ذاكرتي وطريف الحكايات ...مقدم الشرطة طالب السيد علي الخليلي
على أثر عدم توصل الحكومة العراقية والحركة الكردية الى اتفاق حول صيغة قانون الحكم الذاتي لمنطقة كردستان فقد تجددت الحرب بين الطرفين في الحادي عشر من اذار -١٩٧٤ وكان من تداعيات الوضع الجديد ومستجداته هروب معظم منتسبي مديريات قوى الأمن الداخلي من الضباط والمراتب في محافظات الحكم الذاتي الثلاثة ( أربيل , السليمانية , دهوك) والالتحاق الى جانب الحركة الكردية حيث بلغت نسبة الملتحقين 95% من مجموع ملاك المديريات المذكورة لذلك كانت الحركة توصف في احيان كثيرة بأنها ( ثورة الشرطة).
الحكومة العراقية ومن أجل تدارك النقص الحاصل في ملاكات المديريات أعلاه فقد اتجهت الى معالجة ذلك من خلال نقل الكثير من الضباط والمراتب من كافة مديريات قوى الأمن الداخلي من المحافظات العراقية الأخرى.
الرجل موضوع حكايتنا هذه المرة هو مقدم الشرطة (طالب السيد علي الخليلي) والذي شمله النقل ضمن قوائم التنقلات الى مديرية شرطة محافظة أربيل حيث جاء نقلاً إليها في نهاية عام 1974 ونسب مديراً لشرطة بلدة أربيل ( مركز أربيل) هو من محافظة الديوانية خريج اعدادية الشرطة ثم دورة الضباط العالية في كلية الشرطة حيث منح رتبة ملازم شرطة وتدرج في الرتب والمناصب في دوائر الشرطة في أنحاء مختلفة من محافظات العراق وآخر منصب تسلمه على ضوء معلوماتي هو مديراً لشرطة محافظة الديوانية.
كان المذكور رجلاً طويل القامة بديناً طريف السلوك وظريفاً وحلو المعشر وكانت علاقته بمدير شرطة المحافظة لواء الشرطة (جمال عبد الحميد الأتروشي) غير طبيعية ومتشنجة وعلى خلاف حيث كان الأول يستمد قوته من قوة نفوذه الحزبي والثاني يستمد قوته من قوة نفوذه الشخصي بالإضافة الى كونه نجل الشخصية المعروفة والوجية ( عبد الحميد الأتروشي) قاضي بغداد الأول في زمن حكم عبد الكريم قاسم.
لواء الشرطة جمال عبد الحميد الأتروشي
بالرغم من كونه كان برتبة مقدم ويشغل منصب مدير شرطة قسم وكنت برتبة ملازم أول إلا أن علاقتي به كانت علاقة صداقة متينة قائمة على الود والاحترام وخلال ملازمتي له طيلة الفترة التي عمل فيها في محافظة أربيل من عام 1974 ولغاية نهاية عام 1977 كانت لي معه حكايات طريفة كثيرة منها التالي:-
- الحكاية الأولى: في مساء أحد أيام شتاء عام 1974 وكنا جالسين مع هذا الرجل في مكتبه في الدائرة نمضي الوقت واقترح علينا أن نلعب معه لعبة الطاولة ( النرد) والخاسر يقوم بشراء كيلو غرام واحد من فاكهة البرتقال والتي كانت متوفرة في العراق فقط في هذا الفصل على عكس وقتنا الحالي حيث تتوفر معظم أنواع الفاكهة في كافة فصول السنة من الانتاج المحلي والمستورد.
كان مجموعنا نحن الضباط المتسامرين عشرة ضباط وتم تقسيمنا الى مجموعتين لخوض المنافسة والرابح يتجنب خسارة كيلو البرتقال , نادى المقدم ( طالب ) على مراسله الشرطي الواقف بباب الغرفة قائلاً له بعد أن ناوله مبلغاً من النقود : (( تعال يوسف روح جيبنا كيلو برتقال بس لازم تكون عشر برتقالات))
أجابه الشرطي يوسف : (( سيدي كيلو البرتقال شلون يصير عشر برتقالات))
أجابه المقدم طالب : (( أي ... أي شلون ما يصير لعد أنت ليش شرطي))
- الحكاية الثانية: كان المقدم ( طالب) مولعاً باقتناء أشرطة الأغاني ( كاسيت) للمطربين والمطربات القدامى وقد أوصى أحد النجارين بعمل صندوق خشبي من أجل حفظ هذه الاشرطة فيها والتي كان يربو عددها على مائة شريط
وكانت غالبيتها للمطرب العراقي قارئ المقامات ( محمد القبانجي) , وكان المذكور يردد دائماً بأن الاستحواذ على شريط مسجل أو سبحة أو كتاب من أي شخص لا تعتبر سرقة.
جئت لزيارته في أحد الأيام ودخلت مكتبه إلا أنه لم يكن موجوداً فيه فانتهزت الفرصة وتناولت عشرة أشرطة من أشرطة (القبانجي) من الصندوق الخشبي ووضعتها في جيبي وخرجت من الغرفة ومن الدائرة.
جئته بعد يومين وجلست عنده وبعد الترحيب خاطبني قائلاً: (( ملازم أول محي – تدري بايگين مني عشر أشرطة من خيرة الأشرطة اللي أحبها ))
فأجبته: (( سيدي بس أنت تگول أخذ الأشرطة والسبح والكتب لا تعتبر بوگه))
المقدم طالب: (( إي... إي آني گلت بس مو عشرة)) , أعدت له الأشرطة وبدت عليه علائم السرور والفرح وهو يضحك
- الحكاية الثالثة: نتيجة الوضع الأمني المتردي في مدن كردستان نتيجة الحرب ومن ضمنها مدينة أربيل مركز الحكم الذاتي فقد أصدر المقدم (طالب) أمراً لجميع مراكز الشرطة داخل مدينة أربيل بوجوب قيام مراتب الشرطة القائمين على حراسة هذه المراكز بطلب سر الليل من الأشخاص العازمين على مراجعتها بعد الساعة العاشرة ليلاً وكانت حركة المواطنين تنعدم تقريباً بعد الساعة المذكورة .
وكانت كلمة (سر الليل) توضع وتحدد صباح كل يوم من قبله شخصياً وتوزع بشكل سري على ضباط المراكز وكانت عقوبة المخالف أي الذي لا يطلب سر الليل من المراجع بعد الساعة المذكورة هي الحبس لمدة خمسة عشر يوماً.
في أحدى الليالي كانت الساعة تشير الى الحادية عشر ليلاً , كنت جالساً مع مفوض خفر مركز شرطة خانقاه المفوض ( كاظم شندل) في حديقة المركز الخارجية القريبة من باب المركز وإذا بسيارة المقدم (طالب) والتي كانت من نوع بوتتياك تقف أمام المركز ويترجل منها المذكور بصعوبة بسبب ضخامة جسمه وانخفاض بدن السيارة حيث كان يتخذ وضعا جانبياً ويخرج رجليه الاثنتين أول الأمر ومن ثم يسحب باقي أعضاء جسمه من داخل السيارة الى خارجها , تقدم باتجاه باب المركز وهو يدخن ( بايب) وإذا بالعريف (عبد الحسين ) حرس باب المركز يقذف بالبندقية التي في يده الى الأعلى ويمسكها متخذاً وضع التهيؤ وهو يصرخ بأعلى صوته (( قف ... سر الليل)) , كانت مفاجئة للمقدم ( طالب) حيث وقع في وضع لا يحسد عليه فبالرغم من كونه هو الذي وضع كلمة (سر الليل) في ذلك الصباح إلا إنه يبدو نسيانه للكلمة بسبب عنصر المفاجئة.
أجاب المقدم طالب : ((مديرك ))
أجابه الحارس : (( ماكو مديرك ... گول سر الليل لا تتحرك))
المقدم طالب : (( اشبيك أگلك مديرك ))
الحارس : (( أگلك ماكو مديرك تذكر سر الليل لو أطلق النار))
المقدم طالب: (( ولك وخر فوهة البندقية لتروح تكتلني))
كنت والمفوض (كاظم) غارقين في الضحك على هذا المشهد المثير ونهضنا ولدى مشاهدته لنا خاطبنا قائلاً : (( شبيكم تضحكون تعالوا وخروو ليروح يكتلني هذا المخبل))
اتجهنا صوب الحارس ونحن ندفع به بعيداً عن بابا المركز والمقدم (طالب) يصرخ : (( ذبو بالحبس خمسة عشر يوماً )) فما كان من الحارس إلا أن يلقي ببندقيته في الحديقة وهو يردد : (( يابا دروح ما تگول سر الليل خمسطعش يوم حبس .... تگول سر الليل هم خمسطعش يوم حبس))
- الحكاية الرابعة:عند بداية تجدد القتال في آذار 1974 التحق معظم أهالي المحافظة هم وعوائلهم بالحركة الكردية ومن مختلف شرائح المجتمع بالإضافة الى التحاق منتسبي قوى الأمن الداخلي كما ذكرنا سابقاً.
كان الكثير من الضباط الأكراد يترددون على المقدم (طالب) في مكتبه في الدائرة وخاصة في أوقات الليل للتسامر والتباحث معه في مختلف الأمور وإلى ساعة متأخرة بسبب الوضع الأمني في المدينة غير المستقر وكوننا كنا في حالة إنذار.
كان لمعظم الجالسين في مجلس المقدم من الضباط الأكراد أقارب من الملتحقين بالحركة الكردية (شقيقه , عمه , ابن عمه , خاله, ابن خاله .... وهكذا) . كانت الأحاديث التي تدور حول الوضع الأمني ونشاطات قوات البيشمركة وكان المقدم (طالب) عندما يتحدث عن الحركة الكردية ورجالها يوصفهم بمختلف النعوت ( المخربين , عملاء الاستعمار , عملاء إيران وإسرائيل ) وهي الكلمات التي كانت متداولة من الإعلام الحكومي , وكنا نحن الضباط ينظر أحدنا في وجه الآخر .
انتهت الحركة الكردية نتيجة اتفاق الرئيس العراقي (صدام حسين) وشاه إيران (محمد رضا بهلوي ) في الجزائر وتوقيع اتفاقية فيها في شهر آذار 1975 وكان القصد الأساسي من جانب الحكومة العراقية هو انهاء الحركة الكردية , ونتيجة لذلك بدأ المواطنون الأكراد بالعودة الى مدنهم ودورهم بعد اصدار الحكومة العراقية عفواً عاماً على العائدين (سمي بقانون العفو العام عن الأكراد العائدين ) وفي موضوع ذات صلة بما نتحدث عنه كان ضمن العائدين من إيران والمناطق الجبلية عريف شرطة من أهالي المحافظات الجنوبية أي أنه لم يكن كردياً وإنما من القومية العربية , فقد تم استثنائه من قانون العفو العام وسيق الى محكمة الشرطة الشمالية والتي حكمت عليه بالإعدام بتهمة الخيانة.
بعد فترة قصيرة من سريان قانون العفو العام وعودة الأكراد الملتحقين بالحركة الكردية تفاجأ المقدم (طالب) بأن أغلبيتنا كان له أقارب ضمن المنتمين لهذه الحركة وفي أحد الأيام وكنت جالساً عنده فدخل علينا المرحوم المقدم (خالد مولود طه ) وبصحبته الفنان الكردي (فؤاد أحمد) والذي كان بطلعة جميلة وبملابس في منتهى الشياكة ودار الحوار التالي:-
المقدم خالد مخاطباً المقدم طالب : (( أقدملك ابن عمي الفنان المعروف فؤاد أحمد))
المقدم طالب وبعد أن صافح الاثنين قائلا : (( زين مقدم خالد هذا ابن عمك وين جان اشو اني ما شايفه))
الفنان الكردي فؤاد أحمد
المقدم خالد: (( عيني أبو علي السيد فؤاد جان ويا الجماعة ( أي الحركة الكردية ))
وعندها هب المقدم طالب من مكانه واقفاً وهو يصرخ : (( إي ... إي همزين ما كتلتوني أشو طلعتوا كلكم مخربين , يبين بس ملازم أول محي الدين ماجان عنده أحد وياهم ))
المقدم خالد: (( يمعود يا ما عنده أحد عنده عشيرة وعلى رأسهم خاله ))
في نهاية هذه الحكاية والتي اخترتها من مجموع حكايات كثيرة لهذا الرجل والذي اتمنى له طول العمر إذا كان باقياً على قيد الحياة والرحمة والغفران اذا كان راحلاً عنا الى الدنيا الأبدية.
3152 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع