته امام مركز "ديالى" وعندما ولج باب المركز وجده شبه مهجور برغم اهميته البالغة ووجود حالة انذار بين قوات الشرطة. ويبدو ان المفوض والعريف كانا في غضون ذلك، في نادي الموظفين!
لم يكن في المخفر سوى شرطي واحد، ويبدو ان هذا ادرك من مظهر فهمي: وطريقة دخوله انه من ذوي المراكز المرموقة، فادى له التحية، فصاح به مدير الشرطة:
"اين المفوض؟ اين الافراد؟
فرد الشرطي بقوله:
"والله سيدي ما اعرف"
وبسرعة طلب " فهمي" من ذلك الشخص احضار دفتر "اليومية" او "السجل اليومي" وشرع بالكتابة بصوت عال:
1.مفوض الشرطة شعبان، توقيف بانتظار التحقيق.
2.العريف فصل لمدة شهر.
3.باقي الافراد قطع رواتب لمدة خمسة عشر يوماً .
ثم بادر الى التوقيع على الامر المدون في السجل، مع اسمه بالطبع، وغادر المركز الى البستان وسط ذعر الشرطي الذي كاد يطير صوابه!
وعاد المفوض
وما ان غادر "فهمي" المخفر، حتى خرج الشرطي المذعور الى اقرب مقهى وطلب من احد الجالسين فيه ان يتوجه الى "نادي الموظفين" لاخبار "شعبان" بضرورة عودته من فوره:
ومن الطبيعي ان اهالي "ديالى" يعرف احدهم الاخر بحكم صغر حجمها، ولهذا قام الشخص المطلوب بما اريد منه وعاد مع المفوض الى المركز وفارقه من على مسافة قريبة للعودة الى مقهاه المفضل دون ان يدري شيئاً بالطبع.
اعتقلوا فهمي!
وعندما دخل "شعبان" المركز سأل الشرطي عن السبب في استدعائه من النادي بهذه السرعة، فاخبره هذا بتفاصيل ما حدث لحظة بلحظة ثم اشار اليه بمراجعة "السجل اليومي" وكم هال المفوض ما رأى بأم عينيه من عقوبات بحقه وبحق الباقين. وهنا استشاط غضباً،وطلب من الشرطي استدعاء عريف المخفر وبقية الافراد حتى اكتمل عددهم في فترة قصيرة. وعندما اصطف هؤلاء امامه، اخبرهم بجلية ما حدث والعقوبات الموجهة تجاه كل منهم، ولكن دون ان ينبس احد منهم ببنت شفة.
وفجأة وجه المفوض الى العريف " جاسم " سؤالاً:
ـ هل تعرف عبد الجبار فهمي؟
ـ ولم لا ياسيدي؟
ـ وهل بمقدورك القاء القبض عليه وجلبه مخفوراً الى هنا؟
ـ ولكن اين هو الان؟
فقال "شعبان": انه يتسامر الان مع اقرانه في "البستان".
ترتعد منه السباع!
ـ امرك سيدي
وكان العريف " جاسم " طويل القامة، متين البنيان، له شاربان كثان يدخل الرعب حتى في قلوب السباع!
وبعد ان اصدر "شعبان " تعليماته الى العريف الا يتبادل كلمة واحدة مع " فهمي" طوال الطريق او عند عودته الى المخفر، اصطحب معه هذا شرطيين لايقلان عنه بأساً، ثم توجه بسيارة جيب مكشوفة عتيقة من مخلفات الانكليز في قاعدة "الشعيبة" حيث امرهما بالترجل عند باب البستان وان يضعا الحافظة حول ساعدي الرجل الذي سيخرج معه من الداخل دون اهتمام بما قد يصدر منه من احتجاج.
في الفخ!
دخل "جاسم" الى " البستان" وحده، وبكل هدوء توجه نحو " عبد الجبار فهمي" مباشرة، وبعد ان ادى له التحية العسكرية، همس في اذنيه بأن هناك اناساً من اقاربه بانتظاره في الخارج.
غادر المدير المكان الى الخارج، وبأسرع من لمح البصر وضع الشرطيان الحافظة حول ساعديه ودفعاه الى داخل السيارة حيث جلس احدهما الى يساره والاخر الى يمينه، وبينما عقدت الدهشة لسان "فهمي " بحيث لم يدر ما يقول ولا يعرف الى اين مصيره، انطلق "جاسم" بسرعة تسابق الريح الى حيث يوجد "شعبان" المتعطش للانتقام!
من انت؟؟
وعندما ولج " فهمي " الصالة ومعه مرافقوه، كان المفوض جالساً خلف طاولته ولم يحمل نفسه حتى مجرد عناء التحرك من كرسيه بل بادره بالسؤال فوراً:
ـ من انت؟
ـ شعبان، عجيب، الا تعرفني؟ انا عبد الجبار فهمي مدير شرطة بغداد.
وبسخرية قال المفوض:
ـ انني سمعت بهذا الاسم وهذه الرتبة ولكنني لا اعتقد انك عبد الجبار فهمي!
وهنا بلغ الحنق بعبد الجبار مبلغه فصرخ:
ـ انا عبد الجبار فهمي.. انا عبد الجبار فهمي والجميع يعرفونني.
وبكل برود رد "شعبان"
ـ من الجائز ان يكون هذا اسمك، ولكنك لست مدير شرطة بغداد.. وربما تريد التسلل الى خارج حدود العراق كما يفعل البعض من امثالك جيئة وذهاباً
ثم صاح بالعريف:
ـ ضعه في غرفة التوقيف حتى الصباح حيث ننظر في امره! اجلبوا غيره!
توسل وشروط!
وهنا ادرك "فهمي " من لهجة الرجل ان الموضوع دخل مرحلة الخطر الكبير، وان الخبر اذا ما وصل الحكومة ووزير الداخلية بالذات الذي يضمر له حبا مفقوداً، فأن مستقبله مهدد بالضياع بكل تاكيد فوجه كلامه الى "شعبان"ـ
ـ والان ماذا تريد مني؟
ـ المسألة بسيطة... هذا دفتر اليومية وفيه قائمة العقوبات التي اوقعتها بحقي وضد الاخرين. وما عليك سوى ان تدون بخط يدك قراراً بالغاء جميع هذه العقوبات وكانها لم تكن وعندئذ نطلق سراحك!
وبالفعل، والحافظتان لاتزالان تمسكان بساعديه، كتب "عبد الجبار فهمي " قراراً بالغاء امره السابق ثم بادر الى التوقيع عليه، وعندئذ فقط بادر "شعبان " بنفسه الى فك الحافظتين وبادره بالتحية العسكرية ومعه سائر افراد المركز.
وبصمت وهدوء، غادر "فهمي " المركز الى بيته هذه المرة للاستراحة من عناء الساعات الرهيبة التي لم تكن على باله مطلقاً، وقد ظل الى اخر حياته يعتبر ما حدث في ديالى من قبيل الكوابيس. ومن الطبيعي انه التزم الصمت التام خشية الفضيحة اولاً وخوفاً على مركزه الرفيع ثانياً، سيما وانه لم يلبث ان اصبح متصرفا للواء بغداد بعد ذلك بفترة قصيرة، اما اهالي "ديالى" خاصة كبار السن منهم فانهم مازالوا يتندرون بهذه الواقعة حتى الان!
1464 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع