قصتي مع المشاهير
البعض منا يعيش طوال حياته ولا يتسنى له مقابلة شخص واحد من المشاهير. لكني اعتبر نفسي من المحظوظين جداً إذ التقيت الكثير من المشاهير بحياتي. اليكم قصصي ساسردها باختصار:
في عام 1964 حينها كان عمري 10 سنوات سافرت مع عائلتي في جولة لعدة دول وهي لبنان ومصر وبلجيكا وبريطانيا. وصلنا بيروت في المساء واختار لنا الوالد فندق فينيسيا لانه كان احد الفنادق التي تم بنائه حديثاً وكان واحداً من افخر الفنادق ذو الخمسة نجوم. في اليوم التالي من وصولنا اخذتنا الوالدة الى مقهى الفندق لتناول الشاي، وفيما نحن نتحدث بيننا مرت بنا سيدة بشوشة ملأت وجهها الابتسامة وقالت، هل انتم عراقيين؟ فاجابت والدتي بالايجاب فقالت لها بان دمها يغلي فرحاً عندما تسمع اللهجة العراقية. كلنا عرفناها على الفور طبعاً فهي المطربة عفيفة اسكندر(رحمها الله).
جلست معنا وصارت تحدثنا عن جمال بيروت وعن كثرة ترددها الى هذه العاصمة الجميلة لانها تجمع بين الشرق والغرب واهلها مثقفين ومهذبين ومظيافين للغاية. بقت جالسة معنا بعض الوقت وانا اتفحصها ملياً فوجدتها انسانة تشع جمالاً وحيوية وعلمت وقتها ان ما نشاهده على شاشة التلفاز يختلف تماماً عما نراه في الواقع. وبعد ان اكملت فنجان قهوتها ودعتنا وذهبت الى الخارج.
بعد يومين من الاقامة ببيروت توجهنا بالطائرة الى القاهرة ولكن بعدما وصلنا الى فندق الهلتون اصبنا بخيبة امل لان فندق الهلتون كان محجوزاً باكمله للرؤساء العرب واعضاء وفودهم وذلك بمناسبة حظور مؤتمر القمة العربي باستظافة المرحوم جمال عبد الناصر. لذا توجهنا الى فندق مجاور للهلتون ومطل على ميدان التحرير يدعى فندق كليوباترا.
في اليوم التالي التقى والدي باحد اصدقائه الحميمين من العراقيين وهو ظابط قديم بالجيش العراقي من نفس دورته وقد كان يسكن بالقاهرة بشكل دائم منذ امد طويل وهو المرحوم العقيد صبيح الجنابي (رحمه الله). هذا الرجل دعى والدي باليوم التالي الى وليمة عشاء بفندق فاخر بالقاهرة. وفي اليوم التالي ذهبنا جميعاً ولبينا الدعوة وعلمنا ان المطعم بالدور الخامس عشر من الفندق، فاستقلينا المصعد الكهربائي الى الدور الخامس عشر كان المنظر خلاباً من هذا الارتفاع وكانت القاهرة تضوي كاللؤلؤة وشاهدنا طاولات فخمة ومستوى عالي جداً من الحرفية والجمال والترتيب والاناقة. جلسنا جميعاً على طاولة كبيرة اعدت لنا خصيصاً. وبعد الانتهاء من الطعام دخل والدي مع زميله بنقاش سياسي عميق فطلبتُ من والدي الاذن للهبوط الى الطابق الارضي لانني مللت الجلوس وحدي مع الكبار. لكنه رفض طبعاً، خوفاً علي من الضياع الا ان المرحوم صبيح الجنابي اقنع والدي بان الفندق امين جداً وليس هناك داعي للخوف. فمنحني والدي الاذن بالهبوط وطلب مني ان لا اخرج خارج الفندق. دخلت المصعد وكبست الزر الارضي ..
وبعد ان ابتدأ المصعد بالهبوط توقف فجأة باحدى الطوابق واذا بالمرحوم الممثل عماد حمدي يستقل المصعد نظرت اليه وحييته بخجل وقلت له هل انت عماد حمدي؟ فابتسم وحملني الى مستوى وجهه وقال لي، نعم انا هو عماد حمدي وما اسمك؟ قلت، انا احمد جهاد فخري، عراقي وسني 10 سنوات. ضحك ضحكة طويلة وقبلني وقال والله ضننتك مصرياً قلت له انا افتخر لو كنت مصرياً فانا احب جمال عبد الناصر فقبلني مرة ثانية وهو يضحك ثم اخرج من جيبه قطعة حلوى فدسها بيدي وقال، سلملي على ابوك وقل له انه انجب بطلاً. شكرته وودعته عند وصول المصعد الى بهو الفندق في الطابق الارضي. وفيما بعد عندما عدت الى حيث كانت تجلس عائلتي بالطابق الخامس عشر لم يصدقني احد بخصوص عماد حمدي (ربما لان عندي سوابق).
بعد بضع شهور من هذه الجولة اي مازلنا في عام 1964 وعندما كنا بالدار ضرب جرس الباب فهرعت لفتحه واذا باحد المشاهير امامي لقد كان المرحوم طاهر يحيى رئيس وزراء العراق ورئيس اركان الجيش في ذلك الحين. رحبت به وادخلته صالة الاستقبال ثم حضر والدي وامرني بالمغادرة فحييت طاهر يحيى وغادرت الصالة. طلبت من والدتي ان تسلمني صينية الشاي كي اقدمها لضيفنا الكريم. وحالما دخلت صالة الضيوف وقف طاهر يحيى وتوجه نحوي واستلم مني صينية الشاي خوفاً علي وتواضعاً شديداً منه. حييتهما ثانية وتركتهما يتحدثان فيما بينهما وخرجت وانا في اتم السعادة لاني شفت هذا الرجل العظيم مرتين بخلال يوم واحد.
الثاني من اليسار هو العميد المهندس جهاد فخري قبل سقوط طائتهم بساعات
بعد سنة تماماً اي عام 1966 واثر وفات والدي بحادث طائرة الهلكوبتر مع الرئيس عبد السلام عارف رحمه الله وبينما كنا نستقبل المعزين بدارنا حضر المرحوم عبد الرحمن البزاز رئيس وزراء العراق.
وكنت انا واقفاً مع اخي الكبير المرحوم سمير نستقبل المعزين، وعندما وصل الى عندي مددت يدي لمصافحته الا انه اخذني بالاحضان وصار يبكي بكاءاً مريراً وقال لي، البقاء بحياتك يا ولدي يا حبيبي. وسحبني واجلسني بجانبه وصار يتحدث معي وكأني رجل بالغ. افرحني ذلك كثيراً وشعرت باني اصبحت شخصاً ذا قيمة وطلب مني ان اتفوق بدراستي كي يفخر بي والدي وهو في القبر وقال لي باني يجب ان اكون شخصاً ناجحاً كما كان والدي. اذكر انه سألني عن ماذا اريد ان اصبح بالمستقبل؟ فقلت له طيار فعاد وسألني عسكري؟ قلت، بل مدني، فقبلني ثانية وذهبت الى الداخل كي اقوم بدوري في تقديم القهوة المُرّة للمعزين.
في عام 1972 وبينما كنت طالباُ بلندن سمعت ان الاتحاد الوطني قد نظم حفلة للطلبة العراقيين المقامة في مكتبة كنزنغتون والتي يحييها 3 من مطربي العراق المشاهير وهم فاضل عواد وحسين نعمة وسعدون جابر. عملت مجهود كبيراً كي احصل على تذكرة لهذا الحفل بحكم اني لم اكن منتمياً للاتحاد الوطني. وبالفعل حصلت على تذكرة بعد شق الانفس بمساعدة احد الاصدقاء وذهبت هناك وكانت حفلة من احلى الليالي إذ اختلط فيها النغم العراقي الاصيل والاصوات الشجية المطعمة برائحة الوطن الذي صرنا محرومون منه بحكم الغربة. بعد انتهاء الحفلة وبما اني كنت بمنطقة كنزنغتون قررت الذهاب الى المطعم العراقي المدعو (علي بابا) لانني كنت احس بجوع قاتل. وهناك اخذت زاوية مظلمة وجلست اتناول طعامي الذي طلبته. وبينما انا اكل سمعت اصوات اعلى من المعتاد لمجموعة كبيرة من الزبائن الذين دخلوا الى المطعم للتو.
نظرت ملياً وإذا بالمطرب فاضل عواد يدخل مع هذه المجموعة من المعجبين ويجلس بطاولة طويلة رصت كي تستوعب كل هذا العدد الذي كان مع هذا المطرب المشهور. وحالما جلس ونظر باتجاهي وجدني ابتسم فسألني، هل انت عراقي؟ فاجبته بالايجاب فقال، لماذا لا تأتي وتجلس معنا. ففعلت وانا مسرور جداً. انتقلت الى طاولتهم الكبيرة واستمرت الامسية بالنكات والاغاني والقصص الجميلة بين فاضل عواد وبين الجالسين على الطاولة. كان فاضل انساناً رقيقاً دمث الخلق والاخلاق وله سرعة بديهة لم ارى مثلها من قبل. كان لديه جاذبية رائعة ولم يبخل علينا باي اغنية ارتجالية بالرغم من ان فرقته الموسيقية لم تكن معه. وعندما انتهينا من الطعام وقفنا كي نغادر المطعم فتقربت من فاضل وسألته، هل قمت بجولة حول لندن؟ فاجاب كلا ولا يعتقد بانه سيتمكن من ذلك لانه سيغادر لندن بعد يومين او ثلاثة عائداً الى بغداد. قلت له وما هو برنامجك غداً؟ قال لا اعلم. قلت، انا ادعوك الى جولة حول لندن بسيارة صديقي فماذا تقول. قال، اقول لك باني جداً ممنون لك. اتفقنا على ساعة معينة اخبرته باني ساخذه من الفندق باليوم التالي. وباليوم التالي دخلت الفندق الذي ينزل فيه فاضل عواد واذا به واقفاً بقاعة الاستقبال. رحب بي ترحيباً حاراً وقال تعال يا احمد اعرفك على حسين نعمة. دخلنا غرفة فاضل عواد واستدعى بالهاتف حسين نعمة. بعد قليل دخل حسين نعمة فقدمه لي فاضل عواد فرحب بي حسين ترحيباً حاراً لكنه اعتذر عن المجيء معنا في جولتنا لان لديه التزامات اخرى.
خرجت مع فاضل وزرنا قصر ملكة بريطانيا بكنغهام بالاس ثم ساحة الطرف الاغر ثم قصر البرلمان وساعة بك بن ثم تمشينا على ضفاف نهر التايمز قليلاً ثم واصلنا الجولة بالسيارة حتى وصلنا الى متحف الشمع ثم عدنا الى الفندق وودعته هناك. وبعد هذا اللقاء، قابلته في بغداد عدة مرات عندما كنت ازور الاهل باجازاتي السنوية. المرة الاولى كانت في عرس لاحد الاقارب بمنطقة المنصور. اخبروني بان فاضل عواد في طريقه الى الحفلة. فابتسمت وقلت يا ترى هل سيتذكرني؟
وعندما دخل وجلس بين الفرقة الموسيقية ذهبت اليه من الخلف وطبطبت على كتفه وقلت، مرحباً بك يا ابو العباس فاجاب بتلقائية شكراً، لكنه عندما استدار رأسه الى عندي اندهش ووقف وقال احمد! ابن لندن! فاخذته بالاحضان وقال لي اامرني احمد ماذا تريد ان تسمع؟ قلت له "ارد انشد الصوبين كرخ ورصافة" لكنه اعتذر وقال بان هذه الاغنية تحتاج الى اورغ وليس معه عازف للاورغ وقال اطلب غيرها. قلت له ما رأيك باغنية (حاسبينك) فقال تتدلل ابو شهاب. قام باداء الاغنية وهو ينظر باتجاهي اغلب الوقت وانا اشعر بسعادة لاتضاهى. وبعد هذه الحفلة التقيته في حفلات اخرى في سفرات اخرى قمت بها الى بغداد اثناء فترة دراستي. وكنا كل مرة نتحدث فيها ونتذكر جولتنا في لندن ويسألني عن بعض الاشخاص الذين قابلناهم هناك.
في عام 1975 وبمناسبة نجاحي من مرحلة الى اخرى بالدراسة دعيت صديقين لي وهما ضياء كتو ورامز جمعةوذهبنا الى مطعم يدعى كورفو تافيرنا اليوناني بمنطقة قريبة من كوينز واي بلندن. كان الجلوس في الطابق السفلي تحت الارض.
بعد ان استقرينا نحن الثلاثة على طاولة وبدأنا نتجاذب اطراف الحديث وإذا بصديقي ضياء يقول انظروا هناك، اليست هذه الممثلة نجلاء فتحي؟ نظرت من فوق كتفي وإذا بنجلاء تجلس كالاميرة وتبتسم ابتسامتها الساحرة. كانت قد حضرت مع رجلين يبدو انهما كانا خليجيين. قلت لزميليَّ يجب علي ان ارقص معها. فضحك علي صاحباية وقالا وكيف ذلك؟ اولاً المطعم صغير وليس فيه مكان للرقص وثانياً من قال لك انها ستوافق ان ترقص معك؟ فقلت لهم انتضرا.
رفعت كأس العصير الذي كنت اشربه وبصوت عال قلت:
(بصحة دمي ودموعي وابتسامتي) وكانت هذه الكلمات المفتاح السحري لجلب انتباهها لان ذلك كان عنوان آخر افلامها في ذلك الوقت فالتفتت الي ورفعت كأسها وقالت لي (بصحتك). هنا توجهت الى عازف البوزوق اليوناني الذي كان يعزف منفرداً الحان يونانية وقلت له بالله عليك الا تعرف اي لحن عربي؟ فقال بصراحة لا اعرف الالحان العربية سوى اغنية (يا مصطفى يا مصطفى) قلت إذاً ارجوك اعزفها فقال حسناً. وحالما ابتدأ بالعزف توجهت نحوها واستدعيتها كي تشاركني الرقص فلم تتردد نهائياً وقفت نجلاء وشدت ربطة على خصرها وتوجهت نحوي وصرنا نرقص الرقص الشرقي وتميل بكتفها وتضعه على صدري وانا في قمة السعادة فقد شعرت ان قلبي سيتقف من شدة الفرح. اشرت الى صاحباي كي يأخذا لنا صورة تذكارية الا انهما لم يكونا يحملان آلة تصوير. وبعد الانتهاء من الرقص شكرتها بحرارة واصطحبتها الى طاولتها وبقت تلك الرقصة في ذاكرتي طوال حياتي.
في عام 1977 وبعد فترة قصيرة من اقتراني بزوجتي سمعنا ان المرحومة ناهدة الرماح قد جائت الى لندن في رحلة علاج لبصرها. فقمت باتصالاتي مع الاخوان هناك وعلمت انها تسكن في شقة صغيرة مؤجرة بالقرب من السفارة العراقية. فقمنا بزيارتها انا وزوجتي وقد رحبت بنا ترحيباً حاراً وطلبتُ منها ان تقبل دعوتي للغداء ثم يتبعها جولة حول لندن فيما بعد فوافقت. وباليوم التالي التقيناها في بيتها وانطلقنا الى مطعم فاخر بمنطقة كوينزواي وبعد ان تناولنا وجبة الغداء باحد المطاعم الصينية اصطحبناها الى الهايدبارك حديقة لندن الشهيرة ثم اخذناها بجولة اخرى حتى خيم الليل فعدنا بها الى دارها. وبعد ذلك صارت تتصل بنا ونلبي دعواتها لانها ارتاحت لنا كثيراً وبقينا نلتقي بها كل يوم تقريباً حتى جاء موعد عودتها لبغداد فودعناها بحرارة وكانت الدموع سيدة الموقف.
في عام 1978 وفي العطلة الصيفية قررت ان اعمل باحدى الشركات السياحية. كانت طريقة العمل هي ان يزودوني بعنوان اذهب اليه وانقل الركاب بجولة الى منطقة سياحية. احدى هذه المهام كانت لعائلة مصرية جائت الى لندن لغرض السياحة وتسكن في منطقة بالقرب من شارع بورتابيلورود بلندن. ذهبت بالصباح الباكر وضغطت على جرس الباب فاخبروني من خلال المذياع بانهم في طريقهم الي. انتضرتهم بداخل السيارة ما يقرب من ربع ساعة وبعدها خرج رجل بدين وسيدتان وطفلة. جلس السيد بجانبي والباقي جلسن بالخلف. اردت التأكد منهم فسألتهم، انتم تريدون الذهاب الى مدينة ماركيت اليس كذلك؟ فاجابني الرجل لا احنا عايزين نروح طنطا. فابتسمت بوجهه ثم قال ايوا حبيبي احنا عايزين نروح للي انته قلتها دي. هنا نظرت بوجهه ملياً فوجدت اني اعرف ذلك الوجه لكني لم اكن اتذكر من! لكني لم اتمكن من حبس فضولي فقلت له. يا استاذ لا اعرف من اين اعرفك لكن وجهك مألوف لدي. فاجابت السيدة التي كانت تجلس بالخلف وقالت، يا خبرابيض! هو انت ماتعرفش جورج سيدهم؟ دا اشهر ممسل كوميدي عندنا بمصر. فاجبتها نعم، نعم تذكرت. انت كنت بفرقة ثلاثي اضواء المسرح اليس كذلك؟ فقال كنت زمـــان اما دلوقت فانا بامسل وحدي. ودي الولية مراتي واختها وبنتي فلانة (لا اذكر اسمها) رحبت بهم وابتدأت الرحلة. كان جورج رحمه الله من الطف الشخصيات التي قابلتها بحياتي فهو صاحب نكتة وخفيف الظل وكان يغني طوال فترة الرحلة (ساعتان). وعندما وصلنا هناك قال لي اريد ان تأخذنا الى مدينة الملاهي. فاخذتهم اليها وقالوا سنبقى هنا طويلاً بامكانك ان تتركنا وتعود فتأخذنا بعد اربع ساعات. فوافقت. ذهبت الى كافتيريا لتناول قدح من الشاي ثم بعد ذلك تناولت وجبة الغداء ثم اقتنيت لنفسي جريدة وصرت اقرأ ما فيها وبعد وقت طويل نظرت الى ساعتي فوجدت ان المهلة قد قربت من الانتهاء. رجعت الى مدينة الملاهي فوجدت جورج يتمرجح باحدى المراجيح. وعندما لاحظت ابنته ذات ال 10 سنوات بمجيئي نادت على والدها والباقين كي يتأهبوا للرحيل. الكل لبى النداء ما عدى جورج. بقي يقول لسة مركبتش بدي ولا بدي ولا بدي. وصارت الطفلة تؤنبه وتلح عليه حتى بالآخر خضع لالحاحها ورجع معنا للسيارة. وطوال رحلة العودة كان يغني ويعمل حركات مضحكة فقد كان حقاً انساناً خفيف الضل رائعاً.
في عام 1991 وبعد ان استقر بي الامر مع عائلتي بتونس علمت ان السفارة العراقية قد اقامت حفلة بمناسبة ثورة 17 تموز وكان لزاماً علي حضور ذلك الحفل لان عدد العراقيين كان يعد بالاصابع وعندما يتغيب شخص فانه سيظهر كالاصبع الوارم. كان الحفل مقاماً في فندق بقلب العاصمة تونس وكان ذلك في ايام السفير العراقي السيد حامد علوان الجبوري. لم اسطحب عائلتي لذلك الحفل لانني لم اكن انوي ان امكث بالحفلة طويلاً اي مجرد اثبات حظور.
في الحفل تمشيت هنا وهناك ولم اتعرف على اي احد من المدعوين لكنني شاهدت وجهاً مألوفاً لدي. وعندما مشيت باتجاه ذلك الشخص صاحب الوجه تبين لي انه الاستاذ المطرب لطفي بشناق الذي طالما استمتعت باغانيه الرائعة لانه يملك لوناً مختلفاً عن باقي المطربين بالاضافة الى انه يمتلك صوتاً متميزاً فيه قوة وشموخ. واصلت سيري نحوه وعندما بلغته مددت له يدي وقلت.
- السلام عليكم استاذ لطفي. انا احمد فخري من العراق.
- يا ميت اهلاً وسهلاً بالعراقي من ارض الابطال. هل انت تعمل بالسفارة العراقية؟
- كلا، انا املك شركة استشارية بالكومبيوتر.
- يعني حضرتك Informaticien ؟
- هذا صحيح. انا مهندس كومبيوتر وقد وصلت تونس منذ امد قريب.
- يا اخي انا اتشرف بك وبكل العراقيين.
وبعد حديث دام اكثر من نصف ساعة سألني، هل سبق لك وتعرفت على جلول الجلاصي؟
- ومن هذا جلول الجلاصي؟
- يا سيدي هذا فنان رائع ولديه مواهب كثيرة فهو يعزف على الناي والعود وبعض من الالات الموسيقية الاخرى ولديه صوت رائع في الغناء والاكثر من هذا وذاك فلديه القابلية على تقليد الاصوات لكثير من المشاهير.
- لقد شوقتني كي اتعرف عليه. الرجاء عرفني به.
- تعال معي انه يقف هناك. يا استاذ جلول اقدم لك الاخ المهندس احمد من العراق وقد جاء الى بلادنا ولديه شركة اعلامية.
- اهلا وسهلاً بيك سي احمد انست تونس وشرفتها. وهل تنوي ان تبقى بتونس مدى الحياة؟
- إن هذا يشرفني فان تونس هي بلدي الثاني.
- بل هي بلدك الاول.
تحدثنا طويلاً نحن الثلاثة وكان نقاشنا شيق للغاية. بعد هذه المقابلة اي بعد عدة اسابيع التقيت الفنان جلول الجلاصي عدة مرات في شارع الحبيب بورقيبة حيث كان يجلس في مقهاه المفضل وكان دائماً يستدعيني كي اجلس معه ونتحدث قليلاً. وقد وجدت فيه الانسان الرقيق المهذب والمثقف لابعد الحدود فقد كان يحمل دماغاً مليء بالمعلومات. ولا يمكن ان انسى كم اسعدني في تقليد الاصوات ومنهم صوت صدام حسين والملك حسين وجمال عبد الناصر رحمهم الله.
في عام 1994 سمعت ان الاستاذ نصير شمة يسكن بتونس ولصغر الجالية العراقية هناك فان الكل يعرف الكل وكان من الطبيعي ان التقي الاستاذ نصير شمة بعدة مناسبات وشيئاً فشيئاً نشأت بيننا صداقة حميمة كللتها الزيارات المنزلية عندي وعنده. كان وقتها اعزباً ويسكن مع اخاه زهير شمة بمنطقة المنزه التاسع. وفي يوم من الايام سمعت انه سيقوم باحياء حفلة موسيقية في احدى الصالات الكبيرة بتونس فاخذت عائلتي وذهبنا الى الحفل. وعندما دخلنا الى الصالة كان نصير قد اعتلى خشبة المسرح مسبقاً وجلس على كرسيه حاملاً عوده زرياب. وحالما شاهدنا ندخل الى الصالة وقف من على كرسيه مع عوده وحيانا تحية خاصة بانحنائته المهذبه. كان ذلك قد غمرني باخلاقه النبيلة خصوصاً واني لم اتوقع منه ذلك، وصار جميع الحضور ينظرون الينا. بعدها استمرت علاقتي بنصير حتى غادر تونس متوجهاً الى القاهرة كي يستقر هناك ولم اسمع منه نهائياً حتى التقيته ثانية في مسرح بمدينة ابو ظبي عام 2008 وحالما شاهدته توجهت الى خشبة المسرح وحييته مع احد الاصدقاء فرحب بنا ترحيباً حاراً وواصل حفله الموسيقي.
بنفس الفترة الزمنية (التسعينات) وبتونس كذلك تعرفت على الممثل المتميز الاستاذ جواد الشكرجي وقد قامت بيننا زيارات عائلية وكان انساناً مهذباً يفخر المرئ بصداقته. الا انه لم يمكث بتونس طويلاً وقرر العودة مع زوجته ومولودهما الجديد الى بغداد، فقمنا بتوديعه.
في عام 1995 حضرت احتفال الذي اقامه السيد منذر المطلق سفير العراق بتونس آن ذاك بذكرى 8 شباط وهناك التقيت بالمرحوم فاضل الجمالي والذي كان وزيراً للمعارف ورئيساً للوزراء في العراق. وقد تعرفت عليه شخصياً واصبحنا اصدقاء بالرغم من فارق السن الذي بيننا. وبعدها صرت ازوره ببيته مع السيد السفير منذر المطلق باستمرار حتى وافته المنية عام 1996 وكنت ممن صلى علي جنازته وحضر دفنه. ملاحظة: لقد كتبت سلسلة مقالات مفصلة عن هذا الرجل العظيم.
وبنفس العام اقام السيد منذر المطلق السفير العراقي بتونس حفلة على شرف المطرب العراقي كاظم الساهر
فحضرتها وانا كلي شوق ان اشاهد ذلك المطرب المشهور الذي اخذ عقول الكبار قبل الصغار. وعندما وصلت الى القاعة التي اقيمت فيها وليمة الافطار بداخل بيت السفير في منطقة قرطاج بتونس كان الاستاذ كاظم لم يحضر بعد فانتضره الجميع بفارغ الصبر. وفي تمام الساعة السادسة وصل والتف حوله جميع الحضور. صار الكل يتكالب عليه كي يصافحه لذا آثرت ان ابقى في الخلف حتى تهدأ العاصفة. وبعد حوالي نصف ساعة استدعي الجميع لتناول وجبة الافطار لان ذلك كان في رمضان وقد كان كالمعتاد من اجود الاصناف واطيب الاطعمة واغلى المكونات. فقد كان للسيد السفير طباخة فلبينية ماهرة بقيت مع عائلته منذ عقود طويلة وهي انسانة جداً طيبة وحنونة على العائلة عموما وعلى ابنتهم الوحيدة نور خصوصاً. بعد ان اخذ كل من المدعوين نصيبه من الطعام حملت صحني وتوجهت نحو كاظم الساهر فحييته وجلست بجانبه مع بعض من المدعوين. اتضح لي انه انسان مهذب لابعد الحدود ومثقف لدرجة جداً عالية فهو يساهم باغلب المواضيع التي طرحت في المجلس. شاغلته بنقاش حول اغانيه فاتضح انه خبير ليس بالغناء فحسب بل بالنوطة الموسيقية والمقام وانواعه واصوله وعلمت منه انه يعزف على عدة آلات موسيقية منها البيانو. وبما ان البيانو كان موجودة في تلك الصالة لذا طلبنا منه ان يعزف لنا بعض الالحان فلبى لنا طلبنا بمقطوعة كلاسيكية من بحيرة البجع لجايكوفسكي. اعتقد اني كنت محظوظاً لاني حظيت باغلب الوقت مع كاظم واشتركت معه بعدة محادثات ونقاشات ممتعة. بآخر السهرة طلبت منه ان يتصور معي فوافق وكان ذلك شيء مهم بالنسبة لي ومدعاتاً للفخر.
1249 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع